انتقال راهب فاضل


الأب الراهب إيرينيئوس
الراهب المجاهد
(وُلد في 21/11/1949م؛
وتنيَّح في 24/12/2016م)



+ «نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (مت 25: 21).

فجأةً، ودون أن يتوقَّع أحدٌ رحيلك عنَّا، وبينما كنتَ تبدو في ملء نشاطك وإشراقة وجهك، ودون أن تشكو من أيِّ وَجَعٍ أو أَلمٍ، وبدون أيِّ مُقدِّمات تُشير إلى مرضٍ يستلزم علاجاً؛ رقدتَ في فراشك ب‍هدوء، واستغرقتَ في نومٍ عميق بلا حِراك، وطال استغراقك في نومك، دون أن تَرُدَّ على كلِّ مَن اتصل بك، وكان ذلك على غير عادتك، مما أثار تعجُّبنا.

فهرعنا للاطمئنان عليك، ولكننا وجدنا أنك قد آثرتَ الصمت الذي طال إلى عشرة أيام، رغم كل المحاولات التي حاولها الأطباء لإيقاظك من نومك الصامت العميق.

وأخيراً، انطلقتْ روحك وتحرَّرت من جسدك، صاعدةً إلى باريها. وكان ذلك في فجر الرابع والعشرين من ديسمبر 2016م، بينما يستعدُّ إخوتنا مسيحيو الغرب للاحتفال بعيد ميلاد المسيح مُخلِّص العالم، لتحتفل معهم كعادتك بروحك التي انطلقتْ لتُشارِك السمائيين.

كنتَ كعادتك كل يوم تخرج من قلايتك في الصباح الباكر بشوشاً مستبشراً، تُلقي سلامك على كلِّ مَن تُقابله بابتسامة رقيقة، وكأنك تؤكِّد لنا أنَّ اسمك الذي دُعيتَ به في يوم رسامتك راهباً في ليلة سبت النور عام 1977م، هو مُطابق لسماتِكَ التي تشعُّ بالسلام والتي تُشيع السلام.

كان نزولك كل صباح مُبكِّراً لتبدأ يومك بالعناية بالزهور التي غرستها بيديك، فتسقيها وتُشذِّب‍ها وترعاها بعنايتك، لأنك كنتَ مُحبّاً للطبيعة وجمالها وحُسْن تنسيقها؛ لأن الربَّ قد وهبك لمسة فنية، وذوقاً رفيعاً، وإحساساً مُرهفاً، وأمانةً وإخلاصاً لكلِّ عملٍ يُسلَّم إليك، حتى أنَّ الأب الروحي كلَّفك برسم عدَّة أيقونات بكنائس الدير.

ولَمَّا كنتَ مسئولاً عن استقبال الزوَّار الأجانب، وصل اهتمامك ب‍هذا الأَمر أن ت‍هتم بتعلُّم لُغات‍هم بمجهودك الشخصي، فثابرتَ على الدراسة حتى أتقنتَ شرح معالم الدير باللُّغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، مِمَّا كان يُذهِل ويُفرِح هؤلاء الزوَّار ويُسعدهم ويربطهم بك. كما أعددتَ لهم مكتبةً أنيقة تحتوي مطبوعاتٍ بلُغات‍هم، وهدايا قيِّمة عن معالم الدير وآثار مصر لتُدخِل الفرح إلى قلوب‍هم. وكان هذا كله من منطَلَق رغبتك لأن تكون أميناً ومُتقِناً في كلِّ ما تُكلَّف به.

لم تكن تبغي شُكراً من أحدٍ، بل كنتَ تعمل كل شيء تكريماً لاسم الرب، وحبّاً وإخلاصاً لديرك، وسعياً في إدخال المسرَّة والفرح في قلوب الجميع، وتقديم أفضل ما يمكن تقديمه لمجد المسيح وبنيان الكنيسة.

أمَّا عن جهادك الروحي، فقد كنتَ أميناً في حياتك الرهبانية والروحية التي انعكس أثرها على كل ما كانت تمتدُّ إليه يدك وسلوكك بين إخوتك وكل مَن تتعامل معهم.

لم تطلب مراكز ولا رُتباً كنسية، ولم تسعَ لكي تُرسم كاهناً، مع أنك كنتَ من الآباء القدامى في رهبنتك، فلك في الرهبنة 40 عاماً. وكان من مبادئك أن لا تتكلَّم عن نفسك أو تفتخر بمؤهِّلاتك الدراسية.

كما كنتَ تعمل بوصية أبينا الروحي أنَّ الراهب عليه واجبات وليس له حقوق. فلم تكن تشكو من أحدٍ، ولم تطلب شيئاً من أحدٍ. فقد كنتَ مكتفياً بما أنت فيه. وقد حكى لي أحد أحبَّاء الدير، أنك قلتَ له في ظروفٍ مَرَّتْ بالدير جعلتْ بعض الرهبان يَشتكون له من الظُّلم الواقع عليهم، فعلَّقتَ على ذلك قائلاً: ”إنَّ الراهب لا يشكو لأحدٍ من أيِّ ظُلم أو اضطهاد، وإنما يرفع شكواه إلى الله وحده“.

لذلك فإنك لم تَشْكُ يوماً من مرضٍ، ولا طلبتَ أن تذهب إلى طبيبٍ مع أنك كانتَ حاصلاً على بكالوريوس صيدلة عام 1973م، فكنتَ تُداوي نفسك بأقل العلاجات.

كما إنك لم تطلب شيئاً خاصّاً لك، بل كنتَ مُكتفياً بما كان يُعطَى لكلِّ الرهبان. فلا اقتنيتَ موبايل أو كمبيوتر ولا أي جهاز من الأجهزة الإلكترونية التي كان يعرضها عليك أحبَّاؤك من الزوَّار ورفضتها، مُفضِّلاً أن تعيش فقيراً في حياتك، زاهداً وناسكاً وعابداً في صمتٍ.

لقد عشتَ راهباً، وانتقلتَ إلى السماء في هدوءٍ مُتجرِّداً من كلِّ مظاهر العالم الفانية. ولما دُعِيتَ فجأةً، كـان مصباحك مُضاءاً، وآنيتك ملآنـة زيتاً، ودخلتَ عشاء عُرْس الخروف مـع طغمات البتوليين والعذارى الحكيمات.

فطوباك أيها الحبيب المُبارَك، لأنك أكملتَ السَّعي، وحَفِظتَ الإيمان، وأخيراً وُضِعَ لك إكليل البرِّ.

الراهب يوحنا المقاري

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis