|
|
|
الأستاذة الدكتورة/ شيرين صادق الجندي
أستاذ الآثار والفنون القبطية ورئيس قسم الإرشاد السياحي بكلية الآداب - جامعة عين شمس
تنتشر الأديرة الأثرية الصخرية القبطية في كثير من القُرَى والمدن الواقعة في صعيد مصر، وبالأخص في محافظة ”أسيوط“ أو ”سيوط“ Likopolis، والتي يوجد بها كنيسة ”بوسِدْرة“ Saint Sidra، وأيضاً كنيسة ”الرسـل“ Church of the Apostles، كما يوجد بخارجها كنيسة ”بومينا“ Church of Saint Minas. وتُعتَبَر مدينة أسيوط كذلك مسقط رأس الفيلسوف الشهير ”أفلاطون“، وكذلك ”جمال الدين السيوطي“.
وتُعَدُّ قريـة ”ريفا“ أو قريـة ”ديـر ريفا“ Dair Rifah الواقعة على بعد 11 كم جنوب غرب محافظة أسيوط، من أهم القُرَى التي يوجد بها بقايا كنائس لديرٍ أثري قبطي منحوت في الصخر. وتقع هذه القرية إلى الجنوب من قرية ”دير درُنكة“ أو ”أدرُنكة“ وشمال قرية ”الزاوية“. وسُكَّانها من الأقباط الأرثوذكس، وهم يتبعون إيبارشية أسيوط، ويعمل أغلبهم بالزراعة والرَّعي.
كما يُعرَف عن سُكَّان قرية درُنكة مهارتهم الفائقة في نَسْج الصوف والكتَّان. وهم جميعاً من المسيحيين الذين يُجيدون التحدُّث باللُّغة القبطية من أصغرهم إلى أكبرهم. وقد أُتيحت لي زيارة الموقع الأثري لهذا الدير الهام في شهر فبراير سنة 2013م، في إحدى الزيارات الميدانية الأثرية المُصاحبة للمؤتمر العلمي الدولي الذي عقدته ”مؤسَّسة القديس مرقس لدراسة التاريخ القبطي“ في الفترة من 4 إلى 9 فبراير سنة 2013م، بعنوان:
"The sixth Saint Mark Foundation Symposium “Christianity and Monasticism in Middle Egypt: The Region from al-Bahnasa (Oxyrhynchus) to Dayr al-Ganadla” al-Muharraq Monastery in Assiyut, 4-9 February 2013".
+ (اللوحات المنشورة في هـذا المقال مـن تصوير دكتورة شيرين صادق، فبراير 2013م).
اللوحة رقم (1): الواجهة الرئيسية لدير ريفا الجبلي
اللوحة رقم (2)
المدخل الرئيسي لدير ريفا الجبلي
الدراسات السابقة عن كنائس
دير ريفا الأثرية:
ومن أهم الكتابات والدراسات السابقة التي أمدَّتنا ببعض المعلومات عن كنائس دير ريفا الأثرية، كتاب: ”الأديرة والكنائس“ لأبو المكارم، وبالأخص في تاريخ أديرة الوجه القبلي، إضافةً إلى ما ذَكَره المؤرِّخ المملوكي ”تقي الدين المقريزي“ الذي عاش في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، في الجزء الثاني من مؤلَّفه: ”كتاب المواعظ والاعتبار بذِكْر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزية“، وكذلك في مؤلَّفه المُعَنْوَن: ”تاريخ الأقباط المعروف بالقول الإبريزي للعلاَّمة المقريزي“.
كما وَرَدَ ذِكْر هذا الدير في كتابات كلٍّ من ”جـريفـيث“ F. L. Griffith سنة 1889م، و”جوليان“ M. Jullien سنة 1901م، و”بتري“ W. M. Petrie سنة 1909م. وفي عام 1912م، نَشَرَ ”سومر كـلارك“ S. Clarke مسقط لكنيسة القديسة مريم العذراء الأثرية the Holy Virgin Mary دون أن يُعطي أيَّة تفاصيل لكنيسة القديس تاوضروس أو تـادرس Saint Theodore الذي يعني اسمه اليوناني ”عطية الله“، والذي يُعَدُّ من أشهر القدِّيسين في تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الذين استُشهِدوا في القرن الرابع الميلادي. كما يُعتَبَر هذا القديس شفيعاً لسُكَّان هذه القرية الصغيرة، حيث يحرصون على إقامة الشعائر الدينية في كنيسته، وأَخْذ بركته في صلواتهم. وعُرِفَ عددٌ لا بأس به من القدِّيسين داخل مصر وخارجها باسم القديس تادرس.
وفي سنة 1912م أيضاً، نَشَرَ ”بيليت“ M. Pillet خريطة للدير، كما أشار إلى موقع كنيسة القديس تادرس بالمقبرة رقم (3). ووَرَدَ ذِكْر ”دير ريفا“ كـذلك في كتابـات ”مـوريس مارتـان“ M. Martin عام 1966م، وكذلك فيما كتبه ”رينيه جورج كوكان“ R. G. Coquin عام 1991م.
ولم يكن ”دير ريفا“ في الأصل ديراً بمعنى كلمة ”دير“، بل كان منذ البداية معبداً مصريّاً قديماً يرجع تاريخه إلى عصر الدولة الوسطى. وقد سكنه النُّسَّاك الأقباط الذين فرُّوا من بطش الأباطرة الرومان إلى الصحاري المصرية، لاسيَّما بعد ظهور حركة الرهبنة القبطية اعتباراً من منتصف القرن الثالث تقريباً. وحتى الآن، لا يزال سور الدير - الذي يبلغ ارتفاعه 150 سم – باقياً، وتتخلَّله فتحات صغيرة لسهولة تصريف مياه الأمطار. وبالجبل بقايا مباني أثرية أخرى ترجع إلى العصور المصرية القديمة، وكذلك الرومانية. وفي أعلى الجبل، توجد بعض المغارات التي ربما استُخدِمَت لاحقاً لتخزين الحبوب في أوقات المجاعات التي حدثت قديماً في مصر، وأيضاً في أيـام فيضان النيل. وترجع أغلب هذه المغارات إلى سنة 4000 ق.م. تقريباً.
وَصْف كنائس الدير:
ويصل الزائر إلى كنائس ”دير ريفا“ الأثرية من خلال طريق دير درُنكة - الغنايم. وفي قرية ريفا، توجد ثلاث كنائس أثرية. ويُصعَد إلى الكنيسة الأولى، وهي كنيسة العذراء الجبلية الأثرية بالدير المنحوت في أعلى الجبل، على ارتفاع ما يقرُب من 150م من مستوى سطح البحر عن طريق مَدَق غير مُمَهَّد في الصخور الجبلية والانحناءات الطبيعية الرملية الضيِّقة. ويوجد بصحن الكنيسة الجبلية الأثرية، أربعة أعمدة موزَّعة بعشوائية، وأُضيفَت إليها لتحديد منطقة الخورس الذي يسبق الهيكل نصف الدائري والمُتضمن ثلاث حنيات.
وفي الركن الشمالي الشرقي بخورس الكنيسة، توجد أيقونة القديسة مريم العذراء. وترجع هذه الأيقونة إلى القرن الثامن عشر الميلادي.
اللوحة رقم (3)
كنيسة دير ريفا الجبلية الأثرية من الداخل
وأشار ”تقي الدين المقريزي“ إلى أنَّ هذه الكنيسة الأثرية الرئيسية قد شُيِّدَت في القرن الرابع الميلادي. ويتقدَّم هذه الكنيسة الجبليَّة المعروفة باسم Erib - كما أشار إليها ”إميلينو“ Amélineau – مدخل طويل يفضي إلى ثلاثة خوارس: وهي خوارس المؤمنين والموعوظين والتائبين. وتوجد معمودية الكنيسة في الناحية الجنوبية منها. وبهذه الكنيسة أيضاً مذبح واحد يتشابه إلى حدٍّ كبير مع مثيله الموجود حاليّاً في كنيسة القديسة مريم العذراء بالدير المحرق Dair al-Muharraq. وحجاب الكنيسة الخشبي مُطعَّم بالعاج وتُزيِّنه الصلبان. كما أشار ”على باشا مبارك“ إلى هذه الكنيسة في مؤلَّفه المعروف بعنوان: ”الخطط التوفيقية الجديدة لمصر: القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة“.
اللوحة رقم (4)
حامل أيقونات الهيكل الجنوبي بكنيسة
دير ريفا الجبلية الأثرية من الداخل
ويُعتَقَد أنَّ كنيسة العذراء الجبلية الأثرية شُيِّدَت في بادئ الأمر بداخل أحد أديرة الراهبات العذارى، وفقاً لِمَا ذَكَرَه الأنبا يؤانس في مؤلَّفه: ”مذكِّرات في الرهبنة القبطية“، كما يلي: ”لقد أسَّس الأنبا باخوميوس Saint Pachomius أديرة العذارى في صعيد مصر. ومن أهم الأديرة هو دير قرية ريفا بإقليم ليكوبوليس - أسيوط“. إضافة إلى ما تقدَّم، نُشِرَ عتب حجري لباب مدخل كنيسة العذراء الأثرية في مؤلَّف ”موريس مارتان“ M. Martin.
كنيسة تادرس المشرقي:
وعلى بُعْد حوالي مائة متر تقريباً من كنيسة العذراء الكهفية الأثرية شمالاً، توجد الكنيسة الأثرية الثانية، والتي تُعرف بدير الأمير تادرس المشرقي. وبُنِيَت هذه الكنيسة داخل معبد مصري قديم منحوت في الصخر. وفي مُقدِّمة الكنيسة ”مخربش“ باللُّغة اليونانية لم يُنشَر بعد. ويعلو مدخل الكنيسة الغربي عقْد نصف مُستدير. وبالقرب من مدخل بقايا هذا المعبد القديم، يوجد الهيكل الأول وحجرة جانبية له، حيث إنَّ بالكنيسة خورسَيْن، إضافة إلى الصحن الذي يمتدُّ من الشرق إلى الغرب.
اللوحة رقم (5)
حامل أيقونات الهياكل الشرقية الثلاثة
بكنيسة دير ريفا الجبلية الأثرية
وبالجدار الغربي لخورس الهيكل ثلاث دخلات يعلوها عَقْد نصف مُستدير. ويتوسَّط هيكل الكنيسة المستطيل مذبح خشبي مربع الشكل. ويُعتَقَد أنَّ تحت مذبحها سرداباً أثريّاً استخدمه الآباء الأوائل في عصور الاضطهاد المختلفة لتخبئة القربان. وفي شمال الكنيسة غرفة مساحتها 2.70 × 2.60م، يُعتَقَد أنها كانت مُخصَّصة للكاهن المسئول عن الطقس الكنسي. وفي الناحية الغربية من الكنيسة، يوجد حوض كبير كان يتم استخدامه غالباً كمغطس.
كنيسة مار قُلتة:
وفي وسط قرية ريفا، شُيِّدَت كنيسة أثرية ثالثة كُرِّسَت لمار قُلتة الطبيب Saint Collutus. وينخفض مستوى أرضيَّة هذه الكنيسة لأكثر من ثلاثة أمتار تقريباً عن مستوى أرضيَّة الشارع، مِمَّا يؤكِّد أنها كنيسة قديمة. وفي شرق الكنيسة، ثلاثة هياكل يرجع تاريخها إلى القرنَيْن السابع عشر والثامن عشر الميلاديَّيْن. وبعض الأيقونات القديمة والحديثة تُزيِّن الجدران الداخلية للكنيسة التي يوجد في غربها بئر قديم وحوض لقَّان كبير دائري الشكل.
وقد أشار ”تقي الدين المقريزي“ إلى هذه الكنيسة، قائلاً: ”وبناحية ريفة كنيسة "بوقُلته" الطبيب الراهب صاحب الأحوال العجيبة في مُداواة الرمدي من الناس. وله عيد يُعمَل بهذه الكنيسة“. يُستشف من العبارة السابقة أنَّ مار قلتة الطبيب كان معروفاً بمعجزاته ومهاراته وقدراته الفائقة في علاج المرضى المُصابين بالرمد. كما كان يتمُّ الاحتفال بعيده في كنيسته في قرية ريفا. وقد صُوِّر القديس مار قلتة على بعض الأيقونات القبطية، كما ظهر أيضاً في زخارف بعض الرسومات الجدارية التي تُزيِّن الجدران الداخلية لبعض الأبنية القبطية، مثلما نراه مُصوَّراً في منتصف الجدار الجنوبي لخورس الكنيسة الرئيسية الأثرية للعذراء مريم في دير السريان the Syrians Monastery في وادي النطرون.
(يتبع)