تأملات في شخص المسيح الحي
- 42 -



المسيح



عمل الخلاص الذي أتى المسيح ليُتمِّمه (10)

ثانياً: المسيح الكاهن الأعظم (3)

(كتكملة لِمَا أوضحناه عـن ذبيحـة المسيح: فنحن نموت، ليس كعقوبـة، ولا بمُعاناة الصليب مثل المسيح؛ بـل ونحن في انتصار على الموت بقيامة المسيح؛ ولكن بشرط أن نكون قد جاهدنا لنجحدَ الشهوات والأنانية وبُغْضة الآخرين).

+ ونُكمِل الحديث المُفرح عن موتنا كانتصار على الموت بسبب قيامة المسيح وانتصاره على الموت، ولأننا سبق أن جاهدنـا لنجحد ذواتنـا والشهوات التي فينا.

+ لذلك، كان لابد أن نتقدَّس بقوة قداسة جسد المسيح الـذي يُقدِّسنا، وهـو يجلس الآن عـن يمـين العظمة في الأعـالي. وبالتالي لابـد أن نُجاهد ضد شهوات الخطية التي فينا، حاملين في أجسادنـا سمات آلام المسيح، ورافضين للخطية: «أن تُقرِّبـوا أجسادكم ذبيحة حيَّة مقدَّسة مَرْضية عند الله، فهذه هي عبادتكم الروحيـة» (روميـة 12: 1 - ترجمـة الـروم الأرثوذكس بلبنان). وهـذا هـو كهنوتنا الشخصي لذبيحتنا الشخصية بسلطان كهنوت وذبيحة المسيح.

+ فكل إنسان مُطالَبٌ أن يُقدِّم نفسه ذبيحة لله كـل يوم، كما قـال بطرس الرسول: «وأما أنتم فجيـلٌ مختار، وكهنـوتٌ ملوكي، وأُمَّةٌ مُقدَّسة، وشعبٌ مُقْتَنَى، لتُخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نـوره العجيب... أن تبتعدوا عـن الشهوات الجسدية التي تُحارِب النفس» (1بط 2: 11،9 - ترجمة الروم الأرثوذكس بلبنان). وهذا هـو كهنوتنا الشخصي نحـن المؤمنين بالمسيح، وهـذه هي ذبيحتنا اليومية التي نُقدِّمها كل يوم: ”الابتعاد عـن الشهوات الجسديـة التي تُحارِب النفس“. فإنه بصيرورتنا ذبائح مقدَّسة هكذا، فسيُمكننا الدخـول إلى حضـرة الآب السماوي، وبالتالي الشركة معه، وذلك بسبب كوننا امتداداً لذبيحة المسيح المقدَّسة التي قدَّمها على الصليب، وبمحضِ مشيئتنا ومُشاركتنا في ذبيحة المسيح.

+ يقول القديس غريغوريوس النيصي، إنه كما أنَّ نفوسنا تتَّحد مع أجسادنا؛ هكذا قيامة المسيح قد امتدَّت إلى طبيعته البشريـة، وهكذا بالتالي امتدَّت بالضرورة إلينا جميعاً. وذلك لأن المسيح، كأقنوم إلهي، اتَّحـد مع طبيعته البشريـة التي تجسَّدها، فبالتالي صار على علاقة وشركة معنا نحن البشر. وبتقديمه نفسه على الصليب، صرنـا نحن البشر متَّحديـن فيه، كما في (الرسالة الثانية لبطرس الرسـول 2: 4): «وُهِبَتْ لنـا المواعيـد العُظمى الثمينة، لكي تصيروا شركـاءَ في الطبيعة الإلهية» (ترجمة الروم الأرثوذكس بلبنان).

+ أي أنَّ المسيح قد دخل معنا في شركة وثيقة جدّاً، بأقنومه الإلهي، من خلال اتِّحاده مع طبيعتنا البشرية التي تجسَّدها.

+ وهكذا بإعادة المسيح اتِّحاد نفسه البشرية مع جسده في قيامته في اليوم الثالث، شَمَلَ أيضاً إعادة الاتحاد في المستقبل بين النفس والجسد لكلِّ إنسانٍ بشريٍّ سيموت على إيمانـه بالمسيح القائم من بين الأموات.

+ يقول القديس غريغوريوس النيصي:

[لأنه، وهو متَّحدٌ بنفس هذه (الطبيعة) البشرية التي اتَّخذها لنفسه، فإنَّ نفسه البشرية بعد انفصالها عن جسده (بالموت)، فإنَّ إعادة اتِّحاد العنصرين معاً مرة أخرى في شخصه قد حدثت بنفس القوَّة على عموم الجنس البشري، كلِّ مَن يؤمن بقيامة المسيح من بين الأموات.

إذن، هذا هو سرُّ التدبير الإلهي من جهة موته ثم قيامته من الموت. فإنه بدلاً من مَنْعه هذا الانفصال بين جسده ونفسه بالموت، فقد سمح به، ليُعيد اتِّحاد كليهما بعضهما بالبعض في القيامة، لكي يصير بقيامته هـو القاعـدة المُبدعة لإعادة اتِّحاد العنصرَيْن مـن بعـد انفصالهما لكـلِّ مَـن يؤمـن ويترجَّى قيامة الأموات على مثال المسيح](1).

+ لقد سمح المسيح للطبيعة البشرية التي اتَّخذها لنفسه بانفصال النفس عن جسده، أي الموت؛ لكي هو نفسه يُرجِعها بقوَّته إلى الحياة الأبدية، حتى أنَّ كل مَن يموت وهو متَّحدٌ بالمسيح، أو وهو ”فيه“، سوف يقوم ليحيا إلى الأبد على نفس قياس ما حدث مع المسيح القائم من بين الأموات.

+ إنَّ الانتصار على الموت، باعتباره رجوع الإنسان إلى أصله وغايته من الخلقة الأولى، أي أنَّ إعادة اتِّحاد الإنسان مـع الحياة، هـو أعظم انتصار لشخص ابن الله المُتجسِّد.

+ ولكـن الإنسان بخضوعه للخطية، يصير مُهيَّأً أن يُعاني الموت للأبـد. ولكنه بشركته مع الآخريـن، وبإيمانـه بالمسيح القائـم مـن بين الأمـوات؛ سيكون له الفرصة لنوال قيامته مـن الموت على مثال قيامة المسيح.

+ إنَّ المسيح، بشخصـه الإلهي - البشـري، يستخدم الموت ليُكمِّل العلاقة بين الله والبشر، حتى استعاد الشركة الكاملة. فإنَّ شخص المسيح كما قهر في نفسه الموت الذي عاناه من أجل البشر؛ هكذا يَهَب الحياة الأبدية للبشر لكلِّ مَن يؤمن به.

+ الموت بدون الرجاء في القيامة، يأتي من خطيئة العُزلة عن الآخرين؛ والموت بدون قيامة، كمثل غرق الإنسان في بالوعة العُزلة عن محبة الآخرين.

+ أمَّا المسيح، وهو على الصليب، فسرعان ما أتت صرخته الأخيرة: «يـا أبتاه، في يديـك أستودِع روحي» (مت 27: 46؛ لو 23: 45).

+ لقد كان رجاء المسيح قويّاً في تغلُّبه على الموت، حتى ولو كان سيموت. ولأنـه الله الذي ظهر في الجسد، فقـد استطاع بموتـه أن يغلب الموت، كما يغلب النور الظلام. وهـذا ما جعله حتى اللحظة الأخيرة قادراً على التحكُّم في آلامه، واثقاً في القيامة من الموت.

+ وبهذا المعنى، يَعتَبِر القديس كيرلس البابا الإسكندري، أنَّ موت الرب كان نوعاً من ”الرقاد“ أو ”النوم“ [راجع وصف المسيح لموت لعازر: «لعازر حبيبنا قد نام، لكني أذهب لأوقظه... وكان يسوع يقول عن موته» (يو 11: 13،11)].

+ ويتكلَّم القديس كيرلس الإسكندري عن نبات ”اللُّفاح“ الذي وَرَدَ ذِكْره في سِفْر التكوين 30: 14، حيث يقول إنه ”يُشير إلى أنَّ موت الرب كان نوعاً من الرقاد. وهذا ما يجعل الموت للذين هم متَّحدون مع المسيح كالرقاد“. فيقول القديس كيرلس:

[(إنه) يُشير مـن خلال النبوَّة إلى سـرِّ المسيح الذي ”رقد“ بطريقةٍ ما من أجلنا... حيث الموت يُعتَبَر رُقاداً. لذلك فالإنسان ينتظر القيامة راجعاً إلى الحياة... لأن المسيح هو أول مَن أظهر لنا أنَّ الموت هو ”رُقاد“، لذلك صار الموت للطبيعة البشرية أنه هو الباب والطريق إلى الحياة الأبدية من بعد الموت. وهـذا هـو الذي جعل القديس بولس يُلقِّب الموت بأنـه ”رُقاد“، كأنَّ الأموات يرقدون (1كو 11: 30؛ 1تس 4: 15)](2).

+ لذلك نعود مرَّة أخرى إلى جَحْد التعليم الغربي الغريب عـن تعليم الكنيسـة القبطيـة الأرثوذكسية، والذي يقول إنَّ خلاصنا يتمُّ من خلال رَفْع ”العقوبة“ كترضية قانونية لكرامة الله التي أُهينت بخطيئة آدم غير المحدودة. وبهذا المفهوم، تُلخِّص هذه العقيدة الغريبة عمل المسيح الخلاصي بجملة: ”عند أقدام الصليب“، لكـن الخلاص نهايته ليس عند الصليب فحسب؛ بل وفي القيامة والصعود أيضاً.

+ لكـن الكنيسـة ليست مؤسَّسة قضائيـة قانونية، ولكنها نشأت من جسد المسيح، الذي بالرغم مـن أنـه تقدَّس على الصليب، إلاَّ أنَّ الكنيسة لن تمتلئ بكلِّ قوَّة وبمفهوم الخلاص إلاَّ ببلوغ القيامـة والصعود والجلوس عـن يمين العظمة في الأعالي.

+ الكنيسة إذا اعْتُبِرَت أنها تأسَّست ”عند أقدام الصليب“ فقط؛ أي، بحسب تعليم ”أَنْسِلْم“ (القرن الحادي عشر)، بعد أن تكون قد استوفت دَفْع تمام ثمن ”الترضية الإلهية“ لغضب الآب؛ فهي تكون كمثل كنيسة مُعتَبَرة أنها مجتمع أرضي قـد هَدَّأ ”الغضب الإلهي“ غير المحـدود على خطيئـة آدم غير المحدودة من خلال المسيح ”غير المحدود“.

+ لكـن الكنيسة جسـد المسيح هي مجتمع ”أُخروي“، أي تكتمل وتمتدُّ ابتداءً من الصليب إلى قيامة جسد المسيح من الموت، حيث يمتدُّ من قيامته إلى صعوده إلى السموات، وإلى جلوسه عن يمين العظمة في الأعالي؛ حاملاً البشرية في جسده القائم من بين الأموات والذي صعد إلى السموات، قائلاً للآب: «هـا أنـا والأولاد الذين أعطانيهم الله» (عب 2: 13).

+ إنَّ نظرية أن كل شيء قد انتهى من خلال سداد ثمن الخطية على الصليب فحسب، وليس من تأليه الجسد الذي اتَّخذه المسيح لنفسه ليكون مصدر تأليه البشرية المُخلَّصة؛ إنما يَعتَبِر القيامة كمُجرَّد تعويض مُنِحَ للمسيح لقبوله الموت على الصليب، وليس كطريقٍ ملوكي يُدعِّـم إجمالي عمـل الخـلاص المُتمثِّل، في النهاية، في تأليه جسد الإنسان، كـل مَـن يؤمن ويعتمد: «مَن آمن واعتمد خَلَصَ» (مر 16: 16).

+ ثم إنَّ اختصار عمل المسيح الفدائي في موت المسيح نيابةً عنَّا كبديل (مثل البديل في النظام الإقطاعي في أوروبا في القرون الوسطى)، توفَّرت فيه شروط مُراضاة غضب الله؛ تستهين بكلِّ أفعال الخلاص، وأوَّلها آلام المسيح وصَلْبه التي أتمَّها ابن الله المُتجسِّد، ابتداءً من تجسُّده إلى كرازته وتقديمه الشفاء للناس، ثم تقديمه نفسه ذبيحة من أجل خلاص جنس البشر، إلى آلامه وموته الذي فيه يكون الكل قد ماتوا لكي يقوموا معه، إلى صعوده ونحن فيه ومعه، ثم جلوسه عن يمين الله ونحن فيه ومعه؛ وأخيراً، بتأليه بشريتنا، كنعمة، لتحقيق الحياة الأبدية بكلِّ ما فيها من أمجاد السماء، حيث تبدأ الأرض الجديدة والبشرية الجديدة في خلقتها الجديدة.

+ وبحسب رسالة القديس بولس الرسول إلى كورنثوس: «وهذا كله من الله، الذي صالحنا مع نفسه بيسوع المسيح، وأعطانا خدمة المصالحة؛ لأن الله هـو الذي كان في المسيح مُصالِحاً العالم مـع نفسه، غير حاسبٍ عليهم زلاَّتهم، وأَوْدَعنا كلمـة المصالحة» (2كو 5: 19،18 - تـرجمة الروم الأرثوذكس بلبنان).

+ إنَّ التعليم عن الخلاص حسب ما ورد في الإنجيل، هـو وحده الذي يضع أساس خلاص المسيح للبشرية، الذي يستطيع الإنسان أن يقبله ويؤمن به باعتباره الشركة مع الله من خلال عمل المسيح الذي صـار إنسانـاً، وفي نفس الوقت الجالس عن يمين الله في الأعالي، ونحن فيه.

+ إنَّ دم المسيح هو للخلاص – لكلِّ مَن يؤمـن - وذلك بحسب رسالة العبرانيين وإنجيل يوحنا والرسالة الأولى ليوحنا؛ ليس هـو فقط الدم الذي سُفِكَ على خشبة الصليب، بـل أيضاً لأن شركتنا مـع الرب يسوع المسيح الحي هي التي توصِّل لنا الخلاص، لأنه هـو المصلوب الذي قام من الموت بشخصه، فهو الذي يحمل إلى الآن جراحاته التي مات بها (كما في رسالة العبرانيين) في خضوعه للآب، وهو ابن الله المُتجسِّد والذي قدَّم هـذه الجراحات أمام الآب السماوي في صعوده وجلوسه عن يمينه. إنه يحمل هذا الدم ”المُتجلِّي“ أمام قُدْس أقداس الله في السماء، والذي به يشفع من أجلنا على الدوام. وبهذا، فإنَّ كل مَن يؤمن بموت المسيح وقيامته من الموت وصعوده إلى السموات، فهو ينال الخلاص.

+ هذا هو مُلخَّص التعليم عن الخلاص الذي عرضناه في هذه المقالات الثلاثة عن المسيح، باعتباره الكاهن الأعظم، الذي قدَّم نفسه ذبيحة من أجلنا، هذه الذبيحة التي هي أساس شركتنا مع المسيح المصلوب القائم من بين الأموات والجالس عين يمين أبيه.

+ أمَّا التعبير عـن هذه الشركة، فهو يظهر بأجلى وضوح حينما نشترك في سرِّ الإفخارستيا المقدَّس، حيث يتَّحـد المسيح بجسده ودمه بنا، ويُحقِّق أيضاً شركتنا مع كلِّ المؤمنين بالمحبة.

(يتبع)

(1) Gregory of Nyssa, The Great Catechism, 489.
(2) Cyril of Alexandria, Glaphyrorum in Genesim, book 4 (PG 69: 220B).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis