دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

تدبير الروح القدس:

الروح القدس

وتأسيس الكنيسة

- 1 -

الكنيسة

- 6 -
علامات الكنيسة

يشير البند التاسع من قانون الإيمان إلى العلامات الأربع للكنيسة:

                                                       ”نؤمن بكنيسة واحدة، مقدسة، جامعة، رسولية“.

وتُعتبر هذه الصفات أساسية، أي أنه بدونها لا تكون ”الكنيسة“ هي الكنيسة المسيحية. ونفصِّل معنى العلامة الأولى بالشرح والتوضيح:

1 - كنيسة واحدة

تفيد الكلمة اليونانية التي وُضعت أصلاً في المجمع المسكوني الثاني بالقسطنطينية لتشير إلى واحدية الكنيسة بأنها واحدة عددياً m…an. فالكنيسة واحدة:

1 - فهي واحدة، أي تُرى من الداخل أنها واحدة، وليست منقسمة،

2 - وهي واحدة، أي تُرى من الخارج، وليس بجانبها كنيسة أخرى. ووحدتها تضمُّ ما ليس مختلفاً عن طبيعتها، بل باتفاق وإجماع داخلي على طبيعتها؛ كما يقول القديس بولس واصفاً الكنيسة الواحدة:

+ «جسدٌ واحد، وروحٌ واحد، كما دُعيتم أيضاً في رجاء دعوتكم الواحد. ربٌّ واحد، إيمانٌ واحد، معمودية واحدة. إلهٌ وآبٌ واحد للكل، الذي على الكل، وبالكل، وفي كلِّكم» (رسالة أفسس 4: 4-6).

ويلاحِظ القارئ أن هذه الآيات يتلوها المصلِّي بالأجبية المقدسة في صلاة باكر كل يوم، وقد وضعتها الكنيسة أمام أعين المؤمنين لكي يجتهدوا كل يوم أن يحفظوا وحدانية الكنيسة بالفعل وليس بالقول، فتجعلهم يقرأون أيضاً الآيات قبل السابق إيرادها: «فأطلب إليكم أنا الأسير في الرب أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دُعيتم إليها، بكل تواضع القلب والوداعة وطول الأناة، محتملين بعضكم بعضاً في المحبة، مسرعين إلى حِفظ وحدانية الروح برباط الصلح الكامل» (نص الأجبية المقدسة). فوحدانية الكنيسة هي العمل اليومي لكل المؤمنين، يحفظونها لأنها هي نتاج دعوتهم المقدسة وإيمانهم الواحد.

تعليم المسيح عن وحدة الكنيسة:

والمسيح يُصوِّر وحدة الكنيسة بالأمثال، فالرب يتكلَّم عن ”رعية واحدة“، و”حظيرة واحدة“، و”كرمة واحدة“، و”أساس واحد“، و”صخرة واحدة للكنيسة“. وهو يُقدِّم تعليماً واحداً، ومعمودية واحدة، وشركة واحدة. ثم هو - له المجد - في صلاته الشفاعية الكهنوتية ليلة آلامه في بستان جثسيماني يجعل هذه الوحدة موضوع طلبته من الآب قائلاً: «ليكون الجميع واحداً» (يو 17: 21).

+ والكنيسة هي واحدة، ليس فقط داخلياً، بل وأيضاً خارجياً. فوحدتها خارجياً تظهر في اعترافها الواحد بالإيمان، وفي وحدة خدماتها الليتورجية وأسرارها، وفي وحدة كهنوتها الموزِّع للنعمة، والذي يتعاقب من الرسل، وفي نظامها القانوني الكنسي المُسلَّم من الرسل والمجامع المسكونية والمكانية المقدسة.

+ والكنيسة هي واحدة لأنها أولاً - وقبل كل شيء - لها رأس واحد هو المسيح، ولها الروح القدس الواحد الذي يعطيها الحياة، والذي نصلِّي في الأجبية صباح كل يوم عنه: ”واحد هو الروح القدس المعزِّي، الواحد بأقنومه“، وفي القداس الإلهي: ”واحد هو الروح القدس“. فنحن لنا المسيح الواحد، وفينا الروح القدس الواحد، لأن لنا المعمودية الواحدة ذات القصد الواحد كقول الرسول بولس: «لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد... وجميعنا سُقينا روحاً واحداً» (1كو 12: 13).

فليس مسيحان بل مسيحٌ واحد لأن: «يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد» (عب 13: 8). وليس روحان قدوسان، بل هو الروح القدس الواحد الذي يحفظ وحدة الكنيسة.

+ ويتبع هذا أن الكنيسة هي الواحدة الوحيدة، والتي في جوهرها لا يمكن أن تتغيَّر على مرِّ الأجيال عن كونها جسد المسيح (بالرغم من محاولات ومجهودات بعض البشر لتحويلها عن طبيعتها)، وستبقى كما هي إلى نهاية الدهر.

+ لذلك، فمركز وحدة الكنيسة هو في المسيح وليس غيره، والقوة التي تؤدِّي إلى تحقيق هذه الوحدة هي الروح القدس، وليس أي عامل بشري آخر(1).

+ أما ما وراء هذه الوحدة، فهو عامل عميق سرِّي، ذلك هو وحدة الله المثلث الأقانيم؛ ذلك لأن المسيح في صلاته الشفاعية الكهنوتية ليلة آلامه صلَّى من أجل وحدة الكنيسة رافعاً هذه الوحدة إلى مستوى الوحدة بين الآب والابن (يو 17: 20-23).

وحدة الكنيسة تنبع من شركة جسد المسيح ودمه الأقدسين:

ويرى القديس بولس الرسول هذه الوحدة في شركة الجسد الواحد والدم الواحد اللذين لمخلِّصنا: «فإننا نحن الكثيرين خبزة واحدة، جسدٌ واحد، لأننا جميعنا نشترك في الخبزة الواحدة» (1كو 10: 17). من هذه الآية واضح أن وحدة الكنيسة هي - من جهة - وحدة عضوية، أي وحدة أعضاء تستمد حياتها من المسيح رأس الجسد الذي «به يتماسك الجسد كله، ويلتحم بفضل جميع المفاصل التي تقوم بحاجته، حتى إذا قام كلُّ جُزءٍ بعمله الخاص به، نما الجسد كلُّه وتكامل بنيانه بالمحبة» (أف 4: 16)، «الرأس الذي منه يتقوَّى الجسد كله ويتماسك بالأوصال والمفاصل لينمو كما يريد الله» (كولوسي 2: 19 - الترجمة العربية الجديدة).

تتقوَّى الوحدة بنعمة الروح القدس:

ومن جهة أخرى، الوحدة هي باطنية وليست مظهرية آلية. فهي تتقوَّى بنعمة الروح القدس الذي يبث في أعضاء الكنيسة المحبة الحيَّة المتبادلة، باتحادهم الدائم بجسد المسيح الواحد: أي بالمحبة بين المؤمنين أعضاء الجسد. بهذه المحبة تُستعلن الوحدة الباطنية للكنيسة خارجياً، كوحدة في الإيمان، وفي العبادة، وفي تدبير الكنيسة.

هل تتأثر هذه الوحدة بحالات الانشقاق أو الهرطقة؟

+ كلا طبعاً، فالوحدة في الإيمان والعقيدة والعبادة لا تتأثر بحالات الانفصال عن الكنيسة (بسبب الهرطقة أو الانشقاق) للجماعات المسيحية المختلفة، لأنها في الواقع هي خارج الكنيسة.

+ ولا هي تتمزَّق بالاختلافات غير الجوهرية في الليتورجيات بين الكنائس المختلفة، ولا بالأنماط الخارجية للتنظيم الإداري، ولا بالاختلافات الإدارية البسيطة في الكنائس المختلفة.

+ ولا هي تنتفي بسبب خلافات مؤقتة زمنياً غير مبنية على خلافات عقائدية.

مِمَّ تتكون هذه الخلافات المؤقتة بين الكنائس إذن؟

1. إما بسبب ضياع معرفة الواحد بالآخر في خضمِّ مجادلات غبية (2تي 2: 23)، أو في ضياع المواجهة الشخصية بالحوار الإيجابي البنَّاء بين الكنائس، أو بين أعضاء الكنيسة الواحدة بعضهم بالبعض.

2. وكثيراً ما يحدث كسرٌ للشركة بسبب أخطاء رؤساء الكنائس، أو القسوة في تعاملهم بعضهم مع البعض، أو مع أعضاء كنائسهم، مما يبث المشاعر السلبية في النفوس فتضيع المحبة وسط الأحقاد والتصادم، وتنشأ شِيَع وفِرَق تهجر هذه الكنيسة وتُحدِث فجوة مع الكنائس الأخرى.

3. وقد يكون السبب في كسر الشركة تعدِّي رؤساء الكنائس لقوانين الكنيسة أو التعليم اللاهوتي الصحيح، مما يؤثِّر على المحبة والسلام في قلوب المتضرِّرين من هذا التعدِّي، أو الجنوح عن التعليم الأرثوذكسي، مهما كانت التبريرات والحجج والتفسيرات التعسفية لهذا الجنوح.

4. كما قد تحدث اضطرابات داخل كنيسة شقيقة تؤدِّي إلى تعطيل وإعاقة الشركة مع باقي الكنائس، إلى أن ينتصر الحق المسيحي والأرثوذكسي الأصيل داخل هذه الكنيسة، وتعود العلاقات كما كانت.

5. كما قد تتمزَّق الرابطة بين كنيسة وأخرى بسبب أحوال سياسية في الدولة التي تعيش فيها هذه الكنيسة، إلى أن تنصلح الأحوال السياسية وتعود الشركة مرة أخرى.

وهذه هي الحالات الخمس التي حدثت كثيراً في التاريخ.

حِرْص آباء الكنيسة على وحدة الكنيسة:

1 - من خلال القانون الكنسي: فقد حذَّرت القوانين الكنسية من استخدام الأسقف للحرم الكنسي في غير ما وُضِع له (وهو فقط للهراطقة والمرتدِّين عن الإيمان)، ودَعَتْه إلى أن ”يعقد“ المخالفين بالصليب لا بالحرم (أي يعقدهم بالتأديب الكنسي)، وحذَّرته وحذَّرت الكنيسة كلها من ترك مثل هذا الرئيس ”يتعدَّى على خراف المسيح الذين اشتراهم بدمه الزكي، ولا يغيظهم ويضطرهم إلى التجديف على الله وديانته المقدَّسة“، وهذا هو أصل الانفصال والانشقاق (قانون 24 من قوانين الرسل).

كما حذَّرت الكنيسة من إخراج أحد من شركة الكنيسة بغير محاكمة عادلة ”لئلا يُمسَك بحزن قلب وصغر قلب، وهكذا إما يذهب إلى الأمم فيضلُّ، أو يسقط ويؤسَر في الشِّيَع المُخالفة“. وهذا هو أحد أسباب كسر الوحدة في الكنيسة وتقع مسئوليته على الرئيس المتسبِّب في ذلك (كما في الفصل الرابع من كتاب ”الدسقولية“).

2 - من خلال صلوات الكنيسة: ففي أوشية الاجتماعات تطلب الكنيسة بفم الكاهن: ”الشكوك وفاعليها أبْطِلهم، ولينْقَضِ افتراق فساد البِدَع“ (القداس الكيرلسي)؛ وأيضاً في أوشية السلامة: ”اذكر يا رب سلامة كنيستك الواحدة الوحيدة المقدسة الجامعة الرسولية“ (أواشي رفع البخور). والسلامة هنا تعني تماسُك الكنيسة وعدم الانقسام، والوحدة والصحة الروحية للكنيسة.

وفي القداس الغريغوري تصلِّي الكنيسة هذه الطلْبة: ”لتنقَضِ افتراقات الكنيسة، حِلّ تعاظُم أهل البِدَع ونحن كلنا احسبنا في وحدانية التقوى“.

وعند هذا التعبير: ”وحدانية التقوى“ الذي نصلِّي من أجل أن يجعلنا الله مشمولين بها، نقف أمام الفكر الروحي للوحدة كما عرضه الأب متى المسكين في كتابه ”الوحدة المسيحية“:

[إن كنا نريد وحدة حقيقية، يلزم أن نطلبها ونبحث عنها في الله وبحضوره وليس كموضوع نظري منفصل عن الله، مهما كان هذا الموضوع لاهوتياً شكلاً. في الحضور الإلهي يعمل الذهن ”كاستجابة“ للحضور الإلهي، هذه الاستجابة تكون صادرة من مفاعيل في القلب أقوى وأشدّ، هي صدى الإلهام الذي يُلازِم الحضور الإلهي.

والوحدة في حضور الله تكون قائمة ومنظورة، بل غامرة ومُعاشة، وكثيرون يعيشونها. حينما يحضر المسيح في وسط الجماعة، يبدأ كل واحد يملأ عينيه وقلبه من الوحدة الحقيقية، ويهيئ كيانه لقبولها وعطائها].

”الوحدة المسيحية“ - صفحة 11،10

(يتبع)

 

(1) وكمثل لهذه العوامل البشرية، ما كشفه الأب متى المسكين في كتابه عن: ”الوحدة المسيحية“ الذي صدر عام 1965، عن خطورة ”التكتُّل“ لمواجهة ظلم أو اضطهاد أو فقر يقع على الكنيسة، فعَرْض هذا التكتُّل على كنيسة تواجه عوامل مضادة هو امتحان لضميرها أقسى من الاضطهاد الذي تُعانيه ألف مرة (صفحة 12 من الطبعة الأولى - يناير 1965)!