طعام الأقوياء
- 71 -



«في ما هو قد تألَّم مُجرَّباً
يقدر أن يُعين المُجرَّبين»
(عب 2: 18)

+ «من أجلكم افتقر وهو غَنيٌّ، لكي تَسْتَغنُوا أنتم بفقره» (2كو 8: 9).

مُقدِّمة:

حينما تجسَّـد الله الكلمة وصار إنسانـاً مثلنا ما خلا الخطية وحدها، كان قصده ليس فقط أن يفتدينا بدمه، بل أن يُقدِّم لنا نفسه مثالاً في كلِّ شيء وفي كـلِّ مراحل حياتنا لكي نقتدي بـه، ولكي يغلب عدوَّنا إبليس الحيَّة القديمة الذي أعلن الحرب من البدء على رئيس جنسنا آدم وناصَبَه العداء، وأسقطه في التعدِّي، وتسبَّب في طرده من الجنة والحُكْم عليه بالموت. من أجل هذا قال بولس الرسول عن الله الكلمة: «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولئِكَ الَّذِينَ - خَوْفاً مِـنَ الْمَوْتِ - كَانُوا جَمِيعاً كُـلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ» (عب 2: 15،14).

لذلك، كان حُكْم الله على الحيَّة بعد سقوط آدم: «لأَنَّكِ فَعَلْتِ هذَا، مَلْعُونَةٌ أَنْتِ مِنْ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ وَمِنْ جَمِيعِ وُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ. عَلَى بَطْنِكِ تَسْعَيْنَ وَتُرَاباً تَأْكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ. وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُـوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تك 3: 15،14).

وواضحٌ مـن هـذا الحُكْم على الحيَّة - التي تُشير إلى إبليس - أنَّ الله قد أصدر حُكْمه العادل والنهائي على إبليس لأنه هو الجاني والمُحرِّض. وأمَّا العداوة التي أنشأهـا بينه وبين نسل حواء، فسوف تظل إلى المنتهى. لذلك كـان لابـد أن يخرج من نسل حواء مَن يسحق رأس الحية حتى ولو أدَّى ذلك إلى أنَّ نسل الحيَّة يسحق عَقِبَ مَن يسحق رأسها، الذي هـو المسيح الكلمة المُتجسِّد الذي سُرَّ أن يموت بالجسد بإرادته، وكان أيضاً في موته فداء البشرية.

«لأجل هذا أُظْهِرَ ابن الله

لكي ينقض أعمال إبليس» (1يو 3: 8):

المسيح، إذن، هو ابن الله ونسل المرأة الذي سيسحق رأس الحيَّة، وينقض أعمال إبليس ويُنهي عليـه ويطرحـه في الهاويـة في بحيرة النار والكبريت (رؤ 20: 10).

وقد بَدَأَت الحرب مع إبليس منذ أيام موسى النبي في حربه مع عماليق، حينما قال الربُّ لموسى: «إِنِّي سَوْفَ أَمْحُو ذِكْرَ عَمَالِيقَ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ... لِلرَّبِّ حَرْبٌ مَعَ عَمَالِيقَ مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ» (خر 17: 16،14)، وكانت هذه إشارة إلى حرب الله مع إبليس. أمَّا حرب إبليس مع المسيح فقد بَدَأت منذ ولادته في بيت لحم، وذلك عندما رأى (إبليس) ملاكَ الله وهو يُبشِّر الرعاة قائلاً: «”فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّـهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَومَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُـوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. وَهـذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ“. وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ: ”الْمَجْـدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّـلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ“» (لو 2: 10-14).

ولمَّا جاء المجوس من المشرق يسألون عن المولود ملك اليهود الـذي رأوا نجمه في المشرق وأتوا ليسجدوا له، ووصل الخبر إلى هيرودس الملك؛ اضطرب جدّاً وجميع أورشليم معه. وحينذاك دخـل إبليس قلب هيرودس وأوحى إليـه بفكرة للتخلُّص من هذا المولود الذي سيُزاحمه المُلْك حسب ظنِّه، فطلب مـن المجوس أن يفحصوا بتدقيق عن الصبي ومتى وجدوه فليخبروه حتى يذهب هو أيضاً ويسجد له. بينما أضمر الملك هيرودس في قلبه أن يُرسِل مَن يقتل الصبي ويتخلَّص منه. إلاَّ أنـه قد فشلت مؤامرتـه، إذ أُوحِيَ للمجوس في حُلْـم أن لا يرجعوا إلى هيرودس وينصرفـوا في طريـقٍ أخرى إلى كورتهم.

وهكـذا نجـا المولود الإله مـن مؤامـرة هيرودس، ولكن الملك دبَّر مكيدة لينتقم من خديعة المجوس، «... فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا، مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ، بِحَسَبِ الزَّمَانِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ الْمَجُوسِ» (انظر مت 2: 13-16)، ظنّاً منه أنه بذلك قد تخلَّص من المولود ملك اليهود.

معركة إبليس مع المسيح بعد المعمودية:

لم يهدأ إبليس في ملاحقته للرب يسوع، حتى جاء وقت عماده من يوحنا المعمدان الذي شهد له جهاراً بقوله: «”هذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: يَأْتِي بَعْدِي، رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ. لكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ لِذلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِالْمَاءِ“. وَشَهِدَ يُوحَنَّا قَائِلاً: ”إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. وَأَنَا لَمْ أَكُـنْ أَعْرِفُهُ، لكِـنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ، ذَاكَ قَـالَ لِي: الَّذِي تَـرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهـذَا هُـوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَأَنَـا قَـدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللهِ“» (يو 1: 30-34).

وهكذا تحقَّق العدو بيقين أن يسوع هو ابن الله.

ولمَّا أُصْعِدَ يسوع مـن الروح إلى البريَّـة ليختلي ويصوم أربعين يومـاً وأربعين ليلة بعد المعمودية، ولكي يُجرَّب من إبليس، وبعدما جاع أخيراً؛ تقدَّم إليه إبليس ليُجرِّبه، ظنّاً منه أنه سيقدر عليه ويهزمه في ضعفه. وللوقت قال له المُجرِّب بمكرٍ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزاً» (مت 4: 3).

أَلم يسمع الشيطان صوت الآب من السماء قائلاً: «هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (مت 3: 17). ولكنه هنا الآن يجد المسيح جائعاً، فلماذا لا يُشكِّكه في بنوَّته للآب، ويُطالبه بأن يُثبت ذلك بتحويله الحجارة خبزاً لخدمة إعوازه واحتياجه الحالي؟! لقد فعل ذلك من قبل مع آدم وحواء من جهة وصية الله: «أَحَقًّا قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟» (تك 3: 1)، وفَلح حينذاك في زعزعة إيمانهما بوصية الله.

أمَّا هنا فقد خاب ظن الشيطان، وردَّ المسيحُ سهمَ إبليس إلى قلبـه بقوله لـه: «مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ» (مت 4: 4)، مُستشهِداً بما هو مكتوب.

لقد استشهد المسيح بالمكتوب للردِّ على خدعة إبليس الـذي أراد أن يوهِـم طبيعتنا التي لبسها المسيح واتَّحـد بها، أنَّ حياتنـا مُتعلِّقـة كُلِّيّاً بالأرض، وهو يستغل حالة الجوع الشديد لكي يُقنعه أن الأكل من الخبز يُحيي الإنسان. كما أنَّ إبليس بخبثه لم يكتفِ بتقديم نُصحه الكاذب، بل غلَّفـه بخدعـةٍٍ أخرى، وهي حـث المسيح على استخدام سُلطانه كابن الله أن يُحوِّل الحجارة خبزاً، كما حوَّل الماء خمراً في عُرْس قانا الجليل (فيما بعد). وهنا نجد الشيطان في قمة دهائه يُخاطب المسيح بصفته ابـن الله، بينمـا يُجيبه المسيح كإنسان مُستشهِداً بالمكتوب، لكي يُسلِّم لنا سلاحاً هاماً نحتمي به في ساعة التجربة، وهو كلمة الله.

+ وفي هذا يُعلِّق الأب متى المسكين قائلاً:

[وهكذا صارت كسرة الشيطان أمام المسيح، كسرة مُمتدَّة أمام كل إنسان يلبس المسيح... وإن بَدَت نصرتنا الآن عاجزة بعض العجز بسبب ضعف الطبيعة، فسوف تبلغ نصرتنا أَوْجها حينما نخلع هـذا الضعف بالقيامة من الأموات!!](1)

+ وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير:

[لأنه هـو الله الكلمة الذي هبط إلى حدود البشريـة كالتدبير من أجلنا... فصار طريقاً لطبيعتنا إلى القيامة](2).

«إن كنتَ ابن الله فاطرحْ نفسك إلى أسفل»:

بعد فشل الشيطان فشلاً ذريعاً في تجربته الأولى التي فيها صوَّب سهمه على جوع الجسد وحاجته إلى الخبز، اقترب إلى الرب الذي سما بجسده محتمِلاً أَلَم الجوع بتفوُّقٍ مُدهش، ولم يعبأ بحاجته إلى الخبز بعد صومٍ طـال إلى أربعين يوماً في خضوعٍ كامـل للروح؛ وانبرى الشيطان للرب بحيلة أخرى مُصوِّباً سهمه هذه المرَّة نحو نفس المسيح البشريـة المتأجِّجـة بفعـل الصوم والصلاة، فإن كان فعلاً يحيا بكل كلمة تخرج من فم الله، ففي استطاعته أن يُلقِي نفسه من فوق جناح الهيكل مـن ذلك الارتفاع الشاهـق دون خوف، فـالملائكة سـوف تتلقَّفه لكيلا تصطدم بحجرٍ رِجْله كالمكتوب (مز 90)!!

هنا يُحاول الشيطان في تجربته الثانية للمسيح أن يستغل تساميه عن كل مطالب الجسد المادية وتأجُّج نفسه بفعل الصوم والصلاة، فيُشير عليه بالمزيد منها، وبالاستفادة بها لاستعراض قُدراته الروحية على الآخرين لإثبات إيمانه بطَرْح نفسه إلى أسفل من أعلى جناح الهيكل، لكي يرى الناس معجزة إنقاذه بواسطة الملائكة المُهيَّأة لنجدته!! وهو يهدف بذلك أيضاً أن يستحثَّه كابن الله لكي يستغل بنوَّته لله لمصلحته واستظهار قدرتـه وتفوُّقـه. وهذا ما فعله إبليس مع آدم وحواء، حينما أوهمهما أنهما بأكلهما مـن شجرة معرفـة الخير والشر يصيران كالله عارفَيْن الخير والشر. وهذا ما يفعله إبليس كذلك مع كلِّ نفس تتعالَى بتقواها وقداستها وقدرتها، فيُلقيها في كبريائها ويفصلها عن الله.

ولكن الرب، بسلطانه الإلهي، كَشَفَ عن عنصر الخداع الذي في عَرْض الشيطان عليه بطَرْح نفسه من فوق جناح الهيكل، وذلك بردِّه عليه: «مَكْتُوبٌ أَيْضاً: لاَ تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلهَكَ» (مت 4: 7)!

+ وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير:

[إنَّ الله لا يُظهِرالإحسان للذين يمتحنونه، بل للذين يؤمنون به. والمسيح نفسه لم يعمل آيةً واحدة للذين يُجرِّبونه](3).

وهكـذا كَشَفَ لنا المسيح عـن الخطر الذي أضمره الشيطان وراء حثِّنا على الإتيان بعملٍ يبدو أن فيه تمجيداً لله، وهو في حقيقته امتحانٌ له وتعالٍ عليه. وهذا هو نفس ما حذَّر منه بولس الرسول بقوله: «فَإِنِّي أَقُولُ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي، لِكُلِّ مَنْ هُوَ بَيْنَكُمْ: أَنْ لاَ يَرْتَئِيَ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي أَن يَرْتَئِيَ، بَلْ يَرْتَئِيَ إِلَى التَّعَقُّلِ، كَمَا قَسَمَ اللهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِقْدَاراً مِنَ الإِيمَانِ» (رو 12: 3). كما قيل أيضاً في سِفْر الجامعة: «لاَ تَكُنْ بَارًّا كَثِيراً، وَلاَ تَكُنْ حَكِيماً بِزِيَادَةٍ. لِمَاذَا تَخْرِبُ نَفْسَكَ؟» (جا 7: 16). كما يقول إشعياء النبي: «وَيْلٌ لِلْحُكَمَاءِ فِي أَعْيُنِ أَنْفُسِهِمْ، وَالْفُهَمَاءِ عِنْدَ ذَوَاتِهِمْ» (إش 5: 21).

أمَّـا المسيح له المجد، فرغم قدرتـه الإلهية على كلِّ شيء، نجده يمتنع تماماً، بكل اتضاع، عن الاستجابة لغوايـة الشيطان بصُنْع مثل هذه المعجزة التي تـدلُّ على الرغبة في تزكية النفس والاعتداد ببرِّها وإظهار قوَّتها.

«أُعطيك هذه كلها إنْ خررتَ وسجدتَ لي»:

أخيراً، بعد أن أدرك الشيطان عجزه التام من هزيمة المسيح، وأعيت حيلته، لم يجد بُدّاً في أن ينحطَّ إلى مستوى التبجُّح في تعامُله مع المسيح، إذ «أَخَذَهُ أَيْضاً إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَـا، وَقَـالَ لَهُ (بكلِّ وقاحـة): ”أُعْطِيكَ هـذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَـرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي“» (مت 4: 9،8).

+ ويُعلِّق القديس كيرلس الكبير على ذلـك مُخاطِباً الشيطان:

[وأنت أيها الكائن الخبيث الشرير الملعون، كيف تتجاسر أن تـرى الرب مـالك الخليقة كلها، وتقول: ”إنها لي، فإنْ سجدتَ أمامي، سأُعطيها لك“ (انظر لو 4: 7،6)؟ فكيف تَعِد بشيء ليس هو لك؟ مَن جعلك وارثاً لمملكة الله؟ مَن جعلك سيِّداً على كل ما تحت السماء؟](4)

واضحٌ أن إبليس هنا قد تجاسر على الرب في شخصيته المُمثِّلة للإنسان الضعيف الخائر من الجوع. ويُعلِّق على ذلك القديس غريغوريوس النزينزي قائلاً:

[... لقـد افتقـر، لكي نغتني نحـن بفقره (2كو 8: 9). لقد أَخَـذَ شكل العبـد، لكي نستعيد نحن الحريـة. لقد نزل، لكي نرتفع نحن. لقد صار مُجرَّباً، لكي ننتصر نحن (في التجارب). أُهين، لكي يُمجِّدنـا. مـات، لكي يُخلِّصنا. صَعِدَ، لكـي يجذبنـا إليـه نحـن المُنطرحين في سقطة الخطية...](5).

+ وفي هذا يقول أيضاً القديس مقاريوس الكبير:

[حين تجرَّب الرب من الشيطان هناك في البريَّة أربعين يوماً، هل أضرَّه بشيء حين دنا من جسده من الخارج؟ لأنـه من الداخل كان إلهاً؛ هكـذا المسيحيون أيضاً ولـئن كـانوا يُجرَّبـون مـن الخارج، لكنهم مـن الداخل مملوؤون مـن اللاهوتية (انظر كو 2: 10)، ولا يضرُّهم شيء. فإنْ أدرك أحدٌ هذه القامة، يكون قد بَلَغَ محبة المسيح الكاملة و”ملء اللاهوت“ (كو 2: 9). أمَّا مَـن لم يكن على هذه الحال، فإنَّ له إلى الآن حرباً في داخله، فيكون في راحةٍ في صلاته حيناً، وحيناً آخر يُجابه ضيقاً وحرباً](6).

وهكذا أنهى الرب على تبجُّح الشيطان قائلاً: «اذْهَبْ يَـا شَيْطَانُ! لأَنَّـهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (مـت 4: 10؛ انظـر تث 6: 13؛ 10: 20).

وفي هـذا يُعلِّق البابـا تيموثاوس الثاني بابـا الإسكندريـة (الـ 26) قائلاً بكل اختصار: ”تجرَّب (المسيح) كإنسان، وطَردَ الشيطان كالإله“(7).

+ أمَّـا القديس أثناسيوس الرسولي فيُعلِّق على ذلك قائـلاً:

[متى رأى الشياطين البشرَ جَزِعـين، يُزيـدون خـداعهم حتى يُـرعبوهم بـالأكثر. وأخـيراً، يُضلونهم قـائلين: ”خرُّوا واسجدوا“. فهكذا قد أضلُّوا اليونـانيين (وكـل الوثنيين قديماً وحتى الآن)، وجعلوهم يعتبرونهم بغير وجه حق آلهة. وأمَّا نحن فلم يتركنا الرب نُغْوَى من الشيطان، لأنه لمَّا قدَّم (الشيطان) إليه مثل هذه الخداعات، انتهـره قـائلاً: «اذهب خلفي، يا شيطان، لأنه مكتوبٌ: ”للرب إلهك تسجد، وإيَّاه وحده تعبد“» (مت 4: 10؛ لو 4: 8). ولذلك، فبالأكثر جـدّاً ينبغي أن يصير المُضِلُّ مُحتَقَراً، لأن مـا قاله الرب (للشيطان)، إنما قد فعله من أجلنا، حتى إذا ما سمعت الشياطين مِنَّا كلمات مُماثلة، تكون مُضطرة للهروب مـن وجه الرب الذي انتهرها بهذه الكلمات](8).

وفي الختام، نقول ما ذَكَرَه الأب متى المسكين في كتابه عن ”الصوم الأربعيني المقدَّس“، قائلاً:

[والآن، وبعد أن حلَّ المسيح رباطات الخطيئة، التي رُبِطَت بهـا طبيعتنـا، بصومـه وجوعه وتجاربه، لم يتبقَّ إلاَّ أن يُبطِل الخطيئة بموته].

(يتبع)

(1) الأب متى المسكين، ”الرؤيـة الأرثوذكسية للأعياد == الكنسية“، ”2. الصـوم الأربعيني المقدَّس“، على جبـل التجربة.
(2) St. Cyril of Alexandria, De Recta Fide.
(3) St. Cyril of Alexandria, On Luke 4: 12 (PG 72, p. 532C).
(4) القديس كيرلس الكبير، ”تفسير إنجيـل لوقـا“، أصحاح ‍4، (مؤسَّسة القديس أنطونيوس).
(5) NPNF, 2nd Series, Vol. VII, p. 303 (SC 247,78).
(6) القديس مقاريوس الكبير (عظة 26: 15).
(7) رسـالة أثناء نفيه (”الصـوم الأربعيني المقدَّس“، ص 110).
(8) Life of Antony, 37.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis