تأملات في
شخص المسيح الحي
- 43 -



المسيح


إعداد: الراهب باسيليوس المقاري 

عمل الخلاص الذي أتى المسيح ليُتمِّمه (11)

ثانياً: المسيح الكاهن الأعظم (4)

متابعة على ضوء طقوس الكاهن الأعظم في العهد القديم

إنَّ العمل الكهنوتي في العهد القديم كان يتم أداؤه من خلال: تقديم الذبيحة المُحدَّدة في طقس العمل الكهنوتي حسب نوعها، كما هـو وارد في نامـوس (شريعـة) موسى. ويُقابلـه في العهد الجديد: 1. هكذا قدَّم المسيح ذاته (وليس حيوانات أو طيور) ذبيحة حيَّة بآلامه وموته على الصليب؛ 2. وتشفَّع بذبيحتـه هـذه أمـام الآب بمنتهى التواضُع وانسحاق القلب؛ 3. وذلـك لكي يُتمِّم فداء البشرية بذبيحة نفسه.

+ وهكذا، فالخدمـة الكهنوتيـة عند المسيح كـانت تُركِّز أولاً على حَدَث واحـد وحيد: بَذْلُ نفسه للموت كذبيحة من أجل رفع خطايا البشر.

+ ولكن لماذا بَذَلَ المسيح ذاته؟ لكي بكونه ”الكاهن الأعظم“، يُكفِّر عن خطايا الخطاة، ليس فقط بمجرَّد الصلاة للآب من أجل الخطاة، بل وأيضاً بتقديم جسده للموت على مذبح الصليب.

+ المسيح بخدمتـه كنبيِّ العهد الجديـد، سبق وأعلن عنه أنبياء العهد القديم، ولكـن تكتمل هـذه النبوَّات وتُعلَن جهاراً في الأسبوع الأخير من حياته على الأرض، بآلامه وموته الذي تمَّ على الصليب.

+ ولكنه بعد قيامتـه مـن الموت، أصبح واضحاً عياناً بياناً أنَّ خدمته كملك (باعتباره المسيَّا الذي تكلَّم وتنبَّأ عنـه الأنبياء في العهد القديـم) لتؤكِّد أنَّ موته الكفَّاري قـد صار حقيقة تاريخية دامغة.

+ وبهذا، فهذه الخدمات الثلاث التي تنبَّأ بها أنبياء العهد القديم قـد صارت متتابعة: خدمته كنبيٍّ صارت تُشير إلى خدمته ككاهن يُقدِّم نفسه ذبيحة، وبعد قيامته استُعلِنَتْ خدمته كملك انتصر على الموت الذي دخل إلى البشرية بحسد إبليس.

الأفعال الثلاثة لخدمته ككاهن: الذبيحة، الشفاعة، ثم البركة

ما هي الخدمة الكهنوتية؟

إنَّ خدمة المسيح ككاهن سبق أن تحقَّقت في العهد القديم بتقديم الكاهـن ذبيحـة يصنع بها شفاعة أمام الله عـن خطايا الشعب، ثم كـان الكاهن الأعظم يُبارِك الشعب كله. أي إنَّ خدمة الكهنوت في العهد القديم كـانت: التكفير عـن الخطية، الشفاعة برَفْع عقوبة الخطية، ثم بركة الشعب كله.

+ وفي العهد الجديد قام المسيح بهذه المهمة المُثلَّثة التي كان يقوم بها رئيس الكهنة في العهد القديم، أن يُقدِّم كل سنة الذبيحة الكفَّارية عن عموم الشعب، ويتشفَّع أمام الله من أجل الشعب كله، ثم يُبارِك على الشعب (لا 4: 16-18)(1).

وأخيراً، تحقَّقت هـذه الخدمـات الكهنوتية المُتميِّزة الثـلاث واكتملت في خدمـة المسيح الكهنوتية.

ما هو عمل المسيح كاهن العهد الجديد؟

مـن العجيب أنَّ كتاب ”الدسقوليـة – تعاليم التلاميذ الاثني عشر“ يقول للكهنة في العهد الجديد:

[فإن كان يمكن، فليحمل الأسقف خطية ذاك (الخاطئ) عليه ليجعله حُـرّاً، ويقـول للذي أخطأ: ارجع أنت، وأنا أَقبلُ الموت عنك، كما مات سيِّدي عن الكلِّ؛ لأن المسيح قال: إنَّ الراعي الصالح يضع نفسه عن خرافه، وأمَّا الأجير الذي ليس براعٍ وليست الخراف له، إذا رأى الذئب مُقبِلاً، الـذي هـو الشيطان، يترك الخراف ويهرب ويخطفها الذئب].

(الدسقولية: بند 37)

+ وكحقيقة، فإنَّ اسم المسيح ك‍ ”كاهن“ إنما يجعل من الله الآب حقّاً أنه ”أبونا“.

المسيح قام بخدمة الكهنوت

في حياته على الأرض:

لقد حقَّق المسيح في نفسـه، بمـا لا يُقارَن، خدمة الكاهن الأعظم؛ إذ حقَّق الخدمات الثلاث الكهنوتية، بأن قام بالخدمة التي نالها من الآب، بإرادته ومشيئته وحده، بتقديم نفسه مرَّة واحدة ومن أجل الكل كحَمَل مذبوح ليَرْفع خطية العالم (يو 1: 29)، إذ مات مـن أجـل البشريـة مرَّة واحدة ومـن أجـل الكـل، حينما صرخ على الصليب: «قد أُكمِل» (يو 19: 30). وهذا تمَّ في الماضي، لأن البشرية كلها كانت في جسده، وهذا هو التجسُّد. والآن هو يشفع أمام حضرة الآب من أجل خلاص كل البشر، كل مَن آمن واعتمد وقدَّم توبة، وهذا يتمُّ في الحاضر. ثم إلى حين يأتي في مجيئه الثاني حيث يُعطي، في المستقبل، البركة للذين يخلصون، البركة النهائية بالحياة الأبدية وميراث ملكوت الله، والتي وَصَفها القديس بولس على لسان ابـن الله المتجسِّد: «هـا أنـا والأولاد الذين أعطانيهم الله» (عب 2: 13).

+ إنَّ عمـل كهنوت المسيح اكتمـل على الصليب مرَّة واحدة ومن أجل الكل، ومـا زال يتحقَّق من خلال شفاعته من أجل الخطاة الذين يتوبـون، وسيُستعلَن جليّاً في الزمـان الأخـير بالبركة التي ستحلُّ على المختارين التائبين.

+ وإن كـان عمـل المسيح الكهنوتي قـد «أُكمِـل»، وهـو على الصليـب، فهـو يستمر بالحضور الإلهي في الكنيسة من خلال سر التوبة وحضور المسيح في المعمودية والتوبة، ويكتمل في سرِّ الجسد والدم الأقدسين: «أنا هو الخبز الحيُّ الذي نزل من السماء. إنْ أَكل أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله (سأبذله) من أجل حياة العالم» (يو 6: 51،50). وهكذا فكل الزمان الحاضر محوط بالعمل الكهنوتي للمسيح(2).

الاعتزال من أجل الكهنوت:

الكهنوت يقتضي ضمناً ”الاعتزال“ من أجل التكريس لله بقصد خدمة الكهنوت. وفي أحيانٍ أخرى كان الكهنوت يُسمَّى ”المَسْحة“ مـن فعل ”يَمْسَح“ بالزيت المقدَّس. واعتزال المسيح من أجل القيام بخدمته الكهنوتية بدأ منذ لحظة التجسُّد، مُتزامناً مـع بدايـة اتِّحاد اللاهوت بالناسوت. والمسيح، ومنذ ميلاده، كان منفصلاً عـن الخطية من أجل الخدمة الكهنوتية.

+ وعند معموديتـه بـالروح القدس، اكتملت واستُعلِنت خدمتـه الكهنوتية، والتي مـن أجلها توجَّه فوراً إلى البرِّيَّة معتزلاً الناس، حيث صام أربعين يوماً وأربعين ليلةً بسرٍّ لا يُنطَق به.

يقـول القديس يـوحنا ذهبي الفم في هـذا الصـدد: ”حينمـا أتى المسيح إلى العالم، قـال: «بذبيحة وتقدمة لم تُسرَّ، بـل أنـت هيَّأتَ لي جسداً» (عب 10: 5؛ مز 40: 6)“.

+ ولكن هنا ملاحظة هامة: ذلك لأن كهنوت المسيح لم يكن مُعْتَبَراً بالتحديد تحت نموذج الكهنوت اللاوي (أي اليهودي القديم)، لأنه قدَّم ذبيحته من جسده الخاص (وليس من حيوانات وطيـور)، حسب قـول للقديس يـوحنا ذهبي الفم(3). فقد كان تجهيز جسده للصليب قد بدأ منذ ميلاده من القديسة العذراء مريم.

+ المسيح لم يَرسِم نفسه ”كاهناً“، بل كان مُرْسَلاً مـن الآب: ”لم يأخذ هـذه الكرامة (الكهنوت) لنفسه، بل كان يجب أن يكون مَدْعوّاً من الله، كما كان هارون. وهكذا المسيح، لم يأخذ من نفسه مجد رئاسة الكهنوت؛ ولكن الله هو الذي قال له: «أنت ابني»، ودعاه ليكون كاهناً إلى الأبـد على طقس ملكيصـادق (وليس على طقس هارون) (عب 5: 4-6)“(4).

+ وبينما أبناء لاوي في العهد القديم، كانوا هم وحدهم المختاريـن ليكونـوا كهنة يُمسَحون بزيت يراه الكل، فإنَّ ابـن الله المتجسِّد يُمسَح بالزيت غير المنظور الـذي للاَّهوت الذي هـو الروح القدس نفسـه: (خـر 29: 1-10؛ لا 8: 1-8؛ عب 5: 1-6)(5).

العمل الكهنوتي للمسيح في تقديم نفسه ذبيحة:

”الكاهن“ و”الذبيحة“ هما لفظان على علاقة متبادَلة بعضهما للبعض.

الكاهـن والذبيحة: الكاهن هـو الذي يُقدِّم ”الذبيحة“ مـن أجل آخر. والمسيح هـو الكاهن الأعظم الذي يُقدِّم ذبيحة نفسه على الصليب من أجل خطايا البشرية جمعاء(6).

وهكـذا صار المسيح، في نفس الوقت، هـو الكاهن والذبيحة: ”وذلك بهدم الحائط الفاصل بين الله والبشر، أي الخطية. وها هو الوسيط قد أتى، والكاهـن صار هـو نفسـه الذبيحة“ - القديس أغسطينوس(7).

+ أمَّا المذبح الذي كـانت تُقدَّم عليه الذبيحة في العهد القديم، فقد صار في العهد الجديد هـو الصليب الذي صُلِبَ عليه المسيح.

في العهد القديم: الذبيحة هي أساس

الشفاعة والبركة:

+ من خلال الذبيحة الحيوانية كان يتمُّ بها استرضاء الله على الخاطـئ الـذي أتى ليُقدِّم الذبيحة بواسطة الكاهن الذي من نسل ”لاوي“.

في العهد الجديد: فإنَّ المسيح هـو الذي قدَّم نفسه ذبيحة للآب المُحبِّ، بينما البشرية كانت كلها مسـتترة في بشريَّـة المسيح، حـاملة عـودة البشريـة إلى الله، مُقدِّمـةً الشُّكر لله على أعمال محبته للبشر، ومُقدِّماً (أي المسيح) ذبيحة نفسه مـن خلال نزوله المتواضع للبشر؛ وهكـذا أصبحت شفاعته هي الطريق إلى تمجيده بقيامته مـن الموت وصعوده إلى السموات حامـلاً جسده، الذي هـو جسد البشرية كلها، لتنال هي أيضاً نعمة الجلوس عن يمين الآب في شخص الابن المُتجسِّد.

+ إنَّ ذبيحة المسيح مرتبطة في جوهرها بالنزول المتواضع للفادي. وشفاعة المسيح الكفَّارية مُرتبطـة في ذات الوقـت بمجـده وصعوده إلى السموات حامـلاً في جسـده البشريـة الجديـدة المُطهَّرة.

مقارنة بين العبادة في الهيكل القديم

وذبيحة المسيح في العهد الجديد

لقد كان المرجع التاريخي المُبكِّر لأول مذبح في العهد القديم، في عصر نوح، حيث يذكُر سِفْر التكوين: «وبنى نوح مذبحاً للرب، وأخذ من كل البهائم (الحيوانات) الطاهرة ومـن كـل الطيور الطاهـرة، وأَصعـد محرقـات على المذبـح» (تك 8: 20).

التصميم البنائي للهيكل في عهد موسى النبي:

لقد خصَّص التصميم البنائي للهيكل القديم مساحـة للأعمال الذبـائحية المقدَّسـة، ووضع حواجز للأعمال غير الدينية، فهناك كان:

1. الفِناء: كان في الهيكل فِناءٌ حيث يدخل شعب العهد القديم ويجتمع معاً. وكان في مدخل هذا الفِناء: المرحضة (أي الحمَّام مكان الاغتسال أي التطهير)، وبالداخل كان مذبح المحرقة.

2. القُدْس: حيث كان مسموحاً فقط للكهنة بالدخول فيه.

+ ثم كـان في القُدْس مائـدة الخبز غير المختمر حيث توضع اثنتا عشـرة خبزة، ويتجدَّد وضعها كـل يـوم سـبت، ويُسـمَّى ”خـبز الوجوه“.

+ ثم نور الروح حيث كان يُشعُّ من منارة ذات سبعة سُرُج على شمعدانات ذهبية. ثم عِطْر البخور الذي يُعبِّق الجو برائحته النفَّاذة من مذبح البخور.

3. ثم قدس الأقداس، الذي لا يدخل إليه إلاَّ رئيس الكهنة وحده مرَّة واحدة كل عام، حيث يوجد ”كرسي الرحمة“ وعليه يحلُّ مجد الله، وكان مُغطًّى ليحجب تعدِّيات الشعب عـن عينَي الله: «وتصنع كروبَيْن من ذهب... وأنا أجتمع بك هناك وأتكلَّم معك، مِن على الغطاء من بين الكروبَيْن اللَّذين على تابوت الشهادة، بكل مـا أُوصيك بـه إلى بني إسرائيل» (خر 25: 22،18).

المسيح هو الهيكل الجديد:

ومن مثل هذه التشبيهات والرموز، اعتَبَر المسيحيون الأوائل أنَّ المسيح صار هو الهيكل الحقيقي: ”هيكل جسده“ الجديد الذي لبسه حينما تجسَّد. فهو الذي مات بالجسد، وقام من الموت، وصعد إلى السموات. وصار هو الهيكل الحقيقي الأبدي: «والكلمة صار جسداً وحلَّ فينا. ورأينا مجده، مجد الابـن الواحد الوحيد، المولود مـن الآب» (يو 1: 14 - ترجمة تفسيرية).

+ وبالتالي، فيمكن القول الآن: «هوذا مسكن (”خيمة اجتماع“) الله مع الناس» (رؤ 21: 3)، «يسوع المسيح... جاء في الجسد» (1يو 4: 2)، «طريقاً كرَّسـه لنا حديثاً حيّاً، بالحجاب، أي جسده، وكاهنٌ عظيمٌ على بيت الله، لنتقدَّم بقلبٍ صادق في يقين الإيمان، مرشوشـة قلوبنا مـن ضمـير شريـر، ومُغتَسِلَة أجسادنـا بماءٍ نقيٍّ (المعمودية)» (عب 1: 20-22).

جسد المسيح، هو الهيكل الحقيقي:

وبالتالي، فـإنَّ جسـد المسيح هـو الكنيسة، أي المؤمنـون: الذيـن ”حياتهـم مستترة مـع المسيح في الله“ (كو 3: 3).

المسيح هو مجد الكنيسة. ولذلك يكتب القديس بولس لمؤمني كورنثوس: «فإنكم أنتم هيكل الله الحي» (2كـو 6: 16)، وكـذلك في رسالتـه لمؤمني أفسس: «الـذي فيـه (في المسيح) كـلُّ البنـاء مُـرَكَّباً معـاً، ينمو هيكلاً مُقدَّسـاً في الـربِّ» (أف 2: 21).

ونفس القول وَرَدَ في الرسالة الأولى للقديس بطرس الرسـول مُوجَّهاً للكنيسة: «كونـوا أنتم أيضاً مبنيِّين، كحجارة حيَّة، بيتاً روحيّاً، كهنوتاً مُقدَّساً، لتقديم ذبائـح روحية مقبولـة عند الله بيسوع المسيح» (1بط 2: 5).

(يتبع)

(1) لكتانتيوس (أحد الكُتَّاب المسيحيين في القرن الثالث): Lactantius, Div. Inst., FC 49, pp. 271-79.
(2) Gregory of Nazianzen, 4th Theol. Oration, 489.
(3) John Chrysostom, Hom. on Heb. XVII; NPNF, 1, XIV, pp. 446-50.
(4) MPG I, pp. 25-28, Tertullian, Answer to the Jews; ANF, III, pp. 152-53.
(5) Lactantius, ANF, 1V, 14-16, Div. Inst., V, p. 89.
(6) Ambrose, Flight from the World, FC 65, pp. 290-96.
(7) Hom. On John, XLI. 5; NPNF, 1, VII, p. 2. 31.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis