الكنيسة هذا الشهر


استشهاد القديس إغناطيوس الأنطاكي
(24 كيهك / 2 يناير)

مقدِّمة:

إنَّ أقرب القدِّيسين إلى مَنْبَع الطهارة، ربنـا يسوع المسيح، هم أشد هياماً وأكثر ولعاً بمحبته، كمـا يتَّضح ذلك في آبائنـا الرسـل الأطهـار والسبعين رسولاً وبقية القدِّيسين الأوَّلين. ومـن زُمـرة أولئـك القدِّيسـين، القديس إغناطيـوس الأنطاكي تلميذ القديس يوحنا الحبيب، وهـو ثاني أسقف على أنطاكيـة، إذ كـان أيفوديوس هـو الأول(1). وقـد ظهرت فيه كل الفضائل التي تقتضيها درجة الأسقفية، وسُمِّيَ بـ ”النوراني“، لأنـه رأى الملائكـة النورانيين يُسبِّحون الله بين جوقتين، فرتَّب ذلك في صلوات وترتيل الكنيسة أُسوة بهم(2).

ولُقِّب إغناطيوس الأنطاكي بـ ”ثيئوفوروس“ (???????? Theophorus) أي ”حـامـل الإله“. وفي استشهاده سُمِّيَ ”حامـل المسيح في صدره“ أو ”المتوشِّح بالله“. ويذكُـر عنه المؤرِّخ نيكوفوروس: ”إنه كان هو الولد الذي حمله يسوع في حضنه وأقامـه في وسط الرسل، كما يذكـر الإنجيل بحسب القديس متى: «فدعا يسوع إليه ولداً، وأقامه في وسطهم» (مت 18: 2)“(3).

وقـد كتب القديس إغناطيوس سبع رسائـل تتضمن شروحـاً في العقيدة المسيحية، وكـذلك توجيهات في الحياة المسيحية العملية. وعن هذه الرسائل كَتَبَ المؤرِّخ يوسـابيوس القيصري في القرن الرابع، قائلاً:

[وفي أثناء رحلته في وسط آسيا، كـان يُشدِّد الكنائس في المدن المختلفة، حيث حطَّ رِحاله. وإذ وصل إلى أزمير (سميرنا) كَتَبَ رسالة إلى كنيسـة أفسس، ورسـالة أخـرى إلى مغنيسية الواقعـة على جبل ميانـدر. وكتب أخيراً رسالة إلى كنيسة تراليا، ثم كتب رسالة إلى رومية، يرجوهم فيها أن لا يَحُولوا بينه وبين الاستشهاد. وعندمـا غادر أزمير، كتب مـن ترواس إلى أهل فيلادلفيا، وإلى كنيسة أزمير (سميرنا)، وإلى بوليكاربوس الذي كان يرأس هذه الكنيسة الأخيرة.

فالرسائل المنسوبة إلى إغناطيوس تنقسم إلى قسمين: كَتَبَ أربع منها من أزمير، وهو في طريقه إلى روما، وهي رسـائل: أفسس ومغنيسية وتراليا ورومية؛ والثلاث الأخـرى من مكانٍ آخر] (يوسابيوس 3: 36).

استشهاده:

اقتيد القديس إغناطيوس إلى ”مرفـأ سلوكية“ على بُعْد ستة عشر ميلاً من أنطاكية، وهناك آثر الجنود السَّيْر في الطريـق الطويل بَدَل الطريق المباشـر إلى روميـة. لماذا؟ لا نعرف! ربمـا ليزرعوا الرعب في نفوس المؤمنين.

وكـتب في ذلـك الأستاذ خـريسوستمس بابادوبولوس ما فحواه:

[اشتكى عليه حاكم أنطاكية أنه مسيحي، فحَكَمَ عليه بالموت. ومـن غير المعلوم لماذا أُرسِلَ إلى رومية ليموت هناك! كانت مسيرته مـن أنطاكية إلى رومية مسيرة بطوليـة ومسيرة نصر. فـلا مشقَّة السَّيْر، ولا سـوء المعاملة التي كان يلقاها مـن مُرافقيه الجنود العشرة الذين وصفهم بالفهود المتقلِّبة اللون، والذين كان يقول عنهم: إنه إذا ما أحسن إليهم كانوا يُسيئون معاملته، وإنـه كان يتعلَّم الخير من ظُلمهم وشرهم؛ كـل هـذا لم يَفُتَّ من عزم الأسقف الشيخ القديس، ولم يُخْمِد نار إيمانه وثباتـه.

كـان مـن دواعي حُزنه فقط، أنه ترك كنيسة أنطاكية يتيمة. ولكنـه كـان يفرح ذاكـراً إيَّاهـا في شركة اتصال غير منقطع واهتمامات مـن أجل إيجاد الراعي المناسب. وكـان يرجو جميع الكنائس أن تذكُر كنيسة أنطاكية. وكـان يُعزِّي الكل، ويُعلِّم الجميع، جميع مَن كـان يُحيط بـه مـن ذلك العالم المسيحي الصغير يومئذ. وأمَّا هـو فقد كان همُّـه الـوحيد وشوقـه الأوحـد المـوت الاستشهادي (من أجل اسم المسيح).

ولدى وصوله إلى رومية في شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام 107م، كانت تُقام الأعياد والاحتفالات بمناسبة ذِكـرى حـرب الإمبراطور تراجان (98-117م). وفي تلك الأعياد مزَّق ألفان مـن المتصارعين بعضهم بعضاً من أجل إرضاء شعب رومية، وقُتِلَ أحد عشر ألفاً مـن الوحوش البريَّة بعد أن افترسـت عدداً مـن العبيد والمحكوم عليهم بالموت.

وفي 17 كانـون الأول (ديسمبر)، أُلقِيَ بين مَـن أُلقوا إلى الوحوش المحكوم عليهما مـع القديس بـالموت، مُرافقاه: زوسيموس وروفس. وبعد يومين أو ثلاثـة اقتيد القديس إغناطيوس، ولَقِيَ بفرح عظيم مـوت الشهادة مُمزَّقاً بأنياب الوحوش وأظفارها](4).

وفي أثناء ذلك، كان القديس يقول: ”اتركوني فريسة للوحـوش. إنها هي توصِّلني سريعاً إلى الله. أنا قمحٌ أُطحن تحت أنياب الوحوش لأُخبز خبزاً نقيّاً للمسيح... اضرعوا إلى المسيح حتى يجعل مـن الوحوش واسطة لأكون قربانـاً لله“ (رومية 4).

وقـد جمع المؤمنون مـن عظامه ما تيسَّر وعادوا بها إلى أنطاكية وأودعوهـا القبر. وفي زمـن الإمبراطور ثيئودوسيوس الثاني الصغير (408-450م)، جـرى نقلهـا إلى كنيسـة في أنطاكية المدينـة.

وفي عـام 637م، أيـام الإمـبراطـور البيزنطي هرقـل، أُخِـذَت رفـات القديس إلى رومية، بسبب سقوط أنطاكية في يد العرب. وقد استقرَّت في كنيسة القديس كليمندس هناك. وتُعيِّد له الكنيسة اللاتينية في الأول من شباط (فبراير)، كما تُعيِّد له الكنيسة اليونانيـة في العشرين مـن شهر شباط.

كمـا تحتفـل بذكـرى استشهـاده كنيسـتنا القبطية في 24 كيهك الموافق 2 يناير.

بركة صلاته تكون معنا، آمين.

(1) يوسابيوس، ”تاريخ الكنيسة“، 3: 22.
(2) المطران إسحق ساكا، ”السريان إيمان وحضارة“، الجزء الأول، مطرانية السريان الأرثوذكس، حلب، سوريا، 1983، ص 20.
(3) الأب بطرس فرمـاج اليسوعي، ”مروج الأخيار في تراجم الأبرار“، مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت، 1880م، تحت يوم 1 شباط (فبراير)، ص 96.
(4) خريسـوستمس بابـادوبولوس، ”تـاريخ كنيسـة أنطاكية“، تعريب الأسقف استفانس حداد، منشورات النور، لبنان، 1984، ص 59-61.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis