من تاريخ كنيستنا
- 154 -


الكنيسة القبطية في القرن التاسع عشر
البابا كيرلس الرابع
البطريرك العاشر بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1854 - 1861م)
- 3 -

«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

(تكملة) تزكية القمص داود الأنطوني لرسامته أسقفاً ورئيس أساقفة الكرسي الإسكندري:

ذَكَرَت التزكيـة أنـه ”البِكْر الطاهر القمص داود“، كما ذَكَرَت جهاده في سبيل رَفْـع رايـة العلم، كما أنـه رَفَعَ شـأن الكهنوت، والنهوض بالمرأة القبطية؛ وكذلك الوساطة بين حُكَّام مصر وحاكم الحبشة (إثيوبيا).

وهـذا كله دليلٌ حـاسم على أنَّ الراهب البسيط يستطيع أن يرتفع إلى مستوى المسئولية البابويـة، وهي مسئوليـة الرعايـة الروحيـة للمؤمنين، مـا دام مستنداً على الـروح القدس، وممتلئاً محبةً لشعبه، المحبة الروحانية التعليمية.

وتُسجِّل الأستاذة إيريس حبيب المصري قائلة: ”إنه ليس فريـداً... وأن الكنيسة طالما أَضْفَت عليهم (أي على البطاركـة) ألقابـاً تُعبِّر عـن عرفانها لمجهودهم. فليس الوَعْي الحقيقي للواجب نتيجة لحياته في العالم ولا اختباراته كأسقف أو مطران، بـل هـو يستمدُّ (الوعي) مـن مصدر النعمـة الـذي جعـل مـن صيَّـادي السـمك رجـالاً «فتنوا المسكونة»“(1).

بدء خدمة البابا كيرلس الرابع:

ومـا إن وجـد البابـا كيرلس الرابـع نفسه المسئول الأول عـن الشعب القبطي - من جهة حياته الروحية - حتى وجَّـه اهتمامه ”نحو نَشْر التعليم“، ولكنه شاء - في الوقت عينه - أن يُوثِّق الصلة بينه وبين أبنائه. وهكذا وَضَعَ نُصْب عينيه وجـوب افتتـاح معهد علمي يستضيء بنـوره الشباب. ولكي يجعل هـذا المعهد حقيقـة واقعة لها مكانـة في قلوب الشعب، نَشَرَ عليهم ”طرْس البركة“ الوارد نصَّه فيما يلي:

(+(+(

الرسالة الأولى للبابا كيرلس الرابع

+ ”البركة الكاملة والنعمة العاملة الشاملة إلى حضرات الأبناء ال‍مُباركين والأحبَّاء الطائعين: الأراخنة وال‍مُعلِّمين والشمامسة ال‍مُكرَّمين، وأرباب الصنايع المحترمين، وجميع الشعب ال‍مُحبِّ لله الدَّيِّنين الأرثوذكسيين؛ بارَك الله عليهم بكلِّ البركات السمائية الحالَّة على رُسُله وأنبيائه وصانعي وصاياه في كلِّ جيلٍ وحينٍ، بشفاعة الدائمة البتولية، ومار مرقس الكاروز بالديار المصرية، آمين.

وبعد تجديد البركات الروحانية عليهم، وإهداء مزيد من السلام الروحاني لديهم، نُعْلِمُهم أنه لَمَّا كان الأمر الواجب اكتشاف المعارف والفنون وقراءة الكُتُب المقدَّسة، ومعرفة قواعد الديانة، وإدراك معرفة الألسن (أي اللُّغات) المستعملة ببلاغة الألفاظ، وعذوبة البيان، كان ذلك من أهمِّ أَمرٍ، وأَوْجَب مهتمٍّ؛ إذ أنَّ به أولاً يحصل التمدُّن وانتظام حدود الإنسانية. وقد تصرَّح عن ذلك في الكُتُب المقدسة، نورد لكم بعضها على سبيل التَّذْكِرة، لأني أنـا أعلم أنكم ب‍ها خبيرون، وهـو مِمَّا جاء في الأصحاح السادس من سِفْر تثْنِية الاشتراع، قوله تعالى: «وليكُن هذا الكلام الذي أنا أُوصيك به اليوم في قلبك، وقُصَّه على بنيكَ، وتكلَّم به إذا جَلَسْتَ في بيتك. وإذا مشيتَ في الطريق، وإذا نِمْتَ، وإذا قُمْتَ، واعْقِده علامة على يديك، ويكون عصائب بين عينيك. واكْتُبْه على أَسْقِفَة بيتك، وعلى أبوابك».

وقوله، تعالى، ليشوع بـن نون هكذا، كما كُتب في بـدء سِفْره: «لا يبرحْ سِفْرُ هذه السُّنَّة (الشريعـة) عـن فِيك، لكن ادْرسْهُ الليل والنهار، لتحفظ وتعمل جميع ما كُتِبَ فيه. حينئذ تُفْلِح بطريقك وتتفطَّن ب‍ها» (يش 1: 8).

وجَمَع ذلك صاحب الترتيل بقوله في مزمور 118: «سراجٌ لرِجْلي كلامك ونورٌ لسبيلي». وقد أَعطَى التطويب للرجل الذي يتلو ناموس الرب ووصاياه ليلاً ون‍هاراً، وشبَّهَهُ بـ «الشجرة المغروسة على مجاري الأن‍هار».

وتأمَّلوا أيضاً وصية الرسول مـار بولس لتلميذه تيموثيئوس حين كَتَبَ لـه برسالته الثانية - فصل 3، هكذا يقول له: «فاثبتْ أنت على ما تعلَّمتَ وائتُمِنتَ به، فقد عَلِمتَ مِمَّن تعلَّمتَ، وأنك منذ صبائك تعلَّمتَ الأسفار المقدَّسة التي تقدر أن تُحكِّمك للخلاص بالإيمان الذي بيسوع المسيح. إنَّ كلَّ الكتاب أُوحيَ به مِن قِبَل الله مُفيد للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب بالبرِّ، لكي يكون رَجُل الله كاملاً ومستعدّاً لكلِّ عملٍ صالح».

فإذا فهمتُم هذه الأقاويل الإلهية، أَظنُّ أنكم تتشوَّقون إلى ما أنا شارِعٌ فيه لمنفعة أولاد الكنيسة باستنادي على قوله تعالى بإنجيله المقدَّس: «فتِّشوا الكُتُب فإنكم تظنُّون أن لكم فيها حياة الأبد، فهي تشهد من أجلي» (يو 5: 39). فإن كان كذلك، فلنواظبْ عليها بمداومة القراءة والدرس فيها، كما وقـد علَّمَ ذلك بولس الرسـول لتلميذه تيموثيئوس، كما جـاء برسالتـه الأولى - أصحاح 4، هكذا يقول له: «واظب على القراءة إلى حين قدومي وعلى الموعظة وعلى التعليم. وادْرُسْ هـذه الأشياء، وتشاغَلْ ب‍ها لكي يكون إقبالك ظاهراً لكلِّ أحد».

وعلى الجملة، فأقول: بما إنَّ هذا الأمر مُستَحبٌّ لديكم جدّاً، فحينئذ صار التَّسَارُع إليه واجباً، لتُماثلوا في انتظامه جميع طوائف المسيحيين الذين اتَّبعوا هـذه الأقوال السابق إيضاحها لبُنوَّتكم، فأنشأوا مدارسَ ومكاتبَ حاويـة معرفة الأَلْسُن ودقائق غوامضها، وربُّـوا أطفالهم بحُسْن التربية وأَدَّبوهم أحسن التأديب، حتى بلغوا وبَرَعوا، ليس في لُغات‍هم المولودين فيها فقط والخاصة ب‍هم، بل واكتسبوا الأَلسُن (اللُّغات) الغريبة أيضاً، التي لم تكن لهم عادة بمعرفتها، ولا كان يُظَنُّ فيهم النُّطْق بحرفٍ منها، عن كون‍هم بلغوا الغاية في المنطق والقراءة والكتابة، كما هو ظاهرٌ للعيان.

وعَدَا عن تعليم الأطفال، فإنَّ المنظور أن أرباب الأَلسُن واللغات الأعجميَّة قد برعوا في معرفة اللسان القبطي الذي لا حاجة لهم فيه، وكذا اللسان العربي نُطقاً وكتابةً وقراءةً، حتى أنَّ اللسان (الحديث) القبطي قد آل إلى نسيان معرفته بحيث انمحى رَسْمه وانْدَرَسَ (أي مُحِيَ) بالكُليَّة من أهله، وصار مجرد تسمية بلا فـاعلية، حتى أنَّ القراءة الضرورية ال‍مُستعمَلَة بالكنائس لا يعرف أحدٌ معناها ولا مفهوميتها، والذي يقرأ لا يفهم ما يقول. ولـولا أنَّ اللسان (اللغة) العربي قـد وُضِعَ في الكنائس تُرجماناً (أي مُتَرجِماً) له لأجل مساعدة المعرفة للشعب، لكان يتمُّ علينا قول الرسول: «إنَّ الذي لا يؤمن إذا دَخَلَ، أليس يقول إنكم قد جُننتُم، وكيف يُقال على بركتك آمين» (1كو 14: 23).

ويا ليت اللسان العربي الدارج بين عامة شعبنا كانوا ينطقونه جيداً ويفهمون قواعده العربية، فأظنُّ ولا حتى معاني ألفاظه. وذلك ناشئ من كَوْن أنَّ الأطفال عندما يبلغون السنَّ اللازم لاكتساب فوائد التعليم، يُسلِّمهم والدوهم إلى عُرفاء (جمع ”عرِّيف“، أي يعرف اللُّغة جيداً) عواجز النظر (أي مكفوفين) يُعلِّمون‍هم القراءة غيباً بالكلام المستهين وبالألفاظ ال‍مُحرَّفة، ويدعـون الأطفال أن يحفظوا بعضاً من المزامير بغير معرفة القواعد ولا المعنى، فيُخرجون‍هم جَهَلَة في أقصى الجهل، حتى لحـدود الرئيس والمرؤوس. وبالحقيقة يتمُّ قول النبي عاموس القائل: «ها تأتي أيامٌ، يقول الرب، وأُرسِلُ الجوع إلى الأرض، لا جوعاً للخبز ولا عطشاً للماء، بل لاستماع كلام الرب» (8: 11)... وإنَّ أهل المعرفة جهلوها، فقد بَرَدَت حرارة الإيمان، وبَعُدَ التمدُّن عن أهله. ولعلَّ يتمُّ قوله تعالى: «من كثرة الإثم تبرد المحبة من كثيرين» (مت 24: 12).

وحيث إنه، بنعمة الله، صرتُ أنا إلى ما أنا عليه مؤتَمَناً وعبداً ليسوع المسيح مَدْعوّاً مطراناً خادماً للكرازة المرقسية مُتَرَجِّياً من مراحمه الفائقة الكمال؛ أن يُوفِّق لي ما يرضاه، ويؤهِّلني للقيام بفرائض هذه الخدمة التي هي أنتم مَعْشَر الذين يؤمنون بـه، حتى أَجِد لي دالَّة قُدَّام مِنْبره المرهوب المخوف قائلاً: «ها أنا والبنون الذين أعطانيهم الرب» (عب 2: 13).

وإذا كان فرضٌ واجبٌ عليَّ مُباشرة التعليم والقيام بالسَّعْي فيما يوجب انتظام العامَّة، والحث على معرفة أصول الديانة وقواعدها، وكان أَقْصَى الأمل الشروعَ في إيجاد محل للقراءة والتعليم، وقد عَزَمتُ - بنعمة الله - أن أُشمِّر عن ساعد الجدِّ، كما هو من الواجبات عليَّ بحسب ما انتُدِبْتُ إليه بمراحمه: أن أُكمِّل قصدي باعتمادي على العناية الربَّانيَّة المؤهِّلة إلى كـلِّ عملٍ صالح، وهي إرادته تعالى ومُساعدة أولادنا شعب الله المختار، حيث رأيتُ منهم التَّلَهُّف لإيجاده والمسارعة لإنجازه، ولاح لي من حُسْن ذمَّتهم (ضميرهم) ونقاوة طويَّتهم، استحثاثهم على ذلك ومَيْلهم إليه بكلِّ رغبةٍ ونشاطٍ، واختصاصهم بصالح العمل وأحسن التقويم. وقد رأيتُهم دائماً يلهجون ب‍هذا الأمر، وكان هذا المقصد جُلَّ رغبتنا، فقد توفَّق إيجاد خرابات (أرض خَرِبَة) دائرة من تعلُّقات الوقف تجاه دار البطريركية، وأسْتَصوِب أن يصير إنشاؤها محلَّ مُرَكَّبٍ مِن كم أودة (أي من عدَّة غُرَفٍ) يُقيم فيها المعلِّمون والصبيان، يتنقَّلون منها من مرتبة إلى أُخرى (أي من فصل إلى فصل دراسي)، وهي من أول ال‍مُبتديان (أي من البداية) إلى ما يُوفِّق به الرَّحْمَن من التعليم بحسب القدرة والإمكان.

ولغاية الحِرْص، قد بلغت تكاليف عمارة الجهة المذكورة بما يُناهز المائة وخمسين ألف قرش (خمسون كيساً). ولما كان جُهدي قصيراً في إيجاد هذا القَدْر، نظراً لضيق الوقت وضعف الحال، صار لي أَمَلٌ في هِمَّة الأبناء ال‍مُباركين أن يمدُّوا بالإسعاف على قدر الإمكان والطاقة المساعدة في إنشاء هذا المحل. وها أنا مُساعدٌ بقدر جهدي وطاقتي، ومُباشرٌ العمل بنفسي، وبعد إتمام البناء بنفسي، يُقدِّرني الله على إيجاد الكُتُب والأدوات، وما يلزم للإدارة بدون تكليف أحد، ويصير ترتيب معلِّمين للتعليم، كما هو الجاري عند بـاقي طوائف المسيحيين. وحيث إنَّ مرجـع الأمر إلى مُساعدة أولادي الأرثوذكسيين المباركين، حَفظهم الله بيمينه الحَصين، وجعلهم من الفائزين ال‍مُربِّين؛ فكلُّ مَن سَمَحَت نفسه بشيء وجاءت هِمَّته به على قدر إمكانه، يُقدِّمه لعمارة تلك الجهة، ابتغاءً لمرضاة الله تعالى لمنفعة عامة الشعب المسيحي، ولإصلاح خَيْر العامة والخاصَّـة، مُعْتَقِداً أن الله يُعوِّضه عنها عِـوَض الفانيات بالباقيات، والأرضيات بالسمائيات، ويكون ذلك لهم ذخيرةً في المظال الأبدية.

الرب الإله يُنميهم ويُكثرهم ويُدرُّ أرزاقهم، ويُنشئ أطفالهم نشوءاً حسناً، ويُكثر نسلهم، ويقرُّ أعينهم ب‍هم ويُعمِّر أوطان‍هم... ويملأ بيوت‍هم ومخازن‍هم ومعاصرهم من البركات الروحانية، ويعطيهم عمراً طويلاً، وحياةً هنيَّة، وآخرةً طاهرة مَرْضيَّة، ويجعلهم من الخراف اليمينية الذين يتَّكئون في الأحضان الإبراهيمية في أورشليم السمائية، ويُسْمِعهم الصوت الفَرِح المملوء فرحاً وحبوراً: «تعالوا، يا مُباركي أبي، رِثوا ال‍مُلْك ال‍مُعَدَّ لكم قبل إنشاء العالم» (مت 25: 34)، بشفاعة العذراء الطاهرة البتول أُم النور، وناظـر الإله مار مرقس الإنجيلي الرسول، وكافة الرسل والشهداء والقدِّيسين.

كونوا مُبارَكين، مُحاللين من فم الثالوث القدوس، والآباء أصحاب المجامع المقدَّسة، ومِن فمي، أنا الحقير كيرلس. ولله الشكر دائماً سرمدياً، آمين“(2). (يتبع)

(1) كذلك أَثبتَ تاريخ كنيستنا القبطية أنه في المرات الشاذَّة التي اعتلى فيها مطران أو أسقف الكرسي البابوي، لم يرتفع أيٌّ منهم إلى المستوى الشـاهق الذي بلغه البابوات الذين جيء ب‍هم من الدير مباشرةً، مع أن‍هم كانوا من الآباء الممتازين أيـام أن انشغلوا بإيبارشيات‍هم الأصيلة. أما كلمة «فتنوا المسكونة»، فهـو تعبيرٌ عـن قوَّة الكرازة، وقد وَرَدَ في سفر الأعمال (17: 6). عـن كتاب: ”قصـة الكنيسة القبطيـة“، بقلم: إيريس حبيب المصري، الكتاب الرابـع، ص 312.
(2) مخطوطة رقم 2713، محفوظة بالمتحف القبطي، وهي مكتوبة على ورق كتان، وتتألَّف من ورقتين: الورقة الأولى لم يَعُدْ واضحاً عليها غير ستة سطور، والثانية ثلاثة عشر سطراً.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis