ادخل إلى العمق


- 2 -
مفهوم الألم
من منظور مسيحي (1)

يقـول الرب يسوع: «وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً» (لـو 14: 27). ويقـول أيضاً: «مَـا أَضْيَـقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِيـنَ يَجِدُونَـهُ!» (مت 7: 14). والرسول بولس يهتف قائلاً: «إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ» (رو 8: 17).

مـن المُدهش في تعاليم الإنجيل والمسيحية، أننا نجـد مَزْجـاً عجيباً، وربـاطاً سـريّاً رائعاً لا ينفصل ما بين الآلام وقبولها (من أجل المسيح والإيمان)، من جهةٍ؛ وبين المجد المُعدِّ للمتألمين، والشهادة بأنهم تلاميذ المسيح، مـن جهةٍ أخرى، وأنهم مستحقُّون أن يتمتَّعوا بمجد قيامته وملكوته الأبـدي. بـل وصـار الفصل - في الإنجيل - مـا بـين الآلام (الصليـب)، والمجد (القيامة)، مستحيلاً.

ولكن يبقى السؤال الأهم: لماذا صارت الآلام ضـرورةً وعلامـةً للطريـق نحـو المجد في المسيحية؟ وهل من المنطقي أن يترك الله خليقته التي أحبها ودعاهـا إلى ملكوته وفرحه الأبدي، تُعاني مثل هذه الآلام؟ بل وأكثر مـن ذلك، نقرأ أنَّ الألم - في المسيحية - ليس مجـرَّد تجربة أو اختبار؛ وإنما هـو عطية وهِبَة يُعطيها المسيح لأحبَّائه ومُختاريه توازِي الإيمان نفسه!! إذ يقول بولس الرسول لأهـل فيلبِّي: «وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ الْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ» (في 1: 29).

فما هـو سرُّ عطية الآلام هذه في المسيحية؟ ولماذا اختصَّ بها الله المدعوين للإيمان باسمه، حتى صار وكأنَّ الإنسان المسيحي والألم وجهان لعملةٍ واحدة؟

هل الألم ضرورة في حياتنا؟

الألم والموت هما ثمـرة الخطية التي دخلت إلى الطبيعة البشرية، بواسطة أبوينا الأوَّلين، بعد السقوط: «لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رو 6: 23)، ومِـن ثمَّ صارت الآلام وصار الموت ثمناً غالياً دَفَعه الابن المُتجسِّد فداءً وكفَّارة من أجلنا، وقدَّمـه على الصليب لأجلنا، ليفتدينا مـن أنياب الموت، ويَهَبنا القيامة والحياة مرَّةً أخرى. ووهبنا نحـن أيضاً، نصيباً وشركةً في هذه الآلام، ليس بمنظور العقوبة والدينونة، وإنما كعطية نتأهَّل من قِبَلها إلى مجد قيامته ونصرته. فصارت لنا شركة الآلام مـع المسيح - بصَلْب ذواتنا وأهوائنا وكل مـا يرتبط بإنساننـا العتيق - مدخلاً وباباً آمِناً للشركة في استعلان قـوَّة قيامته وفاعليتها في حياتنا الجديدة.

ومثلما تخضـع السيارة المُحطَّمـة للسَمْكرة والطَّـرْق والحَـرْق في الأفـران، وذلـك ليس لتدميرها، بـل لإصـلاحها وإعادتها لصورتها الأولى؛ هكذا الإنسان لابـد له أن يجوز نيران الآلام والتجارب والدخـول مـن الباب الضيِّق، وصَلْب الجسد وأهوائه، حتى يتأهَّل - بقبوله هذا الأمر من الموت الإرادي - إلى مُعاينة نور قيامة المسيح وشركة القدِّيسين.

أهم أسباب سماح الله لنا بشركة (عطية) الآلام:

أولاً: في الآلام اختبارٌ لمحبتنا لله:

طَرَح إبليس بخبثٍ سؤاله أمام الله قديماً، بقوله عـن أيوب الصدِّيق: «هَلْ مَجَّاناً يَتَّقِي أَيُّوبُ اللهَ؟ أَلَيْسَ أَنَّكَ سَيَّجْتَ حَوْلَهُ وَحَوْلَ بَيْتِهِ وَحَوْلَ كُلِّ مَا لَهُ مِـنْ كُـلِّ نَاحِيَةٍ؟... وَلكِنِ ابْسِطْ يَدَكَ الآنَ وَمَسَّ كُـلَّ مَا لَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ» (أي 1: 9-11). وكأنما الشيطان في بحثه عـن تبريرٍ لسبب كمال سيرة أيوب مع الله، يُريـد أن يدَّعي أن ذلك لم يكن بسبب بـرِّ أيوب أو إيمانه بالله؛ وإنما ذلك يعود لكونه مُقابل عطايا وبركات منحها الله لأيـوب، لولاها مـا أَظهر محبته أو طاعته لله. فهي محبة نفعيَّة، أو مُقابـل مصلحة، أو اتِّقاء شـر أو غضب الله عليه؛ ولـذلك فهي محبة ناقصة وغير حقيقية.

لذلك سمح الله بتجارب متنوِّعـة لعبده البار أيوب، مُتيقِّناً مـن صِدْق محبته وصبره وإيمانه، والتي شَهِد عنهـا، ليُبرِّر عبده الأَمين، ويدحض كـل حجج إبليس، باختبار محبةٍ صعب وحقيقي، جازَه أيوب بنجاحٍ مُنقطع النظير.

«نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً»:

الآب أعلـن محبته لنا إذ أرسل ابنه الوحيد، وبَذَله على الصليب، ليحيا العالم به. وقد بيَّن الابن محبته لنا إذ «وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رو 5: 8). فمحبـة الله لنا هي محبة كاملة وسابقة، محفوظة لنا منذ بدء الخليقة وحتى نهاية الأزمنة، واستُعلِنَت لنا في ”مـلء الزمان“ لتحقِّق مشيئة الله مـن أجـل ردِّ الإنسان لرُتبته الأولى، وقد تطلَّبت مـن الآب أن يبذل ابنه على الصليب بعد عبوره الآلام، من أجل إتمام خلاص الإنسان؛ هذا فضلاً عـن كون هذه المحبة أيضاً هي محبة كاملة إلى المنتهى، ومحبـة دون أيِّ استحقاقٍ منَّا، أي أحبنا فضلاً. والرب يسوع سبق فكـرَّس لنا هـذه المحبة بدمـه المسفوك على الصليب، بعد أن جاز طريـق الآلام كله بنفسه، مُعطياً لنا مثالاً باجتياز هذا الطريق حتى من قَبل الصليب، حينما سَكَب نفسه سـرّاً وغَسَـل أقدام تلاميذه، مُعلِناً لهم أسرار العبور في هذا الطريق قبل استعلانـه الكامـل والنهائي على الصليب، وواهباً لنا عطية الشركة في هذا الطريق من أجل الشركة في أمجاد القيامة معه: «لأَنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ الْيَوْمَ كُلَّهُ» (مز 44: 22).

علامة هذه المحبة مـن جهتنا، وشهادة قبولنا حَمْل الصليب والسير في طريـق الآلام، يُستَدَلُّ عليها مـن مـدى فرحنا بالشركة في هذه الآلام وقبولها برضـا وسَعْي، وليس عـن اضطـرارٍ وحزن أو ضيق وتذمُّر، كقـول بولس الرسول: «الآنَ أَفْـرَحُ فِي آلاَمِي لأَجْلِكُمْ» (كو 1: 24)، وأيضاً: «أَمَّا هُمْ فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِنْ أَمَامَ الْمَجْمَعِ، لأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ» (أع 5: 41). وكما يقول القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة (القرن الثالث): ”فخـادم المسيح عرف أنـه يخلص بالخشبة (أي خشبة الصليب)، وينـال الإكليل بالخشبة (أي السير في طريق الآلام بفرح)“.

ثانياً: الآلام تفطمنا عن العالم:

حينما تُريد الأُم فطام طفلها، وتودُّ أن تمنعه من الاستمرار في الرضاعة والاعتماد على حياة التغذية الطفولية مـن ثدييها، فإنها تدهن صدرها بالصبَّار حتى يرتـد طفلها عـن الاعتماد على الرضاعة ليغتذي. هـذا السلوك ليس قسوةً مـن الأُم، وإلاَّ لعاش الطفل مُدلَّلاً، لا ينمو ولا يأخـذ مـن الغذاء مـا يُعينه على النموِّ والنُّضج؛ هكذا نحن أيضاً - على مثال الطفل الصغير «لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَنَاوَلُ اللَّبَنَ هُـوَ عَدِيمُ الْخِبْرَةِ فِي كَلاَمِ الْبِرِّ لأَنَّهُ طِفْلٌ» (عب 5: 13) - نصير غـير متمتِّعـين بغـذاء الروح اللائـق بالكاملين، الـذي يُنمينا في القامة والروح، ويفتح أعيننا على أسرار الملكوت المُعدِّ لنا.

فصـدر الأُم مثل الأرض التي تربطنا فكريّاً وجسدياً وعاطفياً بكلِّ مـا هـو للجسـد والعالم والغرائز، ويلزمنا أن ننفطم ونتحرَّر من أربطتها لنرتفع إلى فـوق حيث اهتمام الروح، لأن اهتمام الجسد هـو موتٌ وعداوة لله. لذلك صـار مـن الضروري أن نختَبِر الآلام والضيقات، لأنها هي وحدها القادرة على قطعنا عـن اهتمامات الجسد ورباطاته، مـن أجل السعي للارتواء من ينبوع الحياة الحقيقي.

الآلام والضيقات أيضاً هـي الوسيلة الإلهيـة التي وهبها الله لنا، لنختبر معجزة الموت الإرادي عن الخطية في حياتنا، فنستطيع تذوُّق عربون فرح القيامة للبرِّ مع المسيح. وكمثال لذلك، حبة الحنطة التي لا تؤتي ثمرها إلاَّ إذا ماتت ودُفِنَت في التراب، وحينئذ تُثمر ثمـراً وفيراً. فـالآلام والضيقات هي صـورة مُصغَّرة لشركـة الموت والقيامة مع المسيح، تماماً مثل حبة الحنطة.

ثالثاً: الآلام مصدر قوَّتنا: «تكفيك نعمتي»:

رغم أنَّ طريـق الآلام كَرْبٌ وضيقٌ، إلاَّ أنه يقودنا نحو الحياة الأبدية بكـلِّ أمجادها: «مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْـرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِيـنَ يَجِدُونَـهُ!» (مت 7: 14). ومع ما يبدو من صِعَاب، وربما مُتناقضات أمام المدعوين للسير في هـذا الدَّرب، إلاَّ أنـه يحمل لهم في طياته قوَّةً ومعونةً إلهية مُعضدة، وضمان نصرة وبركة عظيمة جداً. وليس أَدلُّ على ذلك، سوى ما حدث مع أبينا إبراهيم، الذي بعدما أَخَذ وَعْد البركة بنسلٍ مُتكاثر مثل نجـوم السماء، اصطدم بـأحداثٍ عصيبة، مثل: طـرد هاجر، ثم مُغادرة إسماعيل، ثم بطلب الرب منه أن يُقدِّم ابنه إسحق مُحرقة؛ وكلها أمور كان من الممكن أن تردَّه وتُزعزع إيمانه، إلاَّ أنه - ورغم عدم فهمه لبعض هذه الأمور وصعوبتها - أطاع وآمـن بالله، واحتمل كـل مـا دبَّره الله لحياته. فصار إيمان إبراهيم نوراً وبركةًً لكـلِّ الأجيال، وفَـرِحَ بتحقيق الموعد في ملء الزمان - بعين الرؤية الروحية – ونَظَرَ بالروح مجيء المسيح المُخلِّص من نسله، الذي به تبارَكَت كل الأُمم.

كذلك أبونا يعقوب، الذي ضربه ملاك الرب على حُقِّ فخذه - المُعتَبَر منطقة قوَّته - قد أعطاه الرب البركة، لأنه قَبِلَ الصراع والجهاد وتمسَّك بإلهه، وأيقن أنَّ قوَّته الحقيقية وبركته هي الرب، وأنه (أي الرب) هو قوَّة وحصن للمُلتجئين إليه.

وأيضاً في حياة بولس الرسول، نرى أنَّ الآلام قـد أُعطِيَت له كشوكةٍ في الجسد، ونال أتعاباً لا تُحصَى في كرازتـه، وتضرَّع مراراً إلى الله ليرفعها عنه؛ لكن الله أبقاها ليحفظه من السقوط، ويُصيِّره أعظم كـارز باسم المسيح، وشاهداً له ولمجده رغـم ضعف جسده: «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ» (2كو 12: 9).

الله، إذن، يستجيب لنا في ضيقنـا وآلامنـا وتجاربنا، حينما نطلبه، ولكن هذه الاستجابة قد تكون بالتأجيل أو الرفض، أو المعونة والتعضيد؛ إلاَّ أنـه في كـلِّ الأحـوال لـن يَدَع الإنسان يُجـرَّب أو يتألَّم فـوق طاقته أو احتماله، بـل سيُعطي له غلبة واحتمالاً ومعونـة ونصـرة في حينها الحسن، من أجـل إكمال خلاصه وسلامة نفسه وجسده وكل حياته.

المواجهة الخاطئة للآلام:

1. التذمُّر:

يُعرِّضنا التذمُّـر ورَفْض الضيقات الواقعـة علينا، لفقدان إكليل الحياة والمكافأة التي أعدَّها الله للصابرين بقوله: «بِصَبْرِكُمُ اقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ» (لو 21: 19)، وأيضاً: «الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ» (مت 10: 22).

التذمُّر وعدم احتمال التجارب يُنسينا مراحم الله الكثيرة في حياتنا - كل يوم وكل ساعة - وبالتالي يحرمنا من بركة الشُّكر لله، ويُفقدنا استمرار مراحمه وإحساناته علينا، لأنه ”ليس عطية بلا زيادة إلاَّ التي بلا شُكر“، كما يقول القديس مار إسحق السرياني (أواخر القرن السادس).

التذمُّـر يدفعنا - أحياناً - إلى الغضب، وإلى محاولة الانتقام لأنفسنا، فنخرج من دائرة رحمة الله وعنايتـه لنا، بالاعتماد على ذراعنا، فتتخلَّى عنَّا النعمة المؤازرة، لأنه هو القائل: «لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ» (رو 12: 19).

(يتبع)

**************************************************************************************************

دير القديس أنبا مقار

بتصريح سابق من الأب متى المسكين بالإعلان عن مشروع معونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل)، حيث يعول دير القديس أنبا مقار منذ عام 2000 مئات العائلات المُعدمة، ويمكن تقديم التقدمات في رقم الحساب الآتي:

21.130.153

دير القديس أنبا مقار

بنك كريدي أجريكول مصر - فرع نادي القاهرة

**************************************************************************************************

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis