أواخر الأيام وحياة الدهر الآتي |
|
|
«سنصير مثله»:
ماذا ستكون طبيعة إنسان القيامة العامة؟ لا يمكن لأحد أن يتكهَّن بالإجابة، وبالتالي لا يمكن أن يقطع بإجابات محددة. ولذلك فإن القديس يوحنا الرسول يوضِّح في رسالته الأولى (3: 2): «أيها الأحباء، الآن نحن أولاد الله»، هذا واقع معروف لنا الآن؛ ولكن عن طبيعة جسد القيامة يقول: «ولم يُظهَر بعد ماذا سنكون؟»، هذا ما يقطع به القديس يوحنا الرسول، لكن ما يؤكِّده في هذا الشأن هو: «ولكن نعلم أنه (المسيح) إذا أُظهِر (في مجيئه الثاني) نكون مثله، لأننا سنراه كما هو». وهو يُشجِّع المؤمنين أن يكون عندهم هذا الرجاء: «وكل مَن عنده هذا الرجاء به، يُطهِّر نفسه كما هو طاهر» (آية 3).
وحينما يقول القديس يوحنا الرسول: «ولكن نعلم»، فلا شكَّ أنه يُشير إلى تعليم للمسيح سبق أن سمعه يوحنا الرسول من فم المسيح نفسه: «نكون مثله، لأننا سنراه كما هو».
ومن جهة أخرى يُظهِر القديس بولس إيمانه بأنَّ المؤمن حينما يقوم من بين الأموات سوف يصير مثل الرب القائم من بين الأموات، كما ورد في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (الأصحاح 15، الآيات من 50-58)، وعلى الأخص قوله: «لأن هذا (الجسد) الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت»، أي أنه سيكون جسداً مثل جسد المسيح القائم من بين الأموات، غير خاضع لا لمرض ولا لموت.
+ الجسد القائم، جسدٌ مُمجَّد: فأنْ يكون الجسد الجديد أكثر مجداً من الجسد العتيق الذي عشنا فيه قبل الموت، فهذا واضحٌ من دعوة الإنجيل أن لا نحزن كالباقين (غير المؤمنين) على فقدان الجسد العتيق بالموت: «هكذا أيضاً قيامة الأموات: يُزرع في فساد ويُقام في عدم فساد. يُزرع في هوان ويُقام في مجد. يُزرع في ضعف ويُقام في قوة. يُزرع جسماً حيوانياً ويُقام جسماً روحانياً» (1كو 15: 42-44). لذلك: «لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم» (1تس 4: 13).
ولكن ليس معنى أن جسد القيامة سيكون ”جسداً روحانياً“ أنه سيصير جسداً إثيرياً أي لا يعود ”جسداً“ بعد. لا، بل إنه سوف يكون جسداً، ولكن مختلفاً عمَّا هو عليه الآن، وسيظل جسداً وبه قوة الحركة، ولكن بدون وظائف التناسُل التي للجسد الحيواني: «لأنهم في القيامة لا يُزوِّجون ولا يتزوَّجون، بل يكونون كملائكة الله في السماء» (مت 22: 30).
ولكن سيظل مفهوم ”الجسد الروحاني“ سرّاً مُغلَقاً على أفهامنا وتصوُّرنا الآن.
حقيقة طبيعة جسد قيامة المسيح:
إنه سرٌّ مُغلَق إلاَّ للإيمان بأن جسد المسيح القائم من بين الأموات، كان هو نفس الجسد الذي عاش به في حياته الأرضية قبل القيامة، باستثناء بعض التغييرات في إمكانيات هذا الجسد مثل: الدخول للأماكن والأبواب مغلقة، وتغيُّر الشكل الخارجي لوجهه، إلى آخر ما قرأناه في ظهورات المسيح بعد القيامة.
لذلك أتى القديس بولس الرسول بتساؤل البعض: «بأيِّ جسم (جسد) يأتون (يقومون)؟» (1كو 15: 35). أي ما هي صفات جسد القيامة؟ ويُظهِر جسد الرب القائم من بين الأموات نمط أجساد قيامتنا نحن. ولذلك يؤكِّد القديس بولس: «أما نحن فوطننا في السماء، ومنها ننتظر بشوقٍ مجيء مخلِّصنا الرب يسوع المسيح، فهو الذي يُبدِّل جسدنا الوضيع فيجعله على صورة جسده المجيد» (فيلبِّي 3: 21،20 – الترجمة العربية الحديثة – وهي أكثر وضوحاً).
وقد سمح الرب يسوع أن يجعل جسده موضعاً لاختبار الحواس: «جسُّوني وانظروا» (لو 24: 39). لكن كان لجسده المُمجَّد معالم ومظاهر مُدهشة: عدم الفساد، خفة وسرعة الحركة، البهاء واللمعان. حقّاً كان لجسده نفس السمات، إذ كان يمكن تمييزه – وإن كان بصعوبة – أنه الرب يسوع؛ إلاَّ أنه كان هناك بعض التغيير في شكله. كما أن الجسد تغيَّر من جسد أرضي يتحلَّل ويفسد إلى جسد مجيد، ولكن دون أن يفقد سماته الأصلية.
المواهب الجديدة للجسد المُمجَّد:
إن الجسد المُقام من بين الأموات مُمجَّداً، يتوشَّح بمواهب لابد أن تتوفَّر للحياة في مجد الحضور أمام الله القدوس. فرؤية الله سوف تنظرها عيون الجسد المُمجَّد (1يو 3: 2): «سنراه كما هو»، وكذلك في (1كو 13: 12): «ولكن حينئذ (سننظره) وجهاً لوجه».
إن الله قادرٌ أن يُغيِّر الجسد ليكون لائقاً بالروح المُمجَّدة. فالجسد المُقام من بين الأموات سوف يتمتع بالسعادة والكمال والجمال التي تعكس مشاركته المُفرحة في بهاء وكمال الله.
وأول موهبة سينالها الجسد المُمجَّد أنه لن يموت بعد، لأنه «يُقام في عدم فساد» (1كو 15: 42)، «والموت لا يكون فيما بعد» (رؤ 21: 4). والجسد المُقام سوف يكون له القدرة على إشعاع مجد الله، لأنه «يُقام في مجد» (1كو 15: 43).
+ أما النفس، ففي حالتها المُمجَّدة هذه سوف تنال امتيازاً أكثر وأعظم مما كانت عليه أثناء وجودها في الجسد الأرضي قبل السقوط، إذ سوف يكون لها فَهْمٌ بلا خطأ، نورٌ بلا ظلال، حكمةٌ بلا جهل، عقلٌ بلا غموض ولا إبهام، ذاكرةٌ بلا نسيان، إرادةٌ بلا ضلال، فرحٌ بلا حزن، ولذَّةٌ (روحانية) بلا ألم.
وإن كان آدم وحواء، وهما في حالة البراءة لم يكونا غير قادرَين على ألاَّ يُخطئا؛ إلاَّ أن البشرية الجديدة، وهي في حالة المجد، لن تكون مُعرَّضة لأن تُخطئ. هذه الاستنتاجات مستمدَّة من تصريحات الأسفار المقدسة عن قيامة الأجساد بالنسبة للمؤمنين، ومن أحداث حياة الرب القائم من بين الأموات.
ولكن ليس الأمر كذلك بالنسبة للأجساد المُقامة من بين غير الأبرار، فهؤلاء سوف يَحْيَون ولكن دون امتيازات هذا المجد والبهاء، وكمال الطاقات، وخفة وسرعة الحركة، والروحانية؛ بالإضافة إلى عدم استعلان حكمة الله لهم.
”هل يستحيل على الله شيء“؟
ما قاله ملاك الرب ردّاً على استنكار ”سارة“ امرأة إبراهيم لوعد الرب لها بأن يكون لها ابنٌ في شيخوختها: «هل يستحيل على الرب شيء؟» (تك 18: 14)، هو كلام شديد الاتصال بقيامة الأجساد. فالله قادرٌ على أن يُعيد ويُرجِع الوحدة والاتحاد للشخصية البشرية بعد انفصال النفس عن الجسد وتحلُّل الجسد؛ تماماً كما سبق أن خلق هذه الشخصية البشرية من العدم: [لقد خَلَقَنا الله من العدم، أفليس هو قادراً أن يُعيد الحياة لِمَا انهدم؟] (القديس كيرلس الأورشليمي)(1)
فما الذي يبدو غير قابل للتصديق للشخص العاقل أكثر من أنه من [نُطفة من البذرة البشرية يظهر شكل وهيئة من عظام وأعصاب ولحم، تتَّخذ شكلاً وهيئة بشرية تماماً مثلما نرى؟... ولكنك في البداية ما كنتَ تُصدِّق أنَّ ذلك ممكن... لكنك الآن تراهم أمامك. لذلك فلا تحكم بأنه من المستحيل أن أجساد البشر بعد أن تتحلَّل وكمثل البذور بعد أن تتفكَّك داخل الأرض تصير شجرة جميلة، فإنَّ الله في الزمن المُحدَّد يُقيمها ويُلْبسها عدم الفساد] (القديس يوستينوس الشهيد)(2).
[فما كان يبدو سابقاً مستحيلاً، يصير ممكناً مع الله] (العلاَّمة ترتليان)(3). [ونحن ننتظر أن نسترجع ثانية أجسادنا، بالرغم من أنها ماتت ودُفِنَتْ في الأرض، لأننا نؤمن بأنه مع الله لا يوجد شيءٌ ما مستحيلاً] (القديس يوستينوس الشهيد)(4).
وهل القيامة أصعب من إيماننا
بخلقة الله للخليقة الأولى؟
فإنه بالرغم من أن القيامة تفوق العقل إلاَّ أنها ليست مضادة للعقل، وهذا ليس أكثر من إيماننا بخلقة الله لهذه الخليقة كلها. فالقيامة هي ببساطة خِلقة جديدة. فإنْ كان ممكناً للإنسان أن يؤمن بأن هذا الكون قد خلقه الله وأَوْجَدَه بكل تعقيداته، «فلماذا يُعدُّ أمراً لا يُصدَّق إنْ أقام الله أمواتاً» (القديس بولس الرسول – أع 26: 8). فإن كان الله قادراً أن يخلق من العدم؛ أَفَلا يكون أمراً غير منطقي مقاومة علامات محبة الله الغالبة بإقامته الأجساد لمجرد أنها حادثة غير اعتيادية؟
ويقول أحد الكُتَّاب المسيحيين المدافعين عن الإيمان المسيحي في القرن الثاني (مينوسيوس فيلكس) بأنَّ الخلقة هي عمل مليء بالعجائب مثلها مثل القيامة، لأنه [أصعب جداً أن يخلق الله مما لم يكن موجوداً من قبل، من أن يُعيد وجود ما كان موجوداً من قبل ومات](5).
والقديس كيرلس أسقف أورشليم في القرن الرابع يقول بأننا في الواقع قائمون في القيامة لأننا ببساطة أحياء. أَولسنا أنفسنا مخلوقين من ”عناصر ضعيفة بسيطة وأخرى عديمة الشكل (أي النفس)“، ولكن تجمَّعت معاً لنصير نحن [نجَّارين نصنع سفناً، أو بنَّائين، أو مهندسين، أو صُنَّاعاً، أو مُشرِّعين واضعي قوانين! أفلا يمكن لله، الذي خلقنا من تراب الأرض، أن يُقيمنا من بعد أن صرنا في فساد؟ وأَلا يقدر الذي صنعنا جسداً من تراب وضيع، أن يُقيم ثانية هذا الجسد الذي سقط ميتاً؟](6)
القيامة هي حقيقة إيمانية:
”وننتظر قيامة الأموات“ (قانون الإيمان). القيامة هي ”حقيقة إيمانية بحت“، أي لا يمكن أن تُعرف إلاَّ بالاستعلان ما يفوق العقل الطبيعي. حينما بشَّر القديس بولس في أثينا عن قيامة الأموات، يُسجِّل سفر أعمال الرسل بأنَّ «البعض كانوا يستهزئون» (أع 17: 32). وحينما أعلن بولس الرسول القيامة أمام الوالي الروماني، اعتبر الوالي كلامه «أمراً لا يُصدَّق إن أقام الله أمواتاً» (أع 26: 8). وحتى تلاميذ المسيح لاقوا صعوبات تجاه إمكانية قيامة معلِّمهم بعد أن رأوه قد مات. فحينما واجهوا أول تقرير وخبر عن قيامة المسيح: «فتراءى كلامهُن (أي النسوة) لهم كالهذيان ولم يُصدِّقوهن» (لو 24: 11).
قيامة المسيح هي سبب قيامتنا نحن:
ويوضِّح الإنجيل أنَّ قيامة المسيح من الموت ستكون هي السبب في قيامتنا المنتظرة من بين الأموات (الرسالة الأولى إلى كورنثوس – الأصحاح 15 كله، وعلى الأخص): «الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين» (عدد 20)، «لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيُحيا الجميع» (عدد 11)؛ «عالمين أن الذي أقام الرب يسوع سيُقيمنا نحن أيضاً بيسوع» (2كو 4: 14).
حالة العمر والصحة في جسد القيامة:
القديسة ماكرينا في القرن الرابع تُحدِّد القيامة بأنها: [قيامة الإنسان إلى حالته الأولى الأصلية]، وبأنه: [لن يكون عمرٌ في الجسد المُقام](7).
ويوضِّح القديس أُغسطينوس بأنَّ: [الكل في السماء سوف يكون شباباً يافعاً، كما في ريعان الحياة، لأن هذه المرحلة هي قمة الكمال وكفاءة الجسد. فالذين يموتون وهم عميان، أو عُرْجٌ، أو مُشوَّهون، أو مشلولون؛ سوف يقومون ثانية ”بجسد كامل تماماً“](8). وكذلك العلاَّمة ترتليان(9).
كما يُحدِّد القديس بولس الرسول بأنَّ المؤمنين سوف يبلغون إلى قيامة المسيح، إذ هو يرجو ذلك لكل المؤمنين: «إلى أن ننتهي جميعنا إلى... إنسانٍ كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح» (أف 4: 13)، الذين دبَّر لهم الله أن يبلغوا: «إلى مثال صورة ابنه» (رو 8: 29 – عن الترجمة العربية الحديثة للكتاب المقدس).
هل شهوة الأَكْل والجنس
ستكون لائقة بجسد القيامة؟
كما عرفنا فإنَّ النفس سوف تعود لتتحد بجسدها الخاص بها. وسوف يبقى الاختلاف بين الجنسين، ولكن بلا شهوة ولا ممارسة الوظائف المتصلة بهما، كما قال المسيح: «لأنهم في القيامة لا يُزوِّجون ولا يتزوَّجون» (مت 22: 3). أما الهويَّة الجنسية لكل مؤمن في القيامة، فستبقى أساساً هي حقيقة هويَّته الشخصية، رجلاً كان أو امرأة، لأنه كما يقول القديس أُغسطينوس بأنَّ: [الله الذي خلقهما في جنسيهما المختلفَيْن، سوف يُرجعهما كما كانا](10). ولكن ستبقى المحبة في أقوى صورها التي هي جوهر غريزة التناسُل.
وقد كان القديس أُغسطينوس يُفنِّد الرأي السائد في بعض الأوساط في عصره، القائل بأنَّ النساء سيتحوَّلن إلى رجال.
والسبب في عدم احتياج جسد القيامة إلى الأَكْل والتناسُل، هو أن هاتين الوظيفتين كانتا ضروريتين للجسد المائت ليحفظانـه مـن الموت (بالطعام والشراب) ومن الانقراض (بالتناسُل).
أما في جسد القيامة فلن يكون هناك ما يُهدِّد الجسد المُمجَّد من الفساد ولا الهلاك والانقراض، لأن الحياة الأبدية هي ضد الموت. ولكننا نرى المسيح يأكل بعد القيامة، ولكن لم يكن ذلك عن ضرورة، ولا عن شهوة، ولا عن خوف من الموت؛ بل لكي يؤكِّد على حقيقة أن جسده هو نفس الجسد الذي كان يعيش به سابقاً.
(يتبع)
*******************************************************************
دير القديس أنبا مقار
بنك كريدي أجريكول مصر - فرع النيل هيلتون
*******************************************************************
(1) Catech. Lect. XVIII. 6; NPNF, 2nd Ser., Vol. VII, p. 135.
(2) First Apology 18; ANF, Vol. I, p. 169.
(3) Ag. Praxeas 10; ANF, Vol. III, p. 605.
(4) First Apology 18; ANF, Vol. I, p. 169.
(5) To Octavius 34.
(6) Catech. Lect. XVIII. 6; NPNF, 2nd Ser., Vol. VII, p. 134.
(7) Sister Macrina, On the Soul and the Resurrection; NPNF, 2nd Ser., Vol. IV, pp. 462-468.
(8) Enchiridion 85-91; NPNF, 1st Ser., Vol. III, pp. 264-65.
(9) On the Resurrection 57,58; ANF, Vol. III, p. 590.
(10) City of God XXII, 17; NPNF, 1st Ser., Vol. II, p. 496.