طعام الأقوياء
- 90 -



”أتيتَ إلى العالم بمحبتك للبشر،
وكل الخليقة تهلَّلت بمجيئك“
(الأجبية - صلاة باكر)
- 2 -

علاقة اسم الله السرمدي: ”أنا هو الكائن بذاتي“، باسم الرب يسوع المسيح: ”أنا هو“:

بدأنا الحديث عـن هـذه النقطـة في المقال السابق (عدد ديسمبر 2018، ص 8)، بـأنَّ الله لمَّا أَظهر نفسه لموسى في العُلَّيقة المُشتعلة بالنار ولم تحترق، رمزاً لسرِّ التجسُّد الإلهي الذي هـو اتِّحـاد اللاهـوت بـالناسوت في المسيح الكلمة المُتجسِّد، الذي أَخَذَ طبيعتنا البشرية واتَّحد بها ولم تحترق بنار لاهوتـه؛ وبالرغم مـن هذا المنظر العظيم الذي رآه موسى في العُلَّيقة المُشتعلة ناراً ولم تحترق، ورغم صوت الله المُتكلِّم من وسط النار الذي دعاه باسمه وعرَّفه بنفسه بأنـه إله آبائه؛ إلاَّ أنَّ موسى كان يشُكُّ في كونه يمكنه أن يكـون مُمثِّلاً مقبولاً عنـد شعب إسرائيل لدى فرعون قبل أن ينال الثقة والقبول الشرعي مـن الشعب، لأن احتجاج أحـدهم عليه منـذ أربعين سنة: «مَنْ جَعَلَكَ رَئِيساً وَقَاضِياً عَلَيْنَا؟» (خر 2: 14)، ما زال يَرِنُّ في أُذنيه! كما أنه من الطبيعي أن يطلب الشعب مـن موسى دليله على صِـدْق إرساليته واسم الذي أرسله. والواقع أنَّ إجابة الله على سؤال موسى بخصوص اسمه مُثيرةٌ حقّاً!! فقد جاءت كما قلنا: «أَهْيَه الذي أَهْيَه»، أي ”أكون الذي أكون“، أي ”أنـا الكائن بذاتي“. وواضح أنَّ هـذا الاسم الذي للجلالة لم يُقصَد به مجرَّد لقب، بل كان المقصود منه أن يفيد خاصية مُميَّزة تُعبِّر عـن طبيعة الله في شمولها لكـلِّ قُوَى الوجود والكيان الكائن بذاتـه. فهو الوحيد القادر أن يُعلِن عـن نفسه استعلاناً صادقاً بدون قياس أو تشبيه مع أيِّ كيانٍ آخر.

والواقع أنَّ إعلان الله عـن نفسه باسمه: ”أنا الكائن بذاتي“، كان في الحقيقة بدء التعارُف على الله الذي انتهى بالتجسُّد، فانكشف لنا سرُّ الثالوث القدوس الذي بـه ازدادت صِلتنا بالله جدّاً، فصار الله الآب أباً لنا في الابن الذي صرنا به أبناءً لله بالتبنِّي بتجسُّـد الابـن الوحيد واتِّحـاده بطبيعتنا وسُكنى روحه القدوس فينا. فـإعلان الله لذاتـه وتعريف اسمه للإنسان بهذا الاسم: ”أنا هو الكائن بذاتي“، هو في الحقيقة ليس مجرَّد دعوة للتعارُف بـل شركة حياة واتِّحاد بالله. وقـد سبق فاستُعلِنَ لإشعياء النبي حقيقة المسيح الابن: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَـدٌ وَنُعْطَى ابْناً، وَتَكُـونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ: عَجِيباً مُشِيراً، إِلهاً قَدِيـراً، أَبـاً أَبَـدِيًّا، رَئِيسَ السَّـلاَمِ» (إش 9: 6). ثم تمتـدُّ الرؤيـا فيرى في المسيح العبد الذي اختاره الله ليُكمِّل به خلاص البشرية، فيقول: «أَنْتُمْ شُهُودِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَعَبْدِي الَّذِي اخْتَرْتُـهُ، لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا بِي وَتَفْهَمُوا أَنِّي أَنَا هُوَ. قَبْلِي لَمْ يُصَوَّرْ إِلهٌ وَبَعْدِي لاَ يَكُونُ. أَنَا أَنَا الرَّبُّ، وَلَيْسَ غَيْرِي مُخَلِّصٌ» (إش 43: 11،10).

فالله لم يَرَه أحدٌ قط: «الاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو 1: 18). هذا هو يسوع المسيح ابن الله الوحيد الذي «أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ» (في 2: 7). فـالرب يسوع المسيح هـو «اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَـدِ» (1تي 3: 16)، الذي أَعلن لنا شخص الله، إذ هـو: «صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ» (2كو 4: 4؛ كـو 1: 15)، وهو «بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ» (عب 1: 3)، وهو «”عِمَّانُوئِيلَ“ الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللهُ مَعَنَا» (إش 7: 4؛ مت 1: 23).

وقـد قال الرب يسوع عن نفسه: «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» (يـو 10: 30)، «اَلَّذِي رَآنِي فَقَـدْ رَأَى الآبَ... صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ» (يـو 14: 11،9)، «لَيْسَ أَحَـدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (مت 11: 27). كما تكلَّم كثيراً عـن نفسه مُستخدماً نفس الاسم الذي أعلنه الله لموسى النبي قائـلاً: ”أنـا هـو“ +++ ++++. فيقول الرب: «أَنَـا هُـوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَـزَلَ مِـنَ السَّمَاءِ» (يـو 6: 51)، «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ» (يو 8: 12)، «أَنَـا هُـوَ الْبَابُ... أَنَـا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ» (يو 10: 11،9)، «أَنَـا هُـوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ» (يو 11: 25)، «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ» (يو14: 6). كما قال الرب مرَّةً لليهود: «قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يو 8: 58).

+ وقد علَّق على ذلك القديس يوحنا كاسيان (360-436م)، قائلاً:

[لأنـه يقول: «قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ»، فإنـه يقول لموسى: ”أنا هو الكائن“. فهو بكلِّ تأكيد قـد أَعلـن خلود طبيعته الإلهية بجـلالٍ مُدهش. لأنه لا يوجد ما يليق التعبير به عن الله مثل ما يجب أن يُقال عنه بأنه كائنٌ على الدوام. لأن فعـل ”الكينونـة“ يُسلِّم بعـدم البدايـة في الماضي، وعدم النهاية في المستقبل. وهكذا فهذا هو ما عُبِّر عنه بغاية الوضوح بالنسبة لطبيعة الله اللانهائية، إذ أنها تصف بدقَّةٍ أزليته](1).

وفي سِفْـر الرؤيـا يكتب القديس يـوحنا الرسول ما رآه وما سمعه عن الرب يسوع ومنه شخصياً، قائلاً:

+ «هُـوَذَا يَأْتِي مَـعَ السَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ، وَالَّذِيـنَ طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ. نَعَمْ آمِينَ. ”أَنَـا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَـةُ وَالنِّهَايَـةُ“، يَقُولُ الرَّبُّ الْكَائِنُ وَالَّذِي كَـانَ وَالَّذِي يَـأْتِي، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» (رؤ 1: 8،7).

+ «لاَ تَخَفْ، أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ، وَالْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتاً، وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ! آمِينَ. وَلِي مَفَاتِيحُ الْهَاوِيَةِ وَالْمَوْتِ» (رؤ 1: 18،17).

+ «هذَا يَقُولُهُ الأَوَّلُ وَالآخِرُ، الَّذِي كَانَ مَيْتاً فَعَاشَ» (رؤ 2: 8).

+ «هذَا يَقُولُهُ ابْنُ اللهِ، الَّذِي لَهُ عَيْنَانِ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَرِجْلاَهُ مِثْلُ النُّحَاسِ النَّقِيِّ... أَنَـا هُوَ الْفَاحِصُ الْكُلَى وَالْقُلُوبِ، وَسَأُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ» (رؤ 2: 23،18).

+ «هـذَا يَقُـولُهُ الَّذِي لَـهُ سَبْعَةُ أَرْوَاحِ اللهِ وَالسَّبْعَةَ الْكَوَاكِـبُ... مَـنْ يَغْلِبُ فَـذلِكَ سَيَلْبَسُ ثِيَاباً بِيضاً، وَلَنْ أَمْحُوَ اسْمَهُ مِنْ سِفْرِ الْحَيَاةِ، وَسَأَعْتَرِفُ بِاسْمِهِ أَمَامَ أَبِي وَأَمَامَ مَلاَئِكَتِهِ» (رؤ 3: 5،1).

+ «هذَا يَقُولُهُ الْقُدُّوسُ الْحَقُّ، الَّذِي لَهُ مِفْتَاحُ دَاوُدَ، الَّذِي يَفْتَحُ وَلاَ أَحَـدٌ يُغْلِقُ، وَيُغْلِقُ وَلاَ أَحَدٌ يَفْتَحُ» (رؤ 3: 7).

+ «هـذَا يَقُولُهُ الأَمِينُ الشَّاهِدُ، الأَمِينُ الصَّادِقُ، بَدَاءَةُ خَلِيقَةِ اللهِ... مَـنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِـي فِي عَرْشِي، كَمَـا غَلَبْتُ أَنَـا أَيْضاً وَجَلَسْـتُ مَـعَ أَبِـي فِي عَرْشِـهِ» (رؤ 3: 21،14).

+ «وَإِذَا عَـرْشٌ مَوْضُـوعٌ فِي السَّمَاءِ، وَعَلَى الْعَرْشِ جَالِسٌ... وَفِي وَسَطِ الْعَرْشِ وَحَوْلَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةُ حَيَوَانَـاتٍ مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً مِـنْ قُـدَّامٍ وَمِـنْ وَرَاءٍ... لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ حَوْلَهَا، وَمِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً، وَلاَ تَـزَالُ نَهَاراً وَلَيْلاً قَائِلَةً: ”قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُـلِّ شَيْءٍ، الَّذِي كَانَ وَالْكَائِنُ وَالَّذِي يَأْتِي“...» (رؤ 4: 2-8 إلى آخر السِّفْر).

هـذا السِّفْر المملوء بالأسرار الذي يُعلِن عـن نهايـة إبليس وملائكته، وطَرْحهم في بحيرة النار والكبريـت حيث الوحـش والنبي الكذَّاب، والذيـن سيُعذَّبون نهاراً وليلاً إلى أبد الآبدين. كما يُعلِن عن عرش الله العظيم، وعـن أورشليم المقدَّسة النازلة مـن السماء مـن عند الله، لها مجـد الله ولمعانها شِبْـه حجـر يَشْب بلُّـوري، حيث سمع يـوحنا الرائي صوتاً عظيماً من السماء قائلاً: «هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهاً لَهُمْ. وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُـلَّ دَمْعَةٍ مِـنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَـوْتُ لاَ يَكُـونُ فِي مَـا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَـا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَـدْ مَضَتْ... ثُمَّ قَالَ لِي:... أَنَـا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ. أَنَا أُعْطِي الْعَطْشَانَ مِنْ يَنْبُوعِ مَـاءِ الْحَيَاةِ مَجَّاناً. مَنْ يَغْلِبْ يَرِثْ كُلَّ شَيْءٍ...» (رؤ 21).

منتهى قصد الله هو سُكناه في وسط شعبه:

طلب الله من موسى وهم في بريَّة سيناء بعد أن أَخـرج بني إسرائيل مـن أرض مصر، أن يصنعوا له مَقدِساً ليسكن في وسطهم (خر 25: 8). وأن يكون هـذا المسكن مصنوعاً مـن تقدماتهم، ويصنعونـه على المثال الذي أَظهَـر لموسى على الجبل (انظر خر 25: 40). وكـان قصـد الله بهـذا المَقْدِس أن يكـون على «أَمْثِلَةَ الأَشْيَاءِ الَّتِي فِـي السَّمَـوَاتِ» (عـب 9: 23)، و«ظِلُّ الْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ» (عب 10: 1) كما قال الرسول بولس، لكي يكون خطوةً في سبيل تحقيق قصد الله النهائي بتجسُّده وحلوله بيننا في آخـر الأيام: «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَـلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِـنَ الآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقًّا» (يو 1: 14)، ثم سُكناه الأبـدي معنا في أورشليم السمائيـة المُهيَّـأة «كَعَـرُوسٍ مُزَيَّنَـةٍ لِرَجُلِهَا» (رؤ 21: 3)، وهذا على النحو الآتي:

1. أول ما يلفت نظرنـا في الخيمة هي أنها لم تكن شيئاً ابتدعه بنـو إسرائيل بتفكيرهم أو حتى موسى بحكمته وفطنته، ولكنها كانت في فكر الله منذ الأزل وبرسم الله نفسه وتدبيره في كـلِّ دقائقها ومقاييسها وطقس العبادة فيها ونظام خدمتها. فهـو الذي أَمَر بصُنعها حسب المثال الذي رآه موسى لتكون مَقدِساً يسكن فيه في وسط شعبه. فهي من هذا الوجه تنطبق كل الانطباق على تجسُّد الله الكلمة، الذي كان في فكر الله منذ الأزل، وهو يُنير الجميع «فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ فِي اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ» (أف 3: 9).

2. كما أنَّ الرب شاء أن يصنعوا له مَقدِساً ليسكن في وسطهم، يشترك في صُنعه كل الشعب بعطايـاهم وتقدماتهم، وحسب الرسم الذي أَظهره الرب لموسى في الجبل، مُعبِّراً عمَّا هو في فكر الله مُجسَّماً بيد البشر وبعطاياهم التي قدَّموها من كـلِّ قلوبهم. وهكذا صارت الخيمة التي هي من رَسْم الله وتصميمه، وفي نفس الوقت مـن صُنع جميع الشعب «مِن كلِّ مَن يحثُّه قلبه»، هي مثال شديـد الانطباق على تجسُّـد الكلمة الذي صار جسداً، الذي أَخذه من عجنة البشرية من العذراء القديسة مريم بتوسُّط الروح القدس؛ كما عبَّر عن ذلك القديس غريغوريوس النيصي، قائلاً:

[الذي في طبيعته الذاتية ليس مصنوعاً بيد بشرية، ولكنـه تقبَّل وجوداً مخلوقاً لمَّا صار لازماً عليه أن ينصب خيمته بيننا](2).

3. كانت الخيمة مسكناً مؤقَّتاً لله في وسط شعبه المُرتحل في البريَّة، بل كـانت نصباً مؤقَّتاً يُناسب الانتقال والارتحال مـن مكانٍ إلى مكان؛ هكذا كان رب المجد عندما نصب خيمته بيننا، فقد كانت إقامته قصيرة مُتغرِّبـاً على الأرض «لَيْسَ لَهُ أَيْـنَ يُسْنِدُ رَأَسَهُ» (لو 9: 58)، بل كـان يجول يصنع خيراً ويشفي جميع المُتسلِّط عليهم إبليس.

4. كانت الخيمة حقيرة ومتواضعة في مظهرها الخارجي، فلم يكـن يُرَى في خارجها سـوى جلود الكبـاش المُحَمَّـرة وجلـود التُّخَس الخشنة وخشـب السَّنط؛ أمَّا داخلها فكـان مُـزيَّناً بـالذهب والفضـة والأسمانجـوني والأرجوان والقرمـز صنعة حائـك حاذق، وكـان الله يتجلَّى فيها بمجده ويملأهـا ببهائه ويُغطِّيها بسحابة حضرته؛ هكذا كان المسيح في تجسُّده: «لاَ مَنْظَرَ (له) فَنَشْتَهِيَهُ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ» (إش 53: 3،2). فقـد كـان جلالـه الإلهي مُختفيـاً خلف حجاب جسـده. وكما أنَّ الخيمة كانت مكان لقاء الله مع الإنسان؛ هكذا كـان يقول الرب يسوع: «لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي» (يو 14: 6).

5. وقُدس الأقداس في الخيمة يرمـز، بصفةٍ خاصة، إلى سـرِّ التجسُّد. فهو الجزء الوحيد في الخيمة الذي كـان يحلُّ فيـه الله حلولاً منظوراً. وكـان يفصـل بينـه وبين باقي الخيمة حجابٌ لا يُسمَح بـاجتيازه إلاَّ لرئيس الكهنة مرَّةً واحـدة في السنة. هـذا الحجاب كـان يرمـز إلى جسـد المسيح. فكما كـان يُخفي خلفه قُدس الأقداس حيث تابوت العهد الذي كـان يتراءى فوقـه الله بمجده ويتكلَّم مع موسى فماً لفم؛ هكذا جسد المسيح كـان يحجب كلمة الله الأزلي، ولكنه لم يكـن حجاباً يمنع دخولنا إلى أقداس الله، بل صار لنا به «ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى الأَقْدَاسِ بِدَمِ يَسُوعَ، طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيًّا بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ» (عب 10: 20،19).

(يتبع)

(1) On Incarnation, Book V, Chap. VIII.
(2) La Vie de Moïse II, 173.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis