قصة رمزية



مولود بيت لحم في كل بيت وقلب

منذ فترةٍ طويلة، ومنذ زمـنٍ طويـل جداً، عاشت ”بابوسكا“، التي كانت في ذلك الحين امرأةً عجوزاً، وكـانت مشغولة دائماً في كَنْس كوخها الصغير؛ في أكثر الأماكـن برودة في روسـيا. وكـانت تعيش بمفردهـا في مكانٍ مُنعزل، حيث يتقاطع مع أربعة طُرُق واسعة.

وفي هذا الوقت من العام، كانت هذه الطُّرُق تُغطَّى بالثلج الأبيض الناصع، لأن الموسم كـان فصل الشتاء القارس. أمَّـا في الصيف، فتكـون الحقول مليئة بالزهور من كلِّ الألوان، مع نسيم الهـواء العليل وأشعة الشمس الذهبيـة الدافئـة، وكـذلك الطيور االمُغرِّدة؛ أمَّـا منزل ”بابوسكا“، فكان لا يبدو هادئاً أبداً.

وفي أحـد فصول الشتاء - في سنةٍ مـن السنين - ومع رقائق الثلج النازلة مـن السماء، وبينما كانت طيور الشتاء البيضاء تُغطِّي السماء، مـع هبوب الريـاح الصاخبة المُتلاحقة؛ كـانت المرأة العجوز ”بابوسـكا“ تشعر بالبؤس الشديد. فقد كانت امرأةً مشغولة جداً، وبينما كان الشَّفَق قد بدأ في الظهور، وكان منزلها نصف مكنوس؛ شعرت بأنها في عَجَلَةٍ مـن أَمرها لإنهاء عملها اليومي قبل ذهابها إلى النوم.

ويجب أن تعرف أن ”بابوسكا“ كانت فقيرة، ولم يكن في إمكانها القيام بعملها على ضوء الشموع، فكان لابد لها من إنهاء عملها قبل حلول الظلام.

وفي نفس الوقت، وبينما كانت الطُّرُق مكسوَّة بالجليد، كان هناك صَفٌّ طويلٌ من الناس مُكتظٌّ بهم الشارع وهم قادمـون مـن بعيد. فقد كانوا يسـيرون ببطءٍ شـديـد، وكانـوا يتطارحـون التساؤلات بعضهم مع البعض الآخر عن الطريق الذي ينبغي أن يسلكوه.

ومـع اقتراب الموكب، توقَّف أخيراً أمام كوخ ”بابوسكا“ الصغير، ما جعلها تحسُّ بالدهشة بسبب روعة المنظر. فقد كان هناك في مُقدِّمة الموكب ثلاثة ملوك على رؤوسهم التيجان، بينما كانت مجوهـرات باهـرة متدلِّية على صدورهم وهي تتألَّق بـانعكاس أشعـة الشمس عليها. وكـانوا يرتدون عباءات من الفرو الأبيض الثقيل.

ومـع تساقُط رقائق الثلوج البيضاء، كـانت ملابسهم الملوكية تتلألأ، بينما كانت الجِمَال التي يمتطونها تتهادَى في سيرها. وقد ظهرت ملابسهم الفاخـرة البيضاء كـأنها الحليب وسط العاصفة الثلجية. أمـا هوادج الجِمَال فقـد تزيَّنت بالذهب وبألواح الفضة وهي تُزيِّن سروجها.

كـانت أقمشـة السُّـرُوج مـن أغنى الأقمشة الشرقية. وكـان جميع الخَدَم الذين يُحيطون بموكب الملوك، ذوي عيون سـوداء، وشـعور رؤوسـهم كـانت مـن نوع شعور الشعوب الشرقية. وكانوا يحملـون على ظهورهـم أحمالاً ثقيلة؛ بينما الملوك الثلاثة كانوا يحملون كل واحدٍ منهم هدايا ثمينة.

فقد كان واحدٌ منهم يحمل جَرَّة شَفَّافة جميلة، ومن خلال الضوء الخافت استطاعت ”بابوسكا“ أن ترى ما بداخل تلك الجَرَّة، فقد كانت تحتوي على سائـلٍ ذهبي، واستطاعت ”بابوسكا“ أن تتبَّين - من خلال لونه المُميَّز - أنه لابد أن يكون هو ”المُرَّ“!

أمَّا الملك الثاني، فقد كان يُمسك في يده حقيبةً غنيَّةً بالمنسوجـات الذهبية، وكـانت تبدو ثقيلة الوزن، فلابد أنها كانت مليئة بـ ”الذهب“!

وأمَّا الثالث، فكـان يحمل ”فَازَة“ أي ”مَزْهريـة حجرية“ في يده، وكانت تحوي من العطور الفيحاء ما أَفْعَمَ الهواء البارد بالروائح المُنعشة، مـا جعل المرء يُخَمِّن بأنَّ الإناء مليءٌ بـ ”البخور“!

كـانت ”بابوسكا“ خائفة بشكلٍ رهيب. لـذلك توارت داخل كوخها، وطلبت من العمال أن يقرعوا على باب الكوخ وقتاً طويلاً حتى تطمئن أنهم ليسوا غربـاء، فتفتح لهم الباب بعد أن تسمع أصواتهم، فتُجيب على أسئلتهم، أو تَدَعهم يذهبون إلى الطريق الذي ينبغي أن يتَّخذوه إلى بلدتهم البعيدة.

وربما تعلمون أن ”بابوسكا“ لم يسبق لها في حياتها أن تكون قـد تعلَّمت علم الجغرافيا. فقـد كـانت طاعنة في السنِّ وضعيفة الفهم، كما أنها كـانت خائفة جـداً. فهي تعرف فقط الطريق المؤدِّي، عَبْر الحقول، إلى أقرب قريـة، لكنها لم تكن تعرف أيَّ مكانٍ آخر سواء في بلدها أو في أي مكانٍ من العالم.

لقد كان الملوك الثلاثة يتجاهلون الخَدَم، لكنهم تكلَّموا مـع ”بابوسكا“، وطلبوا منها أن تُرافقهم في رحلتهم، لكي تُرشدهم إلى الطريق بقَدْر ما تعرف. وقالوا لها، بكلماتٍ بسيطة جداً بحيث يمكنها أن تفهم مـا يقولون: إنهم رأَوْا نجماً في السماء، وكـانوا يتبعونه إلى بلدةٍ صغيرة حيث وُلِدَ ”الطفل الصغير“. ولكن، بسبب أنَّ الضباب الكثيف يُخيِّم على السماء في ذلك الوقت، والثلوج تُغطي الطريق، فقـد فقدوا رؤية النجم وصار محجوباً عن أنظارهم.

وسألتهم المرأة العجوز: ”مَن هو هذا الطفل“؟

فأجابوهـا: ”إنـه ملكٌ، ونحن ذاهبون إليه لنسجُد له. وهـذه هي الهدايا التي سنهديها له، من الذهب واللُّبان والمُرِّ. وعندما نجده، سنخلع التيجان مـن على رؤوسنا ونضعها عند قَدَمَيه. فتعالي معنا يا "بابوسكا" لتُرينا الطريق“!

ماذا تظنُّون كان ردُّها عليهم؟ أَلا ينبغي أن تكون هذه المرأة القليلة الأهمية والفقيرة قد فكَّرت في أنها ستكون سعيدة بمُغادرة كوخها الكئيب، الكائن على السهول، ومُرافقة أولئك الملوك في رحلتهم إلى الطفل الملك، إذ قد بَدَا هذا العَرْض كأنه حُلمٌ بالنسبة لها!

ولكن - بالرغم من هذا العرض المُغري - إلاَّ أنَّ ”بابوسكا“ هزَّت رأسها بما يعني ”لا“؛ إذ كان الليل قد أرخى سدوله مُظلِماً كئيباً، بينما كان كوخها الصغير المتواضع - في نظرها - دافئاً ومُريحاً أفضل من تجشُّم أتعاب هذه الرحلة!

ونظرت ”بابوسكا“ إلى السماء، والنجم لم يكن منظوراً بالفعل. وبالإضافة إلى ذلك، كان لابد أن تلبس أولاً خِمَارها على رأسها. وقالت للملوك: إنها لهـذا السبب ربما ستكون مُستعدَّة للذهاب معهم في الغد. ولكن الملوك الثلاثة مـا كـان يمكنهم أن ينتظروا إلى الغد. لذلك فعندما أشرقت الشمس في باكـر الغد، صـاروا مُتقدِّمين في رحلتهم بفارقٍ كبير من الزمن.

وعندما استيقظت ”بابوسكا“ في الصباح، كان كل شيء كما هو كالمعتاد، حتى أنَّ آثار أقدام الجِمَال خارج الكوخ كانت مُغَطَّاة بالثلج الأبيض، ووجدت أن مكنستها القديمة مُعلَّقة على وَتَدٍ خلف الباب، حيث كانت قد سبقت ووضعتها على الوتد، حتى عندما يَقرَع الخَدَم على الباب، كانت توجِّههم بأَخْذ المكنسة ليُنظِّفوا بها مدخل الكوخ وداخله.

أما الآن، وفي هـذا الصباح، وقـد أشرقت الشمس، فقـد تذكَّـرت بريـق الذهب، ورائحة البخور الطيِّبة، وكذلك المُرَّ؛ وتمنَّت لو كانت قد ذهبت مع أولئك الملوك الذين رحلوا.

وبَـدَأَتْ ”بابوسكا“ تُفكِّـر كثيراً في ذلك ”الطفل العزيز“، الذي كان الملوك الثلاثة قد ذهبوا ليسجدوا له؛ إذ لم يكـن لديها أطفال، وبالتالي لم يُحبها أحدٌ. آه، لو كانت قـد ذهبت معهم إلى ”الطفل الملك“! وهكـذا كلما ألحَّ عليها فكرُهـا، كلما ازداد حزنها وبؤسها، حتى أصبح كوخها مكروهاً في نظرها.

ومن المشاعر المُرعبة أن يُدرك أحدٌ أنه فَقَدَ فُرصة السعادة، التي كـانت معروضة أمامـه. فهناك شعورٌ يُسمَّى ”الندم“ الذي يمكن أن يخدع الإنسان، فيصير كمَـن يجزُّ على أسنانـه كاظماً غيظه.

وهكذا أحسَّت ”بابوسكا“، وكأن قلبها قد طُعِنَ كلمـا كـانت تتذكَّر ضياع فرصتها مع الملوك الثلاثة في زيارتهم للطفل الملك.

وبعد فترةٍ من الوقت، أصبح التفكير في ذلك الطفل الصغير هو أول فكـرٍ لها عند استيقاظها في الصباح الباكـر، وكذلك عنـد حلول الظلام وذهابها إلى فراشها.

وفي أحد الأيـام، أغلقت ”بابوسكا“ باب كوخها إلى الأبد، وكـأنها ستُسافر في رحلةٍ طويلة، إذ لم يكن لديها أيُّ أملٍ في أن تتجاوز التفكير في الملوك الثلاثة، لكنها كـانت تتوق بشدَّة إلى رؤية الطفل الملك! إذ كـانت تُحبُّه وتتوق أن تسجد له هي الأخرى!

وأَخَذَت تسأل كـل مَـن تلتقي بهم عن الملك الطفل، وكان البعض يظُنُّ أنها قد فَقَدَت عقلها! ولكن البعض الآخر كان يُجيبها بكلماتٍ رقيقة!

وكـان ومـا يزال ملايين الملايين ومليارات المليارات من الناس، ومنذ أكثر من عشرين قرناً من الزمان وإلى الآن، وفي كلِّ ليلة عيد الميلاد، يتذكَّرون ويعبدون ويسجدون للطفل الملك، الذي هـو ”الرب يسـوع المسيح“، الذي أتى مـن السماء، لا ليُعطيهم ذهباً أو لُبانـاً أو مُرّاً، بـل ليَهَبهم الحياة الأبدية، لكلِّ مَن يؤمن به!

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis