مصباح البرية المضيء‏,‏ أو الدير المضيء‏,‏ مكان الحكمة العالية والصلاة الدائمة‏,‏ هذا هو دير القديس أبومقار الواقع عند الكيلو‏92‏ علي طريق مصر ـ إسكندرية الصحراوي والذي يعيش فيه‏120‏ من أبرز رهبان مصر‏.‏
فكرة زيارة هذا الدير كان الهدف الأساسي منها بحث مدي إمكانية تحويله إلي مزار سياحي عالمي يحج إليه الناس من كل أنحاء العالم لزيارة قبر‏(‏ يوحنا المعمدان‏)‏ أو النبي‏(‏ يحيي‏)‏ الذي يحتل مكانة مرموقة لدي المسيحيين في كل أنحاء المعمورة‏,‏ ولكن بعد قضاء نهار كامل في الدير وجدنا أن زيارة هذا الدير سوف ترسم للمرء ملامح معادلة النجاح‏,‏ فعلي كل من يريد أن يعرف كيفية الخروج من أزمات البطالة‏,‏ والإحباط‏,‏ والخوف من المستقبل سيجد الحل هناك‏,‏ هنا يعبد الرهبان الله بالجهد والعرق والعمل والصلاة‏,‏ وكانت مكافأة الخالق لهم سخية فكل حبة عرق تسقط من جبين راهب علي رمل الصحراء تنبت زرعا أخضر وخيرا وفيرا‏.‏
حين وصلنا إلي الدير في العاشرة صباحا واجهتنا لافتة كبيرة تؤكد أن الزيارة ممنوعة إلا بإذن مسبق كما أنه غير مسموح بالزيارة في أيام الصوم ولكن الأبواب شرعت لنا بناء علي اتفاق مسبق مع القمص باسليوس والقمص يوحنا من قيادات الدير‏,‏ وبعد عبور البوابة قطعت السيارة حوالي عشرة كيلومترات للوصول إلي منطقة المزارات حيث توجد الكنائس والمنطقة الأثرية وقلالي الرهبان‏,‏ وفي استراحة فسيحة تتصدر جدرانها صور للرئيس مبارك والبابا شنودة والأنبا ميخائيل أقدم أسقف بين أساقفة الكنيسة المصرية‏,‏ استقبلنا الراهبان‏(‏ باسليوس‏)‏ و‏(‏يوحنا‏)‏ بوجه باسم وترحاب كبير وعندما طرحنا فكرة تبني حملة إعلامية واسعة لتحويل دير أبومقار إلي مزار سياحي عالمي يأتي إليه المسلمون والمسيحيون للتبرك برفات النبي يحيي أو يوحنا المعمدان كما يعرف لدي المسيحيين‏,‏ قالا لنا إن اسم الدير مكتوب علي خريطة السياحة المصرية ويأتي إلينا من ألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية ودول أخري عدد كبير من السياح‏,‏ ولكن بالنسبة لفكرة دعوة أشقائنا المسلمين لزيارة الدير والتبرك برفات النبي يحيي فقد طرحت في سنة‏1976,‏ وقت إعادة اكتشاف المقبرة والتيقن بموجب المخطوطات الأثرية أن الرفات التي في داخلها للنبي يحيي أو يوحنا المعمدان‏,‏ ولكن هذه الفكرة قوبلت بمشكلة فقهية إسلامية أثارت جدلا وبحثا لدي الأشقاءالمسلمين حول موضوع أجساد الأنبياء والقول بأنها لا تبلي‏,‏ ونحن من جانبنا في الدير نرحب بأي زيارة من المسلمين أو المسيحيين في الأوقات المسموحة‏.‏
تجدر الإشارة إلي أن الدكتور نبيل لوقا بباوي‏,‏ أستاذ القانون الجنائي‏,‏ قال لنا إن دعوته لتحويل الدير إلي مزار عالمي لكل السياح المسيحيين والمسلمين تنطلق من فكرة أن النبي يحيي أو يوحنا المعمدان من الأشخاص الذين اعترفت بهم الديانتان الإسلامية والمسيحية‏,‏ وهاتان الديانتان يؤمن بهما ما يقرب من‏4‏ مليارات نسمة أي أكثرمن ثلثي سكان العالم‏,‏ وبعيدا عن أي جدل ديني فإن وجود رفات هذا النبي في دير أبومقار يعتبر قيمة تاريخية في التراث الإنساني‏,‏ تستحق الاحتفاء بها‏,‏ وأعتقد أن قيمة النبي يحيي أو يوحنا المعمدان لا تقارن بشخصيات إنسانية سياسية مثل نابليون وستالين ولينين وجورج واشنطن الذين تحولت قبورهم إلي مزارات سياحية عالمية في بلادهم‏.‏

عندما سألت الراهب‏(‏ يوحنا‏)‏ عن حقيقة ما يتردد بين المسيحيين المصريين بأن دير أبومقار أغني أديرة مصر قال لي‏(‏ ضاحكا‏)‏ الصيت ولا الغني‏,‏ فربما جاء هذا الانطباع لأننا نهتم باستقبال الضيوف القليلين الذين يأتون إلينا فنحن لا نسمح بالرحلات التي تأتي للتسلية والنزهة للحفاظ علي حياة الهدوء والنسك التي جاء من أجلها الرهبان إلي الدير‏,‏ وربما جاء هذا الانطباع أيضا لأن مساحة الدير كبيرة‏(2700‏ فدان‏)‏ مزروع منها‏1500‏ فدان وباقي الأرض مطبلة أو مملحة لا تصلح للزراعة‏,‏ ونحن نهتم في زراعتنا ببعدين أولا أن تكون أنواع الزراعات صالحة للبيئة الصحراوية‏,‏ وثانيا أن تكون لها قيمة عند الفقراء فنحن نزرع الزيتون والبلح للتوزيع الداخلي ونزرع للتصدير تفاحا وموزا ومانجو وبطاطس‏.‏
ألححت في السؤال عن سر نجاح دير أبومقار في مشروعاته الزراعية وتربية المواشي والدواجن فيما يشبه الاقتصاد السري ولكن الإيجابي وجاءتني الإجابة في تواضع جم‏:‏ نحن نحرص علي أن يعمل الراهب لتحقيق هدفين الأول تطبيقا لقانون روحي واقتصادي‏(‏ من لا يعمل لا يأكل‏)‏ والثاني ديني أساسه أن من يعمل يحاربه شيطان واحد ومن لا يعمل تحاربه عشرات الشياطين وكما يقول الشاعر‏(‏ الشباب والرفاه والجدة‏...‏ مفسدة للمرء أي مفسدة‏)‏ وفي مشروعاتنا الزراعية أو في تربية الحيوانات نخوض مغامرة اقتصادية ونقوم بتجارب عديدة بحثا عن النجاح‏,‏ فالفدان الواحد تتكلف زراعته خمسة آلاف جنيه بخلاف استخراج مياه الآبار ونستعين بعمال من خارج الدير فرهبان الدير عددهم‏120‏ راهبا لا يستطيعون القيام بكل العمل داخل الدير‏,‏ ولكن الله يبارك العمل الجاد ومن النجاحات الزراعية التي تحسب لدير أبومقار دخول زراعة البنجر إلي مصر فقد استوردنا جذور البنجر من ألمانيا ونجحنا في زراعة بنجر السكر وبنجر العلف الحيواني حتي وصل حجم الواحدة إلي‏55‏ كيلو جراما والمفاجأة كانت في تناول الماشية لعلف البنجر بشهية كبيرة جدا وإعطائه مردودا كبيرا في كمية الألبان‏,‏ ونحن لدينا‏700‏ رأس بقر وجاموس وحوالي‏800‏ رأس أغنام‏.‏
 

بعيدا عن نجاح الدير الاقتصادي سألنا عن الأب متي المسكين‏,‏ رئيس الدير وحقيقة خلافه مع البابا شنودة الثالث وجذور هذا الخلاف‏,‏ فعرفنا أن إمكانية لقائه أو الحديث معه صعبة لأنه يعاني متاعب صحية كبيرة خاصة مع تقدمه في العمر‏(84‏ سنة‏)‏ وقال لنا الراهبان يوحنا وباسليوس إن البابا شنودة هو ابن روحي للأب متي المسكين‏,‏ ولا يوجد ما يدعو للخلاف بينهما‏,‏ والبابا شنودة زار الدير في سنة‏1996,‏ بمناسبة اليوبيل الفضي للدير‏,‏ وزار الأب متي المسكين‏,‏ وقت خضوعه للعلاج في أحد مستشفيات القاهرة ولكن هناك تصورا لدي البعض بأن هناك خلافا بين البابا شنودة والأب متي المسكين منذ أيام الرئيس الراحل السادات الذي كان يحب الأب متي المسكين ويستقبله من حين لآخر للبحث والتشاور في موضوعات مختلفة‏,‏ لذا اعتقد البعض في أشياء لا أساس لها من الصحة مثل وجود دور للأب متي المسكين في قرار السادات بالتحفظ علي البابا شنودة في سبتمبر‏1981,‏ رغم أن ما أعلن بخصوص هذا الموضوع يؤكد تدخل الأب متي المسكين لوقف صدور أية قرارات غاضبة من السادات تجاه البابا شنودة كرئيس ديني لكل المسيحيين في مصر وبلاد المهجر وكقيمة ورمز مصري له مكانته في كل العالم وقد رفض الأب‏(‏ متي المسكين‏)‏ وقتها الانضمام إلي أية لجنة لإدارة شئون الكنيسة وقت التحفظ علي البابا شنودة‏.‏

عند دخولك المنطقة الأثرية بدير أبومقار ونزولك علي السلالم الكبيرة للوصول إلي كنيسة الأنبا مقار ستعبر من تحت قوس أثري عظيم من الطوب الأحمر‏,‏ كان هو المدخل البحري القديم لكنيسة أنبا مقار فيما قبل القرن التاسع‏,‏ وداخل كنيسة أنبا مقار توجد ثلاثة هياكل أقصي اليسار هيكل النبي يحيي أو يوحنا المعمدان وتوجد بجواره رفاته أعلي صندوق بديع من خشب الأرز وتتصدر واجهة الصندوق لوحات منحوتة علي الخشب لوحة‏(‏ يوحنا‏)‏ المعمدان غاية في الروعة‏,‏ وفي الأرض هناك غطاء علي الكهف الذي عثر فيه علي الرفات يتم رفعه لمشاهدة الكهف الذي يلقي فيه الزوار بطلباتهم التي يتمنون أن يحققها لهم الله بشفاعة هذا النبي العظيم الذي ورد ذكره في الإنجيل والقرآن باعتباره قد ولد بمعجزة من أبيه زكريا الطاعن في السن وأمه اليصابات العاقر والطاعنة أيضا في السن وأنه كان في حياته رجلا بارا يشهد للحق ولا يخاف شيئا‏,‏ وبجوار قبر وهيكل يوحنا المعمدان هيكل أنبا مقار‏(‏ في الوسط‏)‏ وهو أثر مسيحي خالد يعود تاريخه إلي سنة‏360‏ ميلادية‏.‏
وفي أقصي اليمين توجد أجساد المقارات الثلاثة وهم الأنبا مقار المصري‏,‏ المدعو بالكبير‏,‏ والإسكندراني‏,‏ المدعو بالمدني‏,‏ وأنبا مقار‏,‏ أسقف‏(‏ أدقاو‏)‏ وهي مدينة بجوار محافظة أسيوط‏.‏
الكنيسة الثانية هي كنيسة التسعة والأربعين شهيدا شيوخ‏(‏ شيهات‏)‏ وهي كلمة قبطية توصف بها الصحراء ومعناها ميزان القلوب وهذه الكنيسة تحمل ذكري إيمان حي وشهادة بسفك الدم من أجل مجد الله‏,‏ ففي إحدي الغارات علي الدير هرب عدد كبير من الرهبان ولكن تسعة وأربعين من الرهبان القديسين تشجعوا بالإيمان وقهروا الخوف ورفضوا الهروب ووقفوا لتقديم الشهادة واستشهدوا وأصبحوا خالدين أما الذين هربوا فقد ماتوا هم أيضا جميعا ولكن لم يبق من سيرتهم شيء سوي أنهم لم يكونوا علي مستوي الشهادة‏.‏
الكنيسة الثالثة هي كنيسة الشهيد‏(‏ أبا سخيرون‏)‏ والكلمة معناها الأب القوي‏,‏ وهو شهيد قبطي تعذب من أجل الإيمان عذابات مريعة واستشهد في زمان اضطهاد الحاكم الروماني دقلديانوس‏,‏ وفي هذه الكنيسة قبة هي إحدي روائع الفن المعماري ومن أجمل الآثار في الدير‏,‏ وهي من الطراز المسمي بالقبة الرباعية‏.‏
ويجاور الكنائس الثلاث‏(‏ حصن‏)‏ وهو من أقدم الآثار المهمة الموجودة بالدير وأعظم وأضخم الحصون الموجودة بالأديرة القبطية ويرجع تاريخ بنائه إلي سنة‏482‏ م‏.‏
يبقي من أهم ما ضمه دير أبومقار مكتبته الزاخرة بنفائس الكتب والتي تضم أيضا أكبر مكتبة لحفظ ما تبقي من مخطوطات قبطية تسجل التراث الروحي واللاهوتي والطقس الذي كانت وماتزال عليه كنيسة مصر العريقة التي حفظت للمسيحية أصالتها حتي يومنا هذا‏*‏