بمناسبة عيد الميلاد المجيد من تعاليم الآباء


اليوم وُلد لنا مُخلِّصٌ

تقديم:

في عيد الميلاد المجيد نحتفل بـ ”سرِّ التقوى العظيم“ (1تي 3: 16). فيه نفرح بأنَّ الله الكلمة ”ظهر في الجسد“؛ إذ أَخَـذَ جسـداً وصار إنساناً مثلنا، عمانوئيل: ”الله معنا“. هـذا الحَدَث السرِّي قد استحوذ على فكر آبائنا القديسين في صلواتهم وتأمُّلاتهم، كما أنـه تجلَّى في كتابـاتهم وأقوالهم التي انبثقت مـن خبراتهم وصارت كنزاً وزخماً حيّاً اذَّخروه لأولادهم، كما صارت تقليداً روحياً حيّاً للكنيسة حتى نهايـة الدهور. وهم يُشجِّعوننا إلى أن نبلغ إلى مُشاركة شخصية لكلٍّ منَّا في سرِّ تجسُّد المسيح الذي تمَّ ”لأجلنا ولأجـل خلاصنا“. ونحاول في هذا المقال أن نفهم رسالة تعليمهم من خلال بعض كتاباتهم.

كيف نحتفل بالعيد؟

+ يُذكِّرنا القديس غريغوريـوس اللاهوتي (329-390م) بكيفيـة الاحتفال بأعيادنا الكنسية بقوله:

[فلنحتفل ليس ببهرجة الحياة بل بتقوى؛ ليس بطريقةٍ دنيوية بـل بطريقة سماوية سامية؛ ليس بحسب شهواتنا بل حسب شهوته هو، أو بالحري بالطُّـرق التي تليـق بسيِّدنـا؛ ليس بإظهار ضعفاتنا بـل بالحـري شفائنا؛ ليس بحسـب خلقتنا (العتيقـة) بل بالحري حسب خلقتنا الجديدة](1).

+ ونجـد عند القديـس باسيليوس (329-379م) أيضاً نصيحة بـأن نعيش هذا السرَّ ”في سكون“ وتبجيل وتقوى. فهـو يؤكِّد على ذلك في رسالته ”عن التجسُّد المقدس للمسيح“، قائلاً:

[فلنقترب بتوقير إلى تجسُّد الرب](2).

+ كما يقول فيها أيضاً:

[ينبغي أن يُكرَّم تجسُّد المسيح بطريقةٍ تتلاءم مع الله].

لأنـه في السكون تتجلَّى حيوية هـذا السر بطريقةٍ تفوق الوصف، وكل شرح عقلاني له إنما هو سَلْبٌ وانتهاكٌ لحُرْمة هذا السرِّ، وكأنه محاولةٌ لفرض الإجبار بالقـوَّة على التنازُل الإلهي الذي يفوق الوصف، وإنكارٌ للعطيـة التي نلناها مـن المذود!

+ فـالقديس باسيليـوس يقـول في نفس الرسالة:

[بينمـا يسجد المجـوس للمسيح، يتناقـش المسيحيون في كيف أنَّ الله صـار جسـداً؟ وما هي طبيعة هـذا الجسـد؟ وما إذا كـان الإنسان الذي حُبِلَ به كاملاً أم ناقصاً؟! فلنظل في كنيسة الله صامتين بخصوص مثل هـذه التساؤلات غير النافعـة وغير الضروريـة، ولنُمجِّد تلك الأمـور التي نؤمـن بها. ليتـه لا يكون عندئذ فضولٌ بخصوص تلك الأمور التي ينبغي أن تظل غير منطوقٍ بها]!

+ ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم (354-407م):

[تعالـوا، إذن، لنهتـم بالعيـد ونصنع هـذه الذِّكْـرى المقدَّسـة... ففي هـذا اليوم انتهت العبوديـة القديمة، وأُخْزِيَ الشيطان، وهربت الأرواح الشريـرة، وتحطَّمت سطوة المـوت، وفُتِحَت مغاليـق الفردوس، وانتُزِعَـت اللعنة، والخطية ابتعدت عنَّا، والباطـل طُرِد خارجاً، والحق قـد أُعيد مرَّةً أخرى، وكـلام العطف الرقيق قـد انتشر مـن كـل جانب، وغُرِسَت على الأرض طريقةُ حياةٍ سماوية، والملائكة يتَّصلون بالبشر دون خوف، والبشر يتحادثون الآن مع الملائكة!

ولِمَ هـذا؟ لأن الله الآن علـى الأرض، والإنسان في السماء! فالكـل يتلاقون من كل ناحية. لقـد جاء الرب إلى الأرض في حين أنه بكُلِّيته في السماء، ولكنه بلا نقصان على الأرض. ومـع كونـه الكلمـة الإلهي غير المُدرَك، فقـد صار جسـداً لكي يحلَّ بيننا، وحتى أنَّ ذاك الذي لا تسعه السماء يستقبله اليوم مذودٌ! لقد وُضِعَ في مذود حتى أنَّ ذاك الذي به يغتذي الكل، يأخذ غذاء الطفولة من والدته العذراء. وهكذا فإنَّ أبـا الأجيال كلها تحتضنه ذراعا البتول كطفلٍ على صدرها...

في ذلك اليوم جاء المجوس أيضاً، وكانوا سبباً في أن يبدأ الطغيان المُقاوِم (للحقِّ)، إذ استُعْلِنَ الرب بواسطة نجم!

وطار الرب إلى مصر راكباً على سحابة جسـده الخفيفـة (انظـر إش 19: 1)، لكي يهرب مـن غَدْر هيرودس، ولكن أيضاً لكي يتحقَّق كـلام إشعياء النبي: «فِي ذلِـكَ الْيَوْمِ يَكُونُ إِسْرَائِيلُ ثُلُثاً (أو ثالثاً) لِمِصْرَ وَلأَشُّورَ، بَرَكَـةً فِي الأَرْضِ،  بِهَـا يُبَارِكُ رَبُّ الْجُنُودِ قَائِلاً: مُبَارَكٌ شَعْبِي مِصْرُ، وَعَمَلُ يَدَيَّ أَشُّورُ، وَمِيرَاثِي إِسْرَائِيلُ» (إش 19: 25،24). ماذا تقول يا يهوذا؟ مَنْ الذي كـان أولاً ثم صار ثالثاً؟ لقـد وُضِعَ المصريـون والأشوريون قبلك، وإسرائيل البِكْر هـو الأخير! بالصواب يكون الأشوريون أولاً حيث إنهم عبدوا الرب أولاً مـن خـلال المجوس، والمصريون بعد الأشوريين حيث إنهم هم الذين استقبلوه وهو هاربٌ مـن غَـدْر هيرودس، وقـد اعتُبِرَت إسرائيل في المقام الثالث حيث إنَّ رُسُل الرب تعرَّفوا عليه بعد معموديته في نهر الأردن!

دخـل الرب إلى مصر وجعـل أصنامها ترتعـد، وذلك بعد أن أغلق مداخـل مصر بواسطة إهـلاك أبكارها: «هُوَذَا الرَّبُّ رَاكِبٌ عَلَى سَحَابَةٍ سَرِيعَةٍ (أو خفيفة الحركة) وَقَادِمٌ إِلَى مِصْرَ، فَتَرْتَجِفُ أَوْثَانُ مِصْرَ مِنْ وَجْهِهِ، وَيَذُوبُ قَلْـبُ مِصْرَ دَاخِلَهَا» (إش 19: 1). وهكـذا دخـل (الطفل يسوع) اليوم كبِكْرٍ إلى مصر لكي يُنهي نوحها القديم على أبكارها، وبدلاً مـن الضربات (العشر) المُحزنـة، جاء إليها بفرحة الخلاص. إنَّ شريـان الحياة (أي نهر النيل) كـان قـد تلطَّخ باغتيال الأبرياء (الأطفال العبرانيين أيام فرعون)، لذلك دخل الـرب أرض مصـر التي جُعِلَت في القديـم أنهارها حمراء (بسبب ضربة تحويل الماء إلى دم). فهـو الآن يمنح الأنهـار المتدفقة القدرة على إعطاء الخلاص (بسرِّ المعمودية)، ويُنقِّيها مـن تلوُّثها ومن بلاياها بقوة روحه القدوس. حينئذ عوقـب المصريون وفي غيظهم أنكروا الله، فذهب الرب إلى مصر وملأ النفوس التقية بمعرفة الله...](3).

الطفل الإلهي في المذود:

+ يقول القديس أمبروسيوس (339-397):

[انظر بأيَّة طريقة تُعِدُّ العنايـة الإلهية الفائقة طريـق الإيمان: فـإنَّ ملاكاً يُوجِّـه القديسة مريـم، وملاكـاً يُوجِّـه يـوسف (خطيبها)، وملاكاً يُوجِّـه الرعـاة المكتوب عنهم: إنهم كانـوا «يَحْرُسُـونَ حِرَاسَـاتِ اللَّيْـلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ» (لو 2: 8)](4).

+ وفي ذلك أيضاً يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

[ظهـر ملاكٌ ليوسف في نومه، لأنـه كان مستعدّاً أن يؤمن، وظهر للرعاة عياناً كما إلى رجـال بدائيين؛ ولكـن لم يذهب ملاكٌ إلى أورشليم، ولا بَحَث عـن الكتبة والفرِّيسيين، لأنهم كانـوا فاسديـن ويملأهم الحسد. أمَّـا الرعاة فكانـوا ذوي قلـوب جادَّة ويُراعون التعاليـم القديمـة التي للبطاركـة ومـوسى النبي...](5).

+ والقديـس أُغسطينـوس (345-410م) يجمع بين الرعـاة والمجـوس في إسراعهم إلى المولود، فيقول:

[مَنْ كان هؤلاء الحكماء سوى الباكورات من الأُمم؟ الرعـاة كانـوا إسرائيليين والمجوس أُمميين، الرعاة من مكانٍ قريب والمجوس من بعيد؛ وكلاهما أسرع إلى حجر الزاوية!... لم يُظْهِر الرب يسوع نفسه للمثقَّفين ولا للأبرار، لأن الجهل كـان سائـداً على سذاجة الرعاة الريفـيين، وعـدم التقـوى على تصرُّفـات المجـوس؛ ولكـن حجر الزاوية ربطهما معاً بنفسه. هـذا الذي جـاء ليختار الجُهَّال لكي يُخزي الحكماء، ولكي يدعو ليس الأبرار بل الخطاة إلى التوبـة، وذلك حتى لا يتكبَّر أيُّ عظيمٍ ولا المحتَقَرون ييأسون](6).

ولمَّا سمع الرعاة البشارة الملائكية «جَاءُوا مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَالطِّفْلَ مُضْجَعاً فِي الْمِذْوَدِ» (لو 2: 16).

+ والقديس أمبروسيوس يقول في ذلك:

[انظر كيف أن الأسفار المقدسة تـزن معنى كل كلمةٍ بعناية، لأنه عندما يُرَى جسد الرب، يُرَى الكلمة الإلهي الذي هـو الابن (الإلهي)، فلا تجعل ذلك يبدو لك مجرد برهان ضعيف على إيمانك كَوْن الرعاة مـن طبقات الشعب الدُّنيا. فالبساطة مطلوبـةٌ هنا، أمَّـا العظمة والفخامة فهي غير مرغوبـة. وكونهم جاءوا مُسرعين، فذلك لأنه لا أحد يبحث عن المسيح بكسل](7).

+ وبخصوص ولادة الرب مـن امرأة، يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

[لم يصنع الـرب لنفسـه في أيِّ مكـانٍ آخـر هيكلاً حيّاً، ولا أَخَذَ جسداً آخر غير هذا؛ وذلك حتى لا يبقى البشـر في وصمـة العـار، لأنَّ الإنسان لمَّا خُدِعَ صار عبداً للشيطان. وهكـذا اتَّخذ الرب من ذاك الذي استُعْبِدَ هيكلاً حيّاً لـه، حتى عندمـا يلتصـق الإنسان بخالقـه يُنتَزَع منه هذا القيد والخضوع للشيطان](8).

+ ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم في شرحه لمعنى: «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً» (يو 1: 14):

[عندما أعلـن (القديس يوحنا في إنجيله): إنَّ كل «الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ» (يو 1: 12)، أَظْهَر السبب في هـذه الكرامـة بقـوله: إن «الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً»، لأن ابن الله صار ابناً للإنسـان لكي يُصـيِّر أبناء البشر أبناءً لله. ولكن عندمـا تسمع أنَّ «الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً» فـلا تضطرب، لأنـه لم يُغيِّر جوهـره (أي لاهوته) إلى لحم؛ بل مع بقائه على ما كـان عليه (أي إلهاً)، «أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِـذاً صُورَةَ عَبْدٍ صَائِـراً فِي شِبْهِ النَّاسِ.  وَإِذْ وُجِـدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ...» (في 2: 8،7)](9).

+ «فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِالْكَلاَمِ الَّذِي قِيـلَ لَهُمْ عَـنْ هـذَا الصَّبِيِّ.  وَكُـلُّ الَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِـنَ الرُّعَـاةِ.  وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَـتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هـذَا الْكَـلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِها» (لو 2: 17-19).

+ وفي ذلك يقول القديس أمبروسيوس:

[لا نحتقر كـلام الرعـاة، لأن القديسة مريم أثْرَت إيمانها مـن الرعاة، وقـد حفظت كل ذلك متفكِّرةً بـه في قلبها. فلنتعلَّم من العذراء القديسة العفَّة من جميع النواحي، فإنَّ اتِّزانها في كلامها لم يكـن بأقـل مـن اتِّزانها في شخصيتهـا. فقـد جمعـت في قلبها بهـدوء كل البراهين على إيمانها](10).

(1) Sermon 38, PG 36,316A.
(2) PG 31,1457C-1476A.
(3) PG 56, col. 385.
(4) Catena of Great Fathers, Sunday Sermons, Vol. 1, p. 104.
(5) Ibid.
(6) Sermon 4,2 on the Epiph., De Temp., 42.
(7) On Luke, Ch., 2.
(8) PG 56,385.
(9) Hom. 10 on John's Gospel.
(10) On Luke, Book 2.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis