قد تقف أحياناً أمام وصايا الرب يسوع مُتحيِّراً وكأنك لا تفهمها؛ إذ تبدو للوهلة الأولى أنها تتناقض مع المتعارَف عليه في المجتمع. فكيف تموت لكي تحيا؟ تتعب لكي تستريح؟ تُعطي لكي تأخذ أكثر؟ إن وصايا المسيح تضعك وجهاً لوجه أمام حقيقة أنك لا يمكنك أن تعرف كل أسرار الحياة، ولكنك يجب أن تُصدِّق ذاك الذي صمَّم هذه الحياة، وصمَّم لك كيف تحياها! إن التأمُّل في تلك المفارقات، أو إذا صحَّ التعبير ”التضادات“ في وصايا الرب يسوع، يجعلك تثق في شخص المسيح ووصاياه أكثر فأكثر، وتختبر السلام الذي يستطيع هو وحده أن يَهبَك إيَّاه. وهنا نعرض لبعض هذه الوصايا التي تحمل مفارقات: - التعب يؤدِّي إلى الراحة: + «احملوا نيري عليكم وتعلَّموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحةً لنفوسكم. لأن نيري هيِّن وحِمْلي خفيف» (مت 11: 30،29). والمسيح بهذه الوصية يدعو التعابى وحاملي الأحمال الثقيلة إلى المجيء إليه: «وأنا أُريحكم». وإذا بالراحة عند المسيح هي أن يحملوا ”نيره“. والنير - لمن لا يعرف - هو الخشبة الثقيلة التي يضعونها على رقبة الحيوانين اللذين يُديران الساقية معاً أو يجرَّان المحراث في الريف. هذا النير هو تشبيه للتلمذة للمسيح التي تتطلَّب من الإنسان أن يُعطي حياته كلها للمسيح - مهما كانت دعوته في العالم - وهذا يتطلَّب أن يطيع الإنسان وصايا المسيح كتلميذ يُنفِّذ تعاليم مُعلِّمه. لكن المسيح يُطمئن تلميذه أن هذا النير ”هيِّن وخفيف“، وهو يقصد أن المسيح نفسه يضع عنقه أي كل قوته مع الذي يحمل نير المسيح، فيكون الثقل كله على المسيح، ولكن الظاهر أن التلميذ هو الذي يحمل النير. لذلك يقول القديس يوحنا، عن اختبار لهذه التلمذة الحقيقية: «ووصاياه ليست ثقيلة» (1يو 5: 3). وتكون النتيجة: سيجد التلميذ راحةً وسلاماً وفرحاً ونشاطاً وطاقةً، كما يقويك الله ويعطيك. اقضِ وقتاً طويلاً في الصلاة، واعلم أن همومك وأحمالك يشترك معك المسيح في حملها بالنصيب الأكبر (نصيب الأسد). وستختبر صِدق وصية المسيح: «وأنا أُريحكم». - السلوك بالإيمان وليس بالعيان: + «لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان» (2كو 5: 7). وهنا يجب أن تتحقق من الفرق بين ”العيان“ أي ”الرؤية بالعينين“ وبين ”الرؤية الباطنية“. في العالم يوجد الكثير ما لا يمكن للعينين أن تراه. اسأل الله أن يُعطيك الإيمان حتى ترى وترى الكثير والكثير كما يراه هو. وبدلاً من أن تجعل ثقتك واتكالك على ما تراه فقط رؤيا العين (وهو وقتي وزائل)، ضَعْ ثقتك فيما تراه بالإيمان ما لا تراه العين (وهو أبدي ودائم ومضمون). ضَعْ أحلامك وآمالك في يدي الله، عارفاً أن الله يرتب لك ما يفوق رؤيتك بالعين، وأنت سائر في طريق الحياة. اخترْ أن تحيا ليس بحسب رؤيتك المحدودة، بل بحسب الإمكانيات التي بلا حدود التي يضعها الله تحت تصرفك. فقط ابدأ بحياة الإيمان وستسلك بعد ذلك في رُحُب الحياة مع الله. - أعطِ لكي تأخذ أكثر: + «أعطوا تُعْطَوْا، كيلاً جيداً ملبَّداً مهزوزاً فائضاً يعطون في أحضانكم» (لو 6: 38). اعلم جيداً أنك يمكنك أن تختبر جداً غِنَى الله حينما تُعطي بدلاً من أن تحبس ما عندك عن الله في أشخاص المحتاجين والفقراء. إن الله يريدك أن تختبر، من خلال العطاء، أموراً فائقة على ما يفكر فيه الذين ليسوا في صفوف التلمذة للمسيح. واعلم أن السعادة لا تأتي من الربح المادي (اسأل في هذا كبار الأغنياء)، بل من التشبُّه بالله الذي ”يُعطي بسخاء ولا يُعيِّر“ (انظر يع 1: 5). الله يحميك من الأنانية التي تسرق منك كل فرح. وقِسْ حياتك على ما أنت عليه وليس على ما تمتلكه. واعلم أن اعتزاز الله بك يرجع، لا إلى غِنَى ممتلكاتك، بل إلى أنك عزيز في عيني الله بما لا يُقدَّر بمال، حتى ولو كنت مفلساً مادياً. فكل ما عندك أو ما أنت فيه هو عطية من الله، والكل من الله ولله في النهاية. فاحرص أن تستخدم هذه العطايا بإشراك الآخرين كما يرشدك الله. وفي النهاية ستختبر الفرح الكبير الذي من الله، الذي هو أثمن من كل ما عندك. - اطلُبْ حكمة الله التي تبدو جهالة عند الناس، لكي تصير حكيماً عند الله: + «لا يخدعن أحد نفسه. إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر، فلْيَصِرْ جاهلاً لكي يصير حكيماً. لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله، لأنه مكتوب: ”الآخِذ الحكماء بمكرهم“» (1كو 3: 19،18). من السهل البحث عن الحكمة في الأماكن الخاطئة وعند الأشخاص الخاطئين! وكم من شباب ورجال ونساء هلكوا بعد أن أخذوا الحكمة من غير مصدرها الإلهي المضمون في هذا العالم الملوث بالسقوط والخطية؟ ومصدر الحكمة الوحيد والمضمون هو الله. والاتضاع والإحساس بالرغبة الدائمة في التعلُّم هما الطريق لنوال الحكمة الإلهية الحقيقية. والله أعظم من أن تحتويه عقول الذين يظنون في أنفسهم أنهم حكماء. لكن الروح القدس حينما يسكن في الإنسان المتضع، يسكب في ذهنه مبادئ الحكمة الإلهية التي ترشده في طريق حياته. يتوه الناس في طلب الحكمة حينما يتجاهلون مصدر الحكمة ومانح الحكمة، الله بالروح القدس الذي سكبه فينا. اسأل الله أن يعطيك الحكمة بالروح القدس الذي فيك من خلال الصلاة المستمرة، والتأمُّل العميق في كلمة الله في الكتاب المقدس، وباختبار وصايا المسيح بأمانة وحرص، والإنصات دائماً إلى صوت ضميرك لأنه عن طريقه يُعرِّفك الروح القدس بمشيئة الله. - اخْدِمْ لكي تملك! + «مَن أراد أن يصير فيكم عظيماً يكون لكم خادماً. ومَن أراد أن يصير فيكم أولاً يكون للجميع عبداً. لأن ابن الإنسان أيضاً لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مر 10: 43-45). هذه أصعب المفارقات والتضادات في وصايا الرب يسوع، ولكنها مفارقة وتضادة صادقة وصحيحة. ولابد أن تعرف أن الحياة التي عاشها المسيح هي النموذج الذي يجب أن يعيش عليه كل البشر، حتى إذا عاشوا هكذا عمَّ السلام وانفضَّت الحروب وتكسَّرت كل الأسلحة. وصايا المسيح هي خلاصة حياته. وقد قالها المسيح لتلاميذه ليلة آلامه بعد أن سلَّم نفسه للموت بإرادته قبل أن يُسلِّمه يهوذا، كخاتمة لخدمته كعبد وسط البشرية، ولكن كبداية لمجد الرئاسة والسلطان على الحياة ليُعطيها لمَن يشاء: «لأن مَن هو أكبر: الذي يتَّكئ أم الذي يخدم. ولكني أنا بينكم كالذي يخدم» (لو 22: 27)، «فإن كنتُ وأنا السيِّد والمعلِّم قد غسلتُ أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض. لأني أعطيتكم مثالاً حتى كما صنعتُ أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً. الحق الحق أقول لكم: إنه ليس عبدٌ أعظم من سيده، ولا رسول أعظم من مُرسله. إن علمتم هذا فطوباكم إن عملتموه» (يو 13: 14-17). يُحتِّم المسيح أن نفعل كلنا هكذا، لأننا لسنا أعظم من سيدنا ولا من مُرسلنا. فإن لم نفعل ذلك تحت أية حجة أو عذر؛ فها النتيجة أمامنا: العالم المضطرب أمامنا، والحروب تكوينا، والنزاعات تدمِّر البشرية في كل مكان! فلتسأل المسيح أيها الأب والأُم والمعلِّم ورئيس العمل وكل مَن تحت سلطانه مرؤوسون وتلاميذ وعمال، أن يُعطيك التواضع الذي تحتاجه لتُحوِّل التركيز من على شخصك إليه هو وإلى الآخرين المحتاجين أن يشاركوك في محبتك له. - أصعب اختبار: تموت لكي تحيا: + «لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه، بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضاً. فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً: الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون مُعادِلاً لله. لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد، صائراً في شِبه الناس. وإذ وُجِدَ في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب. لذلك رفَّعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم» (في 2: 4-9). الجميع يطلبون الحياة بأن يهربوا من الموت! والهروب من الموت له أشكال وطرق كثيرة، ولكنها تؤول في النهاية إلى الموت. لكن المسيح وضع هذه التضادة الصعبة لكن المضمونة: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي فليُنكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. فإنَّ مَن أراد أن يُخلِّص نفسه يُهلكها، ومَن يُهلك نفسه من أجلي يجدها» (مت 16: 25،24). وتطبيق هذه الكلمات سيجدها كل مَن أتى إلى المسيح وثبت فيه، وصار مع المسيح في كل أحوال حياته، حتى أنه يستطيع أن يقول عن إحساس حقيقي: «مع المسيح صُلبت» (غل 2: 20)، و«مدفونين معه» (كو 2: 12)، و«إن كنا نتألم معه لكي نتمجَّد أيضاً معه» (رو 8: 17)، وغير هذه من مقولات إنجيلية ورسولية. لأن اختبار الموت مع المسيح ومن أجل المسيح مضادٌ للطبيعة البشرية، إلاَّ بعد أن تكون قد تقدَّست بمعمودية المسيح واصطبغت معه على الصليب. أما الهروب من الآلام والضيقات، أو التذمُّر عليها، أو مقاومتها، أو حتى مجرد الخوف منها؛ فهذا كفيل بتعجيل ساعة الموت. أما الأتقياء والشهداء وكل مَنْ واجه الموت كل يوم، كقول بولس الرسول: «من أجلك نُمات كل النهار» (رو 8: 36)؛ فهولاء يكون موتهم في النهاية بمثابة عبور، والقبر يصير لهم معبراً إلى الحياة. *************************************** هل قرأت هذا الكتاب للأب متى المسكين؟ ” كلمة الله - شهادة وخدمة وحياة“
في هذا الكتاب يجتهد الكاتب ليجعل الكلمة قريبة لقلب الإنسان ومحبوبة، ليُعظِّم كلمة الله في عينيه، ويُكرِّمها، ويُقدِّسها من كل قلبه. وحينما يفعل ذلك فهو يؤدِّي الشهادة لكلمة الله بحياته وتسبيحه وبتعظيمه إيَّاها. وهذه هي الخطوة نحو الخدمة. فالخدمة لا تخرج عن كونها شهادة. وأعظم أنواع الشهادة هي الشهادة بالحياة بحسب كلمة الله. ليت الرب يفتح قلوبنا لتقبُّل بذار كلمة الله لتُثمر ثلاثين وستين ومائة. ? [إذا آمن الإنسان بكلمة الله الروحية وتقبَّلها في قلبه، ينتقل الإنسان (بالقيامة) من حتمية القوانين الطبيعية، ولا يصير بعد تحت اضطرارها، سواء في داخل الجسد أو خارجه، كما رأينا في قيامة المسيح... الإنسان يستمد من قوة كلمة الله ومن استسلامه لسلطانها قدرة جديدة يتحرر بها من عوامل الشد والجذب في داخل الجسد وفي خارجه، كما يتحرر من ميول كثيرة طبيعية غير نقية]. ******************** الأب متى المسكين - ”كلمة الله - شهادة وخدمة وحياة“ |