دراسة الكتاب المقدس


مقدِّمات الأسفار
- 43 -

ثالثاً: الأسفار الشعرية

2 - سِفْر المزامير (1)

مقدِّمـة:

يُعتَبَر سِفْر المزامير أكبر الأسفار عامةً، ويمكن أن يُقال أيضاً إنه أكثرها شيوعاً وقراءة في الكتاب المقدَّس. فهو يَستعرِض مُجمل الحياة البشرية وخبرات‍ها بطريقةٍ عملية. وقد كُتِبَ على مدى فترةٍ تاريخية طويلة، استغرقت حقبة طويلة من تاريخ شعب إسرائيل. وإنَّ الاتِّساع المهول لمواضيع هـذا السِّفْر، يتضمن جوانب عديدة، مثل: التسبيح، الحروب، السلام، العبادة، القضاء، النبوَّات الماسيَّانية، التهليل، التاريخ، والرثاء. وقـد وُضِعَت المزامير ب‍مُصاحبة الآلات الموسيقية ذات الأوتار التي كانت تُستَخدَم في المعبد اليهودي ككتاب للتراتيل وكمُرشد للعبادة في الهيكل.

+ ويقول القديس أثناسيوس الرسولي:

[إنه مثل بستانٍ بـه كـل شيء، يتكلَّم من خلال اللحن، ويَعرض بالإضافة لِمَا هو عام، ما هو خاص من خلال التسابيح](1).

+ كما يقول الأب متى المسكين في دراسته لسِفْر المزامير (4 مُجلَّدات)، ال‍مُجلَّد الأول، المقدِّمة:

[المزامير - بحسب تعبير المسيح له المجد - قد قيلت بالروح: «لأَنَّ دَاودَ نَفْسَهُ قَالَ بِالرُّوحِ» (مر 12: 36). فنحن في مواجهة الكلمة الحيَّة، إذ قد نُطِقَت بالروح لتُسمَع وتُتَذوَّق وتُسبَّح (بالروح).

والمزامير هي مـن مُدوَّنات العهد القديم، فهي الأقرب مـن منابعه ولها ضياء وخبرات أنبيائه وقدِّيسيه الأوائل. هذه كانت قوَّت‍ها، أمَّا نعمتها الآن فهي في المسيح وصليبه. والمزامير من كنوز ومُميِّزات شعب إسرائيل وصدى أمجاد الهيكل. وقد نجحت الكنيسة في أن تسلب شعب الله المحبوب شيئاً من كنوزه وكثيراً من أمجاد هيكله، لأن المزامير في أصلها وتكوينها تسابيح قُدِّمت لله، وأفراح في زمانٍ ت‍هيَّأ أنـه نصرة، وزمانٍ ت‍هيَّأ أنه نحيب ومراثي. هذا سلبته الكنيسة وتعلَّمت كيف تُحوِّله جميعاً إلى تسبيح مجدٍ يدوم إنْ في هيكلها أو أفرادها. وشاكرة على كلِّ حالٍ، محتفظةً بغناها وكنوزها على مدى الأزمان، وبَقِيَت المزامير في أضعف فَهمٍ لها حديثاً مـع الله وصلاةً وأنيناً](2).

ولكن هناك فـرق كبير وهائل جدّاً بين الظروف التي قيلت من أجلها المزامير في أيام إسرائيل، وبين ما تُقال لأجله في الكنيسة اليوم. إلاَّ أنَّ الروح القدس الذي أَوحى لداود بنُطقها، يبقى هـو نفسه فوق الظروف والأزمان، مُحتفظاً بكونه نداءً لله بكـلِّ مشاعر الحب والشكر والتسبيح والرجاء والتوسُّل والصراخ. وما زال المزمور يُعبِّر عن أنَّات الروح التي لا يُنطَق ب‍ها، تشفع فينا أمام الله الآب.

وقد جُمِعَ سِفْر المزامير تدريجياً على مدى أحقاب طويلة وصار اسمه بالعبرية Sepher Tehillim، أي سِفْر المزامير، لأن كل مزمور تقريباً يتضمن بعضاً من التسبيح والحمد لله. واسم السِّفْر في الترجمة السبعينية يُدعَى Psalmoi أي المزامير، ومعناها تسابيح تُرنَّم مصحوبة بآلات موسيقية.

المؤلِّف:

لا يوجد سِفْر في الكتاب المقدَّس له مؤلِّفون كثيرون مثل سِفْر المزامير. فهناك 75 مزموراً منسوبة لداود النبي، و12 مزموراً منسوبة لآساف، وهو كاهن كان يرأس خورس التسبيح بالهيكل. وهناك 10 مزامير منسوبة لأبناء قورح، وهي فرقة مـن ال‍مُرنِّمين في الهيكل، ومزامير أخرى منسوبة لسليمان، وأخرى لموسى، وأخرى لهامان، وإيثان الإزراحي، وهيمان الإزراحي. وهناك 50 مزموراً غير معروف مؤلِّفها، غير أن بعضها يُنسَب لعزرا الكاتب. ولكن الترجمة السبعينية تُضيف مزموراً أخيراً ليصير العدد الإجمالي 151 مزموراً، وهو موجودٌ في النُّسخة القبطية، ويُقال في عنوانه إنه مكتوبٌ بواسطة داود، وله لحن خاص تبدأ به تسبحة ”أبو غالمسيس“.

تاريخ تأليفها:

المزامير أصلاً كانت - كما سبق وقلنا – مـن تأليف أفراد عديدين، وبمرور الزمن جُمِعَتْ في صورة كُتيبات. والكتاب الحالي يشمل خمسة من هذه الكتيبات. وأقدم المزامير هي تلك المنسوبة لموسى النبي على الأرجح (مز 90)، وأحدثها ربما يكون المزمور 137، الذي قد يكون تأليفه ليس قبل القرن السادس قبل الميلاد. ورغم أنَّ الكثير من المزامير قد كُتِبَت وجُمِعَت أيام حُكْم داود، أو بعد ذلك الوقت بقليل، إلاَّ أن تجميعها النهائي لم يكتمل سوى في النصف الأخير من القرن الخامس قبل الميلاد، في أيام عزرا ونحميا (450-425 ق.م).

التكوين الأدبي والروحي للسفر:

سِفْر المزامير، هو في الواقع، خمسة كُتب في كتابٍ واحـد، وهي الكتاب الأول من مز 1-41؛ الكتاب الثاني من مز 42-72؛ الكتاب الثالث من مز 73-89؛ الكتاب الرابع من مز 90-106؛ والكتاب الخامس من مز 107-150.

ينتهي كل كتاب بتمجيد، أي الذُّكصا الخاصة بالخدمة، وتأتي بصِيَغ مختلفة قليلاً عن بعضها البعض في ن‍هاية الكُتُب الأربعة الأولى، وهي: مز 41: 13؛ ومز 72: 19،18؛ ومز 89: 51؛ ومز 106: 48. أمَّا الكتاب الخامس فلا يوجد في آخره ذُكصا مُضافة، لكن المزمور الـ 150 بكامله يُعتَبَر ذكصولوجية كبيرة يُختَم ب‍ها سِفْر المزامير كله. علماً بأن تقسيم السِّفْر إلى خمسة كُتُب هو أسبق زمنياً من الترجمة السبعينية، فهو يأتي أصلاً في النُّسخة العبرية برسم خمسة أسفار موسى (التوراة). وقد أشار إليه كلٌّ من القدِّيسَيْن هيبوليتس وجيروم(3).

إلاَّ أنه يوجد تبويب آخر للمزامير بالنسبة لموضوعها قـد نشأ فيما بعد، وهـو مبنى على علاقتها بظروف الحياة المناسبة لها. فهناك مثلاً: مزامير المراثي، مزامير الشكر، مزامير التتويج، المزامير الملكية، مزامير الحكمة، مزامير التوبيخ. ويوجد تبويب آخر للمزامير، وهي: المزامير الشخصية، مزامير الصلاة، مزامير ليتورجية، مزامير تاريخية، مزامير الثناء، مزامير التوبيخ، المزامير الماسيَّانية، المزامير التي تُمجِّـد عظمة الله وجلاله. وبعض المزامير تتناسب بدقة مع فئة مُعينة، وأخرى تتناسب مع عدَّة فئات من المزامير.

ويحتل سِفْر المزامير عموماً موضعاً أثيراً في قلوب كل المؤمنين. ويشتمل على مجموعة من المشاعر البشرية التي تتراوح بين الحمد والتسبيح السماوي إلى الالتماسات غير المنضبطة للانتقام مـن العدو. كما نجد بعضاً من الكلمات التي قيلت بواسطة الرب يسوع وهو على الصليب، وأشهرها قوله: «إِلهِي إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي» (مز 22: 1). كما يتميَّز المزمور 51، الذي قدَّمه داود النبي والملك، بأنه أقوى صلاة توبة جاءت على لسان إنسان، طالباً المغفرة من الله والصفح عن خطاياه بتذلُّل وانسحاق شديدَين، حتى أنَّ الكنيسة أَخذت هذا المزمور ووضعته في مُقدِّمة كل صلاة من صلوات الأجبية. ولم يكتفِ ناظمو المزامير أن يُسبِّحوا الله الخالق على خِلْقته لكـلِّ الكائنات، بل نطقوا بتسبيحه بلسان السماء والأرض والكواكب والنجوم والبحار والأن‍هار والريـاح والأمطار والحيوانـات والطيور والزحَّافات (مز 136؛ مز 148).

وشِعْر المزامير لا يُضاهَى في فصاحته وأوزانه. وأكثر أنواعه ال‍مُتميِّزة في الشِّعر العبري هو الشعر المتوازي، وهو تماثُل الآية الأولى بالتي تليها. وهناك أهم أربعة أنواع منها، وهي:

1. التوازي ذو المعنى الواحد: مثل: «عِنْدَ خُرُوجِ إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ، وَبَيْتِ يَعْقُوبَ مِنْ شَعْبٍ أَعْجَمَ» (مز 114: 1).

2. متوازيات متقابلة: مثل: «لأَنَّ الرَّبَّ يَعْلَمُ طَرِيقَ الأَبْرَارِ، أَمَّا طَرِيقُ الأَشْرَارِ فَتَهْلِكُ» (مز 1: 6).

3. متوازيات مُركَّبة: مثل علاقة سبب بنتيجة، أو علاقة شرط بجواب شرط... إلخ. مثل: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي» (توازي بنائي) (مز 2: 6)، أو: «لاَ تَخْشَى مِنْ خَوْفِ اللَّيْلِ... وَلاَ مِنْ وَبَإٍ يَسْلُكُ فِي الدُّجَى، وَلاَ مِنْ هَلاَكٍ يُفْسِدُ فِي الظَّهِيرَةِ» (مز 91: 6،5).

4. متوازيات رمزيـة: حيث الشطر الأول يُصوِّر فكرة الشطر الثاني، مثل: «كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ، هكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اَللهُ» (مز 42: 1).

5. كما توجد 9 مزامير تتبع الترتيب الأبجدي العبري: وهي: مـز 9، 10، 25، 34، 111، 112، 119، 145. أو مزامير تتميَّز بأن أكثر مـن شطر مُتتابع من الشعر يبدأ بنفس الحرف الأبجدي العبري، وهكذا؛ مثل: مز 119، حيث 8 فقرات متتالية تبدأ بنفس الحرف في كلِّ مقطع شعري.

المزامير في ليتورجيا الكنيسة القبطية في العصر الحالي:

دخلت المزامير في كلِّ خدمات الليتورجيا في كلِّ المناسبات ابتداءً من تقديس طبخ الميرون، وتكريس بناء الكنيسة (تدشين الكنائس)، وفي تكريس الأسقف والكاهن والشمَّاس وباقي طغمات الخُدَّام. والصلاة على الرهبان والراهبات، والصلاة على الراقدين بكل رُتبهم، وفي خدمة القدَّاس الإلهي في رفع بخور عشية وباكر على مدار السنة، ومزمور إنجيل القدَّاس، وبقية القراءات. ثم المزامير في صلوات السواعي اليومية (الأجبية) النهارية والليلية. وكان الآباء الرهبان يصلُّون السواعي وكتاب المزامير مفتوحاً أمامهم باستمرار، فهُم يُسبِّحون في كلِّ ساعة من ساعات النهار والليل قدر ما يستطيعون دون تحديد، فريما يُكمِّلون قراءة المزامير كلها في يوم أو ثلاثة أيام أو خمسة أيام، على أن‍هم كلما ينتهون من الكتاب كله يبدأون من جديد. وكانت المزامير يُسبَّح ب‍ها وليس مجرَّد قراءة. كما كانت المزامير تُرتَّل أثناء صناعة القربان، وعند لِبْس الكاهن ملابسه الكهنوتية، وعند تقديم الحَمَل، وبعد قراءة الفصول، وقبل قراءة الإنجيل مباشرة، وفي قدَّاس تقديس القرابين، وفي تقديس ماء المعمودية، وأسرار الميرون ومسحة المرضى والزيجة، واحتفالات الأعياد وأسبوع الآلام، وسائر طقوس الكنيسة وخدمات‍ها.

كما كان للمزامير طرائق مُختلفة للتسبيح: فهناك الطريقة السنوية، والطريقة الفرايحي، والطريقة الكيهكية الخاصة بشهر كيهك، والطريقة الشعانيني الخاصة بأحد الشعانين وأعياد الصليب. كما كانت خدمة التسبيح في الكنيسة لا تُرافقها آلات موسيقية، سوى آلة أو آلتين هما: الدف والتريانتو لضبط الإيقاع. ويطول الحديث عن استخدامات الكنيسة للمزامير التي أسهب في دراستها الأب متى المسكين في مُجلَّداته عن سِفْر المزامير، وخاصةً المجلَّد الأول الخاص بالمقدِّمة. (يتبع)

(1) رسالة القديس أثناسيوس الرسولي إلى مارسيليوس، مؤسسة القديس أنطونيوس، ص 71.
(2) الأب متى ا لمسكين، ”دراسة في سِفْر المزامير“، المجلَّد الأول، المقدِّمة، ص 7.
(3) الأب متى ا لمسكين، ”دراسة في سِفْر المزامير“، المجلَّد الأول، المقدِّمة، ص 81.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis