تأملات روحية


«أرسل الله ابنه
مولوداً من امرأة»
(غل 4: 4)

«أرسل الله ابنه»:

لقـد تحدَّثنا في المقال السابق (عـدد ديسمبر 2018، ص20). عن خطة الله من نحو الإنسان، منذ أن خَلَقـه على صورتـه ومثاله، إذ رأى الله ذلك أنـه حسنٌ جداً. وقـد نَفَخَ الله في كيـان الإنسان روحـه القدوس لكي يطبع أو يختم فيـه ملامـح صورة الله الحقيقية، أي ابنه الوحيد، ويَهَبه القدرة على مُماثلة هـذه الصـورة الإلهية التي جُبِلَ الإنسـان على شبهها، إلى أن يصـل بالإنسان إلى كمال الشركة في الطبيعة الإلهية.

وبحسب هـذه الخطة الإلهية التي رسمها الله قبل تأسيس العالم، يتحقَّق ملكـوت الله بواسطة الإنسان، عندمـا يتمُّ التطابُـق بين الأصـل الإلهي (أي صـورة الله الحقيقية، ابنـه الوحيـد) وبين الصورة التي خُلِقَت على مثال هذا الأصل الإلهي.

ولكن، لم يستمر الحال هكذا طويلاً، إذ استمع الإنسان إلى غوايـة الحيَّة القديمة (إبليس)، ولم يخضع لوصية الله، وارتضى أن يصير إلهاً بدون نعمة الله؛ فسقط مـن النعمة الإلهية، وتعرَّى من الروح القدس الذي نَفَخَه الله في كيانه منذ خلقته. وكـانت النتيجة المأساويـة لذلك، أنْ تشـوَّهت صورة الله التي جُبِلَ الإنسـان على مثالها (دون أن يفقـد الصـورة نفسها)، وبالتالي فَقَدَ القـدرة على مُشابهة هـذه الصورة الإلهية، وبَدَأت تَدُبُّ في أوصاله عوامل الفساد والموت.

وكـان العلاج الإلهي بأنَّ صـورة الله الحقيقية الأصلية، أي ابن الله الحي، يتنازل ويتجسَّد ويصير إنساناً في ”ملء الزمان“، مع بقائـه إلهاً كما هـو بحسب طبيعته الإلهية؛ لكي يُعيد إلى الصورة التي جُبِلَ عليها الإنسان، والتي تشوَّهت بفعـل الخطية والتعدِّي؛ يُعيد بهاءها ويُجدِّد ملامحها الإلهية التي انطمست، ويَرُدّ الإنسان مرَّةً أخرى إلى رُتبته الأولى.

+ وفي هـذا الصدد يقول القديس أثناسيوس الرسولي:

[كما أنـه لـو كـانت هناك صورة لشخصٍ مرسومة على قماش مُثبَّت على لوحة خشبية وتلطَّخت هذه الصورة مـن الخارج بالأقذار، مِمَّا أدَّى إلى اختفاء ملامحها. ففي هذه الحالة لابـد مـن حضور صاحب الصورة نفسـه ثانيةً لكي يمكـن إعـادة تجديد الصورة على نفس قماش اللوحـة. فلا يُلقى بالقماش (وهو يقصـد هنا النفس البشريـة التي خُلِقَت على صـورة الله ومثاله)، لأن صورتـه رُسِمَت عليه، بل يُجدِّد الرسم عليه مرَّةً أخرى.

وعلى هذا النحو، فقد أتى إلى عالمنا كلِّي القداسـة ابـن الآب، إذ هـو صـورة الآب (الحقيقية)، لكي يُجدِّد الإنسان الذي خُلِقَ مرَّةً على صورتـه، ويُخلِّص مَن قد هلك بمغفرة الخطايا...

ولأن البشر قـد تركـوا التأمُّل في الله، وانحطَّت نظراتهم إلى أسفل كأنهم غاصوا في الأعماق، باحثين عـن الله في عالم الحسيَّات... لهـذا فـإنَّ مُحب البشـر ومُخلِّص الجميـع، كلمة الله، أَخَذَ لنفسه جسداً ومشى كإنسـانٍ بين البشر، وجذب أحاسيس كـل البشر نحو نفسه؛ لكي يستطيع أولئك... أن يُدركـوا الحقَّ عـن طريـق الأفعـال التي يعملها الرب بـواسطة جسده، وعن طريقه يعرفون الآب](1).

«... مولوداً من امرأة»:

إنَّ عبارة: «... مَوْلـُوداً مِـنِ امْـرَأَةٍ» ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما جاء في (تـك 3: 15،14): «فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْحَيَّـةِ (إبليس): ... وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَـرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُـوَ يَسْـحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ». ويُوضِّح إشعياء النبي في نبوَّتـه عـن ميلاد المسيَّا كلمة ”المرأة“، هكذا: «وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَـا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُـو اسْمَهُ ”عِمَّانُوئِيـلَ“ [«الَّذِي تَفْسِيرُهُ: ”اَللهُ مَعَنَا“» (مت 1: 23)]» (إش 7: 14).

ولذلك فإنَّ ”نسل المرأة“ الموعود به هـو ابن الله الحي، الرب يسوع المسيح، الذي تجسَّـد إذ اتَّحد لاهوته بطبيعتنا البشرية اتِّحاداً أقنومياً، مُشابهاً لنا في كـلِّ شيء ما خـلا الخطية، مُكمِّلاً تدبير الخلاص، بسَحْق رأس الحيَّـة أي إبليس، مـن خلال: تجسُّده، وآلامـه، وصَلْبه، وقيامته من بين الأمـوات، وصعوده إلى السموات، وجلوسه عـن يمين الآب، ثم إرساله وسَكْبـه الروح القدس بغنًى علينا من عند الآب.

أمَّا ”المرأة“ التي أَخَـذ ابـن الله جسـداً منها، فهي ”العذراء القديسـة مريم والدة الإله“، هـذه القديسـة التـي بشَّـرها الملاك جبرائيـل قـائلاً: «لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَـدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. وَهَـا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ»؛ والتي عندما استفسرت من الملاك مُتسائلة: «كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟»، أجابها الملاك: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ» (لو 1: 30-35).

+ وفي هـذا الصـدد يقول القديس كيرلس الكبير:

[لا يضطرب أحدٌ عندما يسمع أنَّ العذراء هي والـدة الإله. ولا يجب أن تمتلئ النفوس بعدم إيمـان اليهود أو بعدم تقوى الأُمم... فسـرُّ المسيح واضحٌ، لكنه لليهود عثرة ولليونانيين جهالة (1كـو 1: 23). أمَّا بالنسبة لنا نحـن الذين نعرفه فهـو سر الخلاص الذي يستحقُّ كـل إعجاب، وأعظم من أن يكون موضوع رَفْض أو عدم إيمانٍ من أحد.

وإذا كان هناك أحدٌ ما يتجرَّأ أو يُعلِّم بـأن الجسـد الترابي (وهنـا الإشارة إلى العذراء مـريم) هـو الذي وَلَدَ الطبيعة الإلهية غـير الجسدانية، أو أنَّ العذراء حَبِلَت بالطبيعة التي هي فوق كـل الخليقة، فإنَّ هذا هـو الجنون بعينه؛ لأن الطبيعة الإلهية ليست مـن تراب الأرض حتى تولَد منه (من التراب)، ولا تلك الخاضعة للفساد تصبح أُمّاً لعـدم الموت، ولا تلك الخاضعة للموت تلد الذي هو حياة الكل، ولا غير المادي يصبح ثمـرة للجسـد الذي بطبيعته خاضع للميلاد وله ابتداء في الزمان. فالجسد لا يمكنه أن يلد الذي لا بداية له.

لكننا نؤكِّـد أن الكلمة صار مـا نحـن (أي إنساناً)، وأَخَذَ جسداً مثل جسدنا، واتَّحد به اتِّحاداً حقيقياً بطريقةٍ فوق الإدراك والتعبير، وأنه تأنَّس ووُلِدَ حسب الجسد... (فـ) الكلمة هـو الله، لكنه تجسَّد وأيضاً وُلِدَ حسب الجسد وبطريقةٍ بشرية، لذلك تُدعى التي ولدته والدة الإله.

إذا لم تكن العذراء قد وَلَدَت الله، فلا يجب أن نُسمِّي المولود منها الله. ولكـن حيث إنَّ الكُتُب المُوحَى بها تدعوه الله المُتجسِّد، وحيث إنـه لا توجد وسيلة أخرى للتجسُّد إلاَّ الولادة مـن امرأة؛ فكيف لا نُسمِّي التي ولدته والدة الإله... (فـ) الذي وُلِدَ هو بالحقيقة الله](2).

+ وفي شرحـه لقانون الإيمان، يقـول أيضاً القديس كيرلس الكبير:

[... وتبعاً لذلك، فبعد أن أَثبت الآباء أنَّ الابن مـن نفس الجوهر مـع الآب، ومساوٍ له في المجد وفي العمل، كان من المُفيد أن يُذكِّرونا بتأنُّسه. وأعلنوا سـرَّ التدبير بالجسد مُحدِّدين بصـوابٍ تـام أن تقليد (أي تسليم) الإيمـان سيكون بسبب هذا كاملاً وكافياً في ذاته. فليس كافياً للذين يؤمنون بـه أن يوقِنوا ويُفكِّروا أنَّ الإله (الكلمة) وُلِدَ من الله الآب وهو من نفس الجوهـر معه ورَسْم أقنومـه (عـب 1: 3) (فحسب)؛ بل كان من الضروري أن يعرفوا، بالإضافة إلى ذلك، أنه تنازَل مُخلياً نفسه (من مجد الأُلوهة) من أجل خلاص الكل وحياتهم، وأَخَذَ صورة عبد، وجـاء إنساناً مولوداً مـن امرأة (غل 4: 4) بحسب الجسد.

وبسبب هـذا قالـوا (الآبـاء في ”قانـون الإيمان“): ”الذي لأجلنا نحـن البشـر ولأجـل خلاصنا، نزل وتجسَّد وتأنَّس“... وقـد قالوا إنه نزل لكي نعرف بهذا أنَّ الرب هـو فوق الكل بالطبيعة وبالمجد، وأيضاً نزل من أجلنا. وأنـا أعني أنـه كـانت له الرغبـة أن يـأتي إلى مُشابهتنـا ويُضيء على العالم بالجسـد... لأن الكلمة، الذي هـو الله، أَخَذَ جسدنا، ومـع ذلك فقـد بَقِيَ إلهاً... ولم يأخـذ جسـداً بـلا نفس (بشرية) - كما ظنَّ بعض الهراطقة - بـل بالحري جداً تُحييه نفسٌ عاقلة. لذلك قال الآباء إنَّ الكلمة الذي خرج مـن جوهر الآب، الابـن الوحيد، الإله الحق من الإله الحق، النور مـن النـور، الذي بـه خُلِقَت كـل الأشياء؛ نـزل وتجسَّـد وتأنَّس، أي إنـه احتمل الولادة بحسب الجسد مـن امرأة (العذراء القديسة مريم) وجاء في شكلنا، وهذا هو معنى أنه ”تأنَّس“](3).

«... مولوداً تحت الناموس»:

عبارة: «... مَوْلُـوداً تَحْتَ النَّامُـوسِ»، ليس معناها فقط أنَّ ذلك باعتبار أنَّ الرب يسوع، بحسب الجسد، مـن جنس اليهود؛ وإنما في مفهوم بولس الرسول، فإنَّ كـل البشر هم أساسـاً تحت الناموس - بطريقةٍ ما - وإن كـان اليهود هم الذين تحت ناموس موسى. ومع ذلك، ففي مفهوم العهد الجديد، فـإنَّ المسيح جـاء ليُتمِّم ويُكمِّل النامـوس الذي لم يستطع أي إنسانٍ أن يُكمِّـل متطلباتـه الثقيلة على النفس البشرية. ولذلك فعندما تقدَّم الرب يسوع ليعتمد من يد يوحنا المعمدان، قـال له: «اسْمَحِ الآنَ، لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ» (مت 3: 15). والبرُّ هنا هـو بـر النامـوس أو كمال الناموس الذي لم يستطع إنسـانٌ أن يُكمِّله بسـبب ضعف الإنسـان ونقصه، فجاء ابـن الله في الجسد ليُتمِّم برَّ الناموس.

+ ويقول القديس كيرلس الكبير في ”رسالته الفصحية الأولى“:

[المُخلِّص قبل التجسُّد، لم يكـن بعد قـد أَخَذَ شبهنا، ووُجِـدَ بعيداً عنَّا، لأن المسافات كانت كبيرة بـين الطبيعة البشريـة وطبيعة كلمـة الله... وعندمـا كُنَّا نُعاني آلامـاً كثيرة، فإنَّ المُخلِّص أضـاء علينا في الوقـت المُناسب، مولـوداً مـن امرأة حسب الجسـد، ليُخلِّص الإنسان مولـود المرأة ويُحرِّره من رباطات الموت... فـالمُخلِّص لم يمنحنا فقط عطيـة القيامة، ولكنـه كَسَرَ شوكة الجحيم، التي هي الخطية التي أصابتنا](4).

+ ويشـرح الأب متى المسكـين عبـارة: «... مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ»، قائلاً:

[إن كان (الرب يسوع) «مَوْلُوداً مِـنِ امْرَأَةٍ» يهوديـة تحت الناموس، فهو قـد وُلِدَ بالتالي ”تحت الناموس“ حتماً. إذن، فقـد وُلِدَ، بحسب فكـر القديس بولس، في بيت العبوديـة مـع كـلِّ إسـرائيل، ليُخرج إسرائيل مـن بيت السجن... «إِذْ مَحَا الصَّـكَّ الَّـذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ (الناموس)، الَّذِي كَانَ ضِدًّا لَنَا، وَقَـدْ رَفَعَـهُ مِـنَ الْوَسَـطِ (بيننا وبـين الشيطان) مُسَمِّراً إِيَّاهُ بِالْصَّلِيبِ» (كو 2: 14).

ولكن بَقِيَ المسيح تحت الناموس، ولكن دون سيادة النامـوس عليـه، إذ لم يعمـل خطية قط، والناموس قد جُعِلَ وتسيَّد فقط على التعدِّيات!! فبَقِيَ (المسيح) تحت الناموس، ولكن ليس تحت الخطية؛ فارتفع فوق الناموس، ليرفع الذين له فوق الناموس! ولكـن حينما «وَضَعَ (الله) عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إش 53: 6)، وأَخَذَ هـو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، «جَعَلَ (الله) الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا» (2كو 5: 21)، ليدخل مرَّةً أخرى تحت الناموس؛ ليحمل دينونة العالم كله، ثم إذ يقوم مـن المـوت، يطـرح الخطية - ومعها النامـوس - ويدوس الموت، ويلغي العقوبة، ويُخرجنا من تحت الخطية والناموس كإنسانٍ جديد، فنصير نحـن فيه بـرَّ الله... والقديس بولـس حينمـا يتكلَّـم عـن الناموس الذي حَمَله المسيح... يتذكَّـر جيِّداً أنـه حَمَل معه اللعنة والخطية...](5).

(1) ”تجسُّد الكلمة“، 14: 2،1؛ 15: 2.
(2) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 28.
(3) ”شرح قانون الإيمان“: 18-21.
(4) ”الرسالة الفصحية الأولى“، الفقرة الثانية.
(5) ”شـرح رسالـة القديس بولس الرسول إلى أهـل غلاطية“، الطبعة الأولى: 1996، ص 269،268.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis