الافتتاحية



يونان النبي
وأهل نينوى()
(مت 12: 38-50)

للأب متى المسكين

12: 38 «حِينَئِذٍ أَجَابَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً».

بنوعٍ مـن برود الأعصاب وعدم الاكتراث، بعد الذي سمعوه من المسيح، يطلب الكَتَبَة والفرِّيسيون أن يَرَوْا آية، وكأن‍هم لم يَرَوْا شفاء الأعمى الأخرس أو بقية المعجزات. ولكن هذا في الحقيقة يُخفي عدم الإيمان وعدم الثقة معاً به وبأعماله، وما هـذا الطلب إلاَّ نوعاً مـن التجربة. وكأنما يكرهون أن يسمعوا تعاليمه ويودُّون لو يسكت ليتسلَّوا بعمل آية.

«نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً (من السماء)»:

لم يَعتَبِروا الأشفية ولا إخراج الشياطين آية، بـل أرادوا آية ”منك“ أي (آية) شخصيَّة تخصُّ ذاتك ويكون مصدرها السماء، حتى نتعرَّف عليك بحسب ادِّعائك أنك أتيتَ مـن الله. وهذا فيه كثيرٌ مـن الصدق. لـذلك ردَّ عليهم المسيح ردّاً صادقاً حقيقيّاً مُقنعاً، غير أن‍هم لم يفهموه؛ بل كان يستحيل أن يفهموه، ولكن لابد أن يفهموه!

12: 40،39 «فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هكَـذَا يَكُونُ ابْـنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْبِ الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيـَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ».

ابتدأ المسيح بوَصْف الجيل الذي يطلب آية من السماء، أنـه جيلٌ فاسقٌ وشريرٌ، بمعنى أنه خرج عن علاقته الأمينة بالله كما تخرج الزانية عن علاقتها بزوجها. وليس ذلك فقط، ولكنه جيل يُمارس الخروج عن ناموس الحياة الخاضعة لله. وهذا هو الشر عين الشر.

والآن، فقد صار حالهم كحال أهل نينوى الذين أرسل الله لهم يونان: «وَصَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونَانَ بْنِ أَمِتَّايَ قَائِلاً: قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا، لأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي“» (يون 1: 2،1)، «بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْماً تَنْقَلِبُ نِينَوَى» (يون 3: 4).

واعتَبَر المسيح نفسه بالنسبة لهذا الجيل الفاسق الشرير كيونان الذي جاء ينذر المدينة. فكما حدث ليونان وهو في طريقه لنينوى لكي يُنقذها من الانقلاب الآتي عليها، أن ابتلعه الحوت وظلَّ في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ؛ هكذا سيصير المسيح، وإنما في باطن الأرض. وهـذه هي معجزة الخلاص، لأن بمـوت المسيح وبقائـه في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ تَمَّت ذبيحة الكفَّارة ومات المسيح بالجسد، أي بالبشرية التي فيه؛ وهكذا كفَّر عـن خطايا البشرية، وقام بالجسد أي البشرية ال‍مُفدَّاة للمُصالحة مع الله.

لذلك احتُسِبَت الثلاثة أيـام والثلاث ليالٍ في القبر أن‍ها معجـزة الجيل الفاسق الشرير - العُظمى - لأن ب‍هذه المعجزة الفائقة أُكمِلَت كـل المعجزات وتمَّ استعلان المسيَّا كمخلِّص وفادي إسرائيل والبشرية قاطبةً.

وطبعاً قال المسيح هذا وهُم لا يدرون ما يقول، ولكن كان لازماً جدّاً أن يَرُدّ المسيح على طلبهم، لأنه يبدو أنه كان طلباً صادراً عن رغبة الفَهم والمعرفة، إذ لم تكفِهم معجزات الشفاء، وإخراج الشياطين، وهـذا حقٌّ. فهـذه المعجزات جميعاً لا تكفي لكي تُحدِّد شخصية المسيَّا كمخلِّص وفادي إسرائيل. وهكذا أراح المسيح ضميره بأن قال لهم الحق الذي سيفهمونه فيما بعد، حتى وإن طال الزمن حتى الآن!!

أمَّا تعليقنا على الثلاثة أيام والثلاث ليالٍ فهي هكذا: النهار الأول أَخَذَ ضمناً الليل السابق عليه، لأن اليوم اليهودي يُحسَب مـن الغروب إلى الغروب، وأي جزء من النهار أو الليل يُحسب يوماً كاملاً، والمسيح استودع جسده في القبر قبل الغروب، ثم دخل ليل اليوم الثاني، وهكذا يُحسَب ما قبل الغروب يوماً كاملاً بليلته السابقة.

فأول يوم هـو يوم الجمعة لأنه حُسِبَ له في القبر لأنه دُفِنَ قبل الغروب + (ليلة السبت صابح السبت + ن‍هار السبت = اليوم الثاني) + (ليلة الأحد صابح الأحد + الفجـر = اليوم الثالث).

12: 42،41 «رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّيـنِ مَعَ هـذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَـهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِـنْ يُونَانَ ههُنَا! مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكَمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ ههُنَا!».

أمَّا الآية التي طلبوها فقد قالها لهم ليُرضي قلبه وضميره، أمَّا أعمالهم التي يعملون‍ها فهي أن‍هم لم يسمعوا لا ليوحنا المعمدان ليتوبوا معترفين بخطاياهم ويعتمدوا، ليصيروا قادرين أن يسمعوا للمسيح ويفهموا حتى ينالوا معموديـة الروح وسر الملكوت؛ ولا هُم سمعوا لنداء المسيح حتى إذا قبلوه غُفِرَت خطاياهم وتُرِكَت آثامهم. بل قالوا على يوحنا إنَّ بـه شيطاناً، وقالوا على المسيح إنه بشيطان يُخرج الشياطين. وكأن خلفية معرفتهم وفهمهم هي على أساس الشيطان، لينسبوا إليه كل الأعمال حتى الحق.

وهنا يواجههم المسيح بالمصير الأسود أنَّ رجال نينوى، بل ونساءهم وأطفالهم، سيقفون في الدينونة يفتخرون عليهم أن‍هم تابوا بمناداة يونان النبي. أمَّا هُم فلا للمعمدان اعترفوا وندموا، ولا للمسيح تابوا. فصارت دينونتهم فضيحة لحكمة إسرائيل ومهزأة لأولاد إبراهيم.

وزاد المسيح بملكة التيمن أن‍ها جاءت من أقصى الأرض لتسمع حكمة سليمان، أمَّا هم فقد داسوا أقوال الله على فم المسيح وأهانوها.

فـالذي كالـوه للمسيح أشكالاً وألواناً مـن المراجعة والصدام والمعيرة والإهانة والتهديد بالموت، بل والتعذيب قبل الصليب وعليه؛ سيصبح يوماً منظراً لكل العالم وهُم واقفون يُسألون عنه وقد خرست أفواههم. وهكذا، يا إخوة، كل مَنْ لم يعمل للدينونة حساباً!!

12: 43-45 «إِذَا خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ، يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِدُ. ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغاً مَكْنُوساً مُزَيَّناً. ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَـرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هَنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذلِكَ الإِنْسَانِ أَشَرَّ مِـنْ أَوَائِلِهِ. هكَذَا يَكُونُ أَيْضاً لِهذَا الْجِيلِ الشِّرِّيرِ».

آخر ما يمكن أن يكشفه المسيح عن هؤلاء المتزعِّمين لجيل الكَتَبَة والفرِّيسيِّين، وآخر ما كُنَّا نظن أن نفتكر بـه. فالمسيح يوضِّح هنا سرَّ كل الأمور التي عُرِضَت علينا، والتي ستُعرَض من جهة أعمال هؤلاء الحكماء والفهماء اليهود مع رؤساء كهنتهم وكهنتهم وشيوخ الشعب المتضافرين معهم، الذيـن ظهروا في النهايـة عُصْبة واحدة متَّحدة قلباً وفكراً ونُطقاً: ”اصلبه اصلبه“.

فنحن كُنَّا مذهولين من أعمالهم العدائية مع المسيح. لماذا؟ لماذا هذا الصدود المجاني؟ لماذا هذه المقاومة العلنية التي أضعفت إيمان الشعب؟ لماذا هذا الهجوم الفاجر ومحاولة القتل مراراً؟ ولكن عنـد الصليب، انكشف المشهد الأخير عـن قَتَلَة محترفين وأعداء للحـق والصـدق والرحمة والعدل!!

والآن فقط، وهنا وفي هذه الآية، فهمنا سرَّ رؤساء هذا الشعب الذين نكَّدوا على الشعب هذه القرون كلها، والله طالب خلاصهم وطالب ودّهم. يُرسل لهم الأنبياء جماعة وراء جماعة مـن خيرة رجـال النعمة والعظماء حقّاً، أنبياء تفتخر ب‍هم البشرية، ويُزيِّنون تاريخ الله مـع الإنسان. قاوموهم واضطهدوهم وقتلوهم، ثم زيَّنوا قبورهم وجعلوها مزارات.

ولكن بقيادة هؤلاء الرؤساء والمعلِّمين والربِّيين، قادوا الشعب من عصيانٍ إلى عصيان، وما كُنَّا ندري أنه لهذا الحدِّ يبلغ ب‍هم فجور العصيان والتمرُّد على الله. مَنْ كان يُصدِّق؟ هوذا الآن نُصدِّق، فقد كرَّروا تمرُّدهم هذه المرَّة على ابنه الوحيد الذي أرسله الله يطلب ودَّهم ويُطالِب بالثمر، ثمر آلاف السنين تعزية ومعونة ونعمة وسخاء ومجداً لهذا الشعب الجاحد.

والآن عرفنا، ومِنْ هذه الآية، أن الشيطان كـان هو الذي يقودهم ويعلِّمهم أصول التمرُّد ويسوقهم أمامه لعبادة الأصنام والشياطين والنجاسة، لكي يُغيظ الله بواسطتهم، وقد نجح أعظم نجاح. ولَمَّا جاء الابن، أذاقه المرار بواسطة حكماء هذا الشعب وعلمائه وكتبته وكهنته الذين ورثوا مع الختانة الخيانة، الخيانة لعهد الله وكلامه ووصاياه، واجتمعوا على الابن الوحيد فهزأوا به ومرَّروا حياته ثم قتلوه!

وجيلٌ يسلِّم جيلاً، حتى صارت عـدد الشياطين الساكنة فيهم سبعة شياطين مُضافة إلى الواحد، وكلها أشرُّ منه، هؤلاء طلبوا آية فكانت آية الصليب!

حنَّان، قيافا، شيوخ الشعب، كَتَبَة، فرِّيسيُّون، ناموسيُّون، هيرودسيُّون، سنهدرين، مشيخة الشعب، خُدَّام؛ كلها قِناعات لَبِسها الشيطان بعدمـا فـرَّق الأدوار على الأبـرار الكاذبين، وخرجوا بمظاهرة دينية رائعة يُهدِّدون بيلاطس، وخاف بيلاطس طبعاً.

”اصلبوه أنتم“!! (هكذا قال بيلاطس). ”لا، ليست لنا عادة أن نقتل أحداً!! اقتله أنت“ (هكذا قالوا هُم). فسلَّمه إليهم فقتلوه!!

+ «هذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَةِ» (لو 22: 53).

مَن هم أهل بيته؟

12: 46-50 «وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ الْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ. فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ. فَأَجَابَ وَقَالَ لِلقَائِلِ لَهُ: مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟ ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلاَمِيذِهِ وَقَـالَ: هَـا أُمِّي وَإِخْوَتِي. لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَواتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي».

جيِّد من القديس متى أن يأتي إلينا هنا بأخبار الأُم الطاهرة والتلاميذ الأتقياء لنشتَمَّ رائحتهم العطرة، ونَبـِلَّ ريقنا بعـد أن نشَّفه لنا هـؤلاء الكَتَبَة والفرِّيسيُّون ونزحـوا علينا روائحهم الكريهة!

مسكينة هذه الأُم المباركة القديسة زينة البشرية نبيَّة العهد الجديد وعزاء الأتقياء، جاءت تسأل عن ابنها! هي تعرف سرَّه وتعرف سرَّها، ولكـن استودعت الكلَّ قلبها وانتظرت ماذا ستكشف عنه الأيـام. لا تستطيع أن تسير في الشوارع وحدهـا، فجاءت تستند على أهـل يوسف. لم تكن تطلب إلاَّ أن تراه، فرأته من بُعد وارتاح قلبها وعادت.

أمَّا هـو فقد وجدها فرصة أن يُعرِّفنا بالعائلة الكبيرة التي اتَّسعت لتضمَّنا. وهنا يكشف المسيح سرَّ احتوائه للكنيسة الجديدة، كيف تآخى هو مع البشرية عندما صار بِكْرها بالتجسُّد! وكيف اتَّحدوا بـه في موته وقيامته! وكيف سلَّمنا جسده ال‍مُقام مـن الموت لنصير فيه كلنا أعضاءً من لحمه وعظامه!

وبالبداية وبالنهاية، هي إرادة الآب السماوي التي صنعت منَّا كنيسةً حيَّة واحدة إلهية؛ آباء وأُمهات، وإخوة وأخوات، عجنة واحدة مقدَّسة، باكورة مـن خلائقه؛ أحبَّ أن يكون فيها (المسيح) هو الرأس، فكان؛ وأحبنا أن نكون فيه الجسد، فأعطانا!!

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis