|
|
|
ثالثاً: المسيح الملك القائم من بين الأموات (8) القبر الفارغ:
في فجـر القيامة، قامت النسوة بزيارة القبر، حيث دُفِنَ فيه جسد الرب يسوع (لم يَذهَبْنَ يـوم السبت، لأنه كـان مُحرَّماً في شريعة موسى أن يَقُمْـنَ فيه بأيِّ عمل). فتعجَّبنَ، إذ رأيْـنَ القبر مفتوحاً، وجسد يسوع ليس موجوداً فيه! وها هو الدليل الأول، إذ أنَّ ”القبر فـارغٌ“! وباختصار، فإنَّ الرسل بدأوا يُعلنون بأنَّ الرب يسوع قد قام. فلقد كـان مـن الصعب الاقتناع بأنَّ الرسل قد ابتكروا هـذه القصة، إذ كان من الممكن أن يتمَّ سَحْقُها بسهولة عن طريق ظهور الجسد المقدَّس. ولكن لم يأتِ أحدٌ بجسد المسيح، إلى الآن!
اعتراضات مُضادة يجب أَخْذُها في الاعتبار:
لقد كان من المستحيل أن يكون اللصوص قد خدعوا الحُرَّاس ورفعوا الحجر الضخم الذي على باب القبر، وأخذوا الجسد المقدَّس وكذلك الأكفان. ولكن ما هو الدافع المُمكن أو المحتَمَل لذلك؟!
+ فإن كـان الرؤساء أنفسهم هم الذين أَخـذوا الجسد، فسيكون لديهم وتحت تصرُّفهم، مـا يؤدِّي لإسكات الذيـن يُعلنون القيامـة، وسيكون عندهـم الدوافع الكافية لاتِّخاذ هـذا الإجراء. وهـذا فقط إن كـان لديهم الجسد حقّاً! وطبعاً ليس عندهم هـذا الجسد. فالقبر صار فارغاً. فإن كان لدى المسئولين السلطان لدحض القيامة، فإنَّ حيوية الكنيسة ستتبدَّد سريعاً. ولكن لم يكن في سلطانهم تفنيد القيامة، لأن ليس لديهم الجسد المقدَّس. أمَّـا صمتهم المكتوم فقد أعطى وزناً ومعقولية للكرازة بقيامة المسيح.
+ وكل هـذه النظريات قاصرة وغير كافية. ولذلك، فكل هذه التفسيرات الكلاسيكية العتيقة هي أكثر معقولية مـن الروايات البسيطة التي عندنا، والتي أخبرنـا بها أشخاصٌ يمكـن أن نتهمهـم باضطراب عقلي أو بالنفاق!
+ ولكن شهادة تلاميذ المسيح كانت بسيطة. فـالله الآب أقـام الرب يسوع لتثبيت أو إعطاء الشرعية لكَونـه هـو ”المسيح“، ولإثبات بنوَّته الإلهية! وأخيراً، إنَّ الحُكْم التاريخي لابد سيكون على جانب أو لآخر. فذاكرة الجماعة الرسولية قد أَرجَعَتْ الحياة إلى المسيح حيّاً قائماً من الموت، وليس طريقاً وَسَطاً!
هل أكفان الموت تُرِكَت مُبعثرة،
أم مَطْويَّة بعناية:
لقد وَصَفَ الإنجيل الأكفان أنها كانت متروكة داخل القبر، مَطْويَّة بعنايـة، كما وصفها القديس يوحنا (20: 1-9)، وأنَّ جسـد الرب يسوع لم يكـن داخـل القبر! بينما الأكفـان كـانت هناك موضوعة بعنايـة في المكان وفي نفس الموضع الذي دُفِـنَ فيه جسـد المسيح (أي لفافـة الرأس عند الرأس)!
+ وهـذا الوصف يحمـل علامـاتٍ خاصة لعينَي الشاهد الذي «رأى وآمن» بنفس الدقة. لقد وصل يوحنا للقبر أولاً ونظـر إلى داخل، ولكن بطرس هو الذي دخل أولاً، ثم دخل يوحنا ورأى شيئاً ما، وفي الحال اقتنع بأن الرب يسوع قد قام!
+ والقصة كُتِبَت بالتدقيق، فيقـول القديس يوحنا: «فَحِينَئِذٍ دَخَلَ أَيْضاً التِّلْمِيذُ الآخَرُ الَّذِي جَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ، وَرَأَى فَآمَـنَ» (20: 8). فأيَّـة شهادة وبرهـان رآهـا القديس يوحنا، حتى أنها أثارت إيمانـه الفوري؟ ولكن ليس مجرَّد عدم وجود الجسد يعني قيامة المسيح! ولكـن بأيَّـة طريقـة كـانت الأكفان موضوعة؟ كأنَّ الجسد كـان موضوعـاً داخلها، ثم حينما قـام المسيح، انفلت الجسد من الثياب، وترك الأكفان كما هي! ولكـن تَرْكها بحالة مُرتَّبـة مُهندمة، أمـرٌ يُثير الدهش (يو 20: 7،6)(1).
+ هـذا هـو ما رآه بطرس ويوحنا، وأثار الإيمان فيهما في الحال! إنـه لأمرٌ مُدهش أن يكون عندنا هذا الوصف الدقيق الحاسم لشاهد (أي يوحنا الرسول) كـان حيَّاً منذ 20 قرناً من الزمان!
+ وأيضاً يقول القديس كيرلس الأورشليمي: ”الثياب الكتَّان أيضاً، كـانت مُعتَبَرة على أنهـا شهادة صامتة لقيامته“(2)!
+ وبعد ثلاثة قرون مـن قيامة الرب يسوع، كان القديس كيرلس الأورشليمي على حقٍّ حينما تذكَّر بـأنَّ المكان الخاص، حيث يوجـد القبر المقدَّس، ”ما زال يُرَى“، أي موقـع كنيسة القبر المقدَّس، حيث كـان القديس كيرلس الأورشليمي يُلقي عظاته منه(3).
+ لا يوجد تتمَّة أخرى مُتوقَّعٌ حدوثها، فهذا يؤيِّد الأكاذيب بأنَّ الجسد سبق أن أَخذه التلاميذ ولفُّوه في قماش كتَّان. ولكن لا شكَّ بأن الرب يسوع ”قد مات“، و”دُفِنَ“ في القبر! ثم أُغْلِقَ القبر من الخارج وخُتِمَ عليه. لقـد بَدَأت مراسم الدَّفن يوم الجمعة، وظلَّ الجسد في القبر طيلة السبت، ثم أتى اليوم التالي بعد السبت (فجر الأحد) حينما أتتْ النسوة إلى القبر.
لقد أتت النسوة إلى القبر ليُتمِّمن مراسم الدفن. فإذا كُنَّ متوقِّعات قيامة الرب، ما أَتينَ إلى القبر! ولكن، كما ذَكَرَ إنجيل مرقس، أنـه «بَعْدَ مَـا قَامَ (الرب) بَاكِـراً فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ظَهَرَ أَوَّلاً لِمَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ... فَذَهَبَتْ هذِهِ وَأَخْبَرَتِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ... فَلَمَّا سَمِعَ أُولئِكَ أَنَّهُ حَيٌّ، وَقَدْ نَظَرَتْهُ، لَمْ يُصَدِّقُوا» (مـر 16: 9-11). وشرح القديس لوقـا مشاعر التلاميذ عندما سمعوا من النسوة عن عدم وجود جسد يسوع في القبر، فقال: «فَتَرَاءَى كَلاَمُهُنَّ لَهُمْ كَالْهَذَيَانِ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُنَّ» (لو 24: 11).
+ وحتى بعد ذلك، وفيما هم يتكلَّمون بهذا، وقف الرب يسوع نفسه بعد قيامته في وسطهم في العليَّة، وقـال لهم: «سَلاَمٌ لَكُمْ! فَجَزِعُوا وَخَافُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ نَظَرُوا رُوحاً» (لـو 24: 37،36)، ولـذلك «وَبَّخَ (الرب) عَـدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَـاوَةَ قُلُوبِهِمْ، لأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا الَّذِينَ نَظَرُوهُ قَـدْ قَامَ» (مر 16: 14).
+ يبـدو ذلك وكـأنَّ التلاميذ صَعُبَ عليهم مـا سمعوه، ولم يكونـوا مُستعدِّين لقبول حَدَث ”قيامة“ الرب مـن الموت، بهـذا الشكل المُكثَّف الحقيقي. وهذا يعني وكأنَّ التلاميذ كانوا يتوقَّعون قيامة ”غامضة“! ولكن العكس هو الذي حدث، إذ أنَّ ”توما“ رَفَضَ ”بعناد“ أن يعترف بالقيامـة، «فَقَالَ لَهُمْ (لبقية التلاميذ): ”إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ“» (يو 20: 25).
وهـذا بالكاد كـان أبعد ما يكون عن تصوُّر التلاميذ أن تكـون ”قيامة“ يُقاومونها، أو الحذر والتشكُّك في حدوثها. وقد أشار الرب يسوع إلى ذلك، عندما تقابل مع تلميذَي عمواس، قائلاً لهما: «أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ» (لو 24: 25).
+ ويُشير إنجيـل يوحنا بالتحديـد، في نفس الوقت، إلى أنَّ بطـرس والتلميذ الآخـر (يوحنا) وصـلا إلى القبر الفارغ ليفحصانـه، «لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ يَعْرِفُونَ الْكِتَابَ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ مِنَ الأَمْوَاتِ» (يو 20: 9).
+ ولكن الظروف العشوائية المختلفة التي ظَهَر فيها الرب يسوع لكثير من الناس، كانت معظمها في أماكن عاديـة، وليست في أماكـن ذات ذكريـات مُقدَّسـة؛ بـل إنَّ بعضها كـان طريقاً بعيداً عـن أورشليم، وبعضها كـان خروجاً للصيد عند بحيرة ”طبرية“، وأخرى كـانت في أماكن غير موصوفة كالبستان. وكانت مشاعرهم عندما يلتقون مع الرب، مُتنوِّعة للغاية: منها كـان الحزن (مريم المجدلية)، ومنها كـانت الشكوك (توما)، والخوف (النسوة)، والندم (بطرس). وبعض ظهـورات الرب، كانت لأشخاصٍ بمفردهم، وأخـرى لمجموعاتٍ صغيرة، وأخرى لمجموعاتٍ كبيرة. فهي لم تكـن على نمطٍ واحد في المواقف والظهورات.
الخيار الوحيد الحقيقي والعامل الهام الذي غيَّر حياة التلاميذ
إنَّ السلوك المُتغيِّر - بشكلٍ جذري - للتلاميذ بعد القيامة، هو أفضل شهادة للقيامة. فالتلاميذ لم يقصدوا أو يقترحوا أن ننظر إلى سلوكهم! بل إنَّ كلَّ ما كانوا يقصدون منَّا أن نفعله، هو أن ننظر إلى: ”برهانهم الذي عليه بَنَوْا شهادتهم للمسيح“.
قبل وبعد: لقد انقلبت حياتهم تماماً بسبب قيامة المسيح. لقـد صار التلاميذ أشخاصاً مُختلفين عمَّا كانوا عليه مـن قبل. لقد تركوا ”الدفن“ بإحساسٍ عميق مـن الضياع، وواجهوا انهيار مـا سَبَقَ أن ظنُّوه أنه الحَدَث النهائي لتاريخ إسرائيل! وفجأةً، فإنَّ الأشخاص الذين رأيناهـم في أول سِفْـر ”أعمال الرسل“، كانوا هم أنفسهم الذين ”بذلوا أنفسهم لأجل اسم ربنا يسوع المسيح“ (أع 15: 26).
+ لقـد تغيَّر سلوكهم تماماً وفورياً وجذريـاً وراسخاً. فمـا هـو السـبب في هـذا التغيُّـر الجذري؟ لقـد فهموا فيما بعد أن تغيُّـرهم كـان بسبب حلول الـروح القدس عليهم عَقِبَ ”صعود الرب إلى السماء“.
حالتان جديرتان: بطرس ويعقوب:
مـا الذي تسبَّب في تغيير بطرس؟ فإنـه أثناء محاكمة الـرب يسوع، قـد أنكر بطرس معرفته به ثلاث مـرَّات (دليل التأكيد والتصميم). ثـم اجتمع بطرس مع التلاميذ في العليَّة «لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ» (يو 20: 19). ولكن، في أيامٍ لاحقة، كان بطرس والتلاميذ واقفين يكرزون للشعب بقوَّةٍ خارقة، حتى أنهم «قَبِلُوا كَلاَمَهُ بِفَرَحٍ، وَاعْتَمَدُوا، وانْضَمَّ فِي ذلِكَ الْيَومِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ نَفْسٍ» (أع 2: 41).
+ وفي عظـة القديس بطـرس بعد حلـول الروح القدس، يقـول: لقـد «سَبَقَ (داود النبي) فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ فِي الْهَاوِيَةِ وَلاَ رَأَى جَسَدُهُ فَسَاداً. فَيَسُوعُ هـذَا أَقَامَهُ اللهُ، وَنَحْـنُ جَمِيعاً شُهُودٌ لِـذلِكَ» (أع 2: 32،31). وفي الحال، دعـا بطرس الرسول كل السامعين إلى التوبـة، وشفى الأعـرج، وتحدَّى مجلس السنهدريم، ثم عانَى من الاضطهاد بسبب شهادته هذه. ثم ما الذي حَدَث؟ إنَّ ذلك لم يكن مجرَّد شيء قد حدث؛ ولكن الكل قد تغيَّر. إنه أمرٌ لا يُصدَّق أن يحدث كل هذا التغيير!
+ أمَّا مـن جهة ”يعقوب“، فما الذي غيَّره؟ لقد كان أحد أقارب الرب يسوع، وكان يُقاومه، كما كُتِبَ: «لأَنَّ إِخْوَتَهُ أَيْضاً لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِـهِ» (يـو 7: 5). ولكـن بعد القيامة، أصبح ”يعقوب“ شخصية رئيسية وسط التلاميـذ، وشهد عـن قيامة المسيح. ويذكر القديس بولس بصفةٍ خاصة، أنَّ الرب يسوع «ظَهَرَ لِيَعْقُوبَ» (1كـو 15: 7)، بعد أن ظَهَرَ «دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ» (1كو 15: 6).
توجيه ”غمالائيل“:
بعد قيامة الرب يسوع، رغب كثيرون من القادة اليهود أن يدلوا بآرائهم في الكرازة بقيامة المسيح. ولكن الرابِّي ”غمالائيل“ أدلى برأيـه بحَذَرٍ قائلاً: «اتركوا هؤلاء الرجال وشأنهم ولا تهتمُّوا بهم، لأن ما يُبشِّرون به أو ما يُعلِّمونه، يزول إذا كان من عند البشر. أمَّا إذا كـان مـن عند الله، فلا يمكنكم أن تُزيلوه لئلا تصيروا أعداء الله» (أع 5: 39،38 - الترجمة العربية الجديدة).
طبيعة برهان القيامة
إنَّ الدليل الذي لا جدال فيه عـن القيامة، هـو الجماعة المسيحية، أي الكنيسة نفسها. قد تكون هناك فرضيات ضرورية لتبرير تحوُّل تلاميذ المسيح من أتباعٍ حزانى لمسيحٍ مصلوب إلى ”كارزين بقيامة المسيح من الموت“، ما حوَّل العالم إلى العكس على خطٍّ مستقيم! هـذا التغيير مـا كان ليحدث، بحسب شهادة الكنيسة، حتى بعد صعود الرب القائـم مـن الموت (أي حتى في عدم وجوده بالجسد)، وبالتالي ما كانت توجـد كنيسة تتذكَّر وتؤمن بقيامة المسيح، وما كان هناك بشرٌ تغيَّرت حياتهم باللقاء مع الرب القائم من الموت، كل وقت، بل وكل لحظة!
(يتبع)
(1) Cyril of Jerusalem, Catech. XIV; FC 64, p. 46.
(2) Ibid, pp. 446,48.
(3) Catech. Lect. XIV; FC 64, p. 46.