تأملات في الروح القدس
- 5 -



الروح القدس

الروح القدس في الثالوث الأقدس

+ الله الآب يُنشئ خطَّة الخلاص، واهباً إرسال أقنوم الابن الكلمة بقوَّة الروح القدس.

+ والله الابن يُجسِّد ويُنفِّذ خطة التكفير عن الخطايا، وبه تَخلُص البشرية.

+ والله الروح القدس يُطبِّق ويُنفِّذ منافِع خلاص البشرية، تحت ظروف التطوُّر التاريخي لتفعيل وإظهار الخلاص الثمين للمؤمنين.

التركيز على الثالوث الأقدس:

من الآب، من خلال الابن، بواسطة الروح القدس.

1. فالقدرة على خَلْق الوجود، ابتدَأَت من الآب.

2. القدرة على التوسُّط جسديّاً في عمل الخلاص، تعود إلى الابن.

3. القدرة على إتمام وتحقيق عمل الله الخلاصي، تعود إلى الروح القدس.

هذا ليس وكأنَّ أقانيم الثالوث هي ثلاثة آلهة؛ لأن المؤمنين بالثالوث يتكلِّمون بإيمانٍ ويقين عن الثالوث أنه الله الواحد.

+ ”فإنه مع الروح القدس، ومن خلال الابن الوحيد؛ فإننا نكرز بالله الواحد ونؤمن به“، كما يقول القديس كيرلس الأورشليمي(1).

+ وكما يقول القديس أمبروسيوس: ”إبراهيم في العهد القديم، رأى ثلاثة، وكان يعبد واحداً“(2).

+ إنه لأَمْر مُناسب أن نرى حُسْن تدبير الروح القدس، بمعنى الرسوخ في إيمانٍ وطيد بالثالوث: الآب، والابن، والروح القدس؛ جوهر واحد، إله واحد بدون انفصال أو تفريق بين أقانيم الثالوث. فهي أقانيم مُتساوية في الجوهر الإلهي، ومُتشاركون في الأزلية وفي الأبدية. فالأقانيم الثلاثة هم الله الواحد. ولذلك يقول الرب يسوع في إنجيل يوحنا: «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ... وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ» (يو 14: 16،9).

+ وعن خدمة المُصالحة مع الآب التي أكملها المسيح بآلامه وموته، يقول عنها بولس الرسول: «وَلكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ» (2كو 5: 18)، «عَامِلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ» (كو 1: 20). وكذلك عمل الروح القدس في خدمة الخلاص والفداء (2كو 3: 6-11). وهذه الخدمة عينها يؤدِّيها خُدَّام الله.

+ الروح القدس يُمكِّننا من القدوم (أي الوصول) إلى الآب باستحقاق الابن: «لأَنَّ بِهِ (بالمسيح) لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى الآبِ» (أف 2: 18). وإذ لا يوجد سوى آب واحد وابن واحد؛ هكذا لا يوجد سوى روح قُدُس واحد مساوٍ للآب والابن في الجوهر.

+ لذلك يقول القديس كيرلس الأورشليمي: ”إنه لا يوجد روحٌ قُدُسٌ آخر مُساوٍ له، يُقدِّس كل الأشياء التي تُنير نفوس الأبرار“(3).

+ وبكل بساطة، يُسمَّى ”المسيح“ بهذا الاسم، كما يقول القديس أمبروسيوس: ”(لأن) الله الآب هو الذي مَسَح المسيح ابن الله (في تجسُّده) لنفسه، وبالروح القدس مُسِحَ المسيح (ابن الله المُتجسِّد)“(4).

+ الثالوث الأقدس ليس اختراعاً أو ابتداعاً، وليس هو نتيجة تعليمٍ رسولي قديم؛ بـل هو راسخٌ من عُمْق الشهادة الرسولية ولا ينفصل عنها (عب 9: 14).

+ يقول العلاَّمة ترتليان: ”الله الروح القدس ينبثق من الآب، فهو مُشترك معه في الأزلية، وهو مُساوٍ للآب وللابن (في الجوهر)“(5).

الروح القدس مُنبثقٌ من الآب:

الروح القدس (المُدافع، والمعزِّي) هو غير مخلوق، بل هو مُنبثقٌ من الآب.

+ الروح القدس صالحٌ، ليس كمَن يكتسب الصالحات من مخلوق، بل هو يمنح الصلاح للخلائق. الروح القدس لا يتقدَّس من المخلوقات؛ بل بالعكس، هو يُقدِّس الخلائق ولاسيما المؤمنين.

+ ”القداسة الكاملة التي في الروح القدس لا يمكن أن تبلغنا مُباشرةً، بواسطة الطبيعة الإلهية؛ بل نحن ننالها بالمُشاركة مع النعمة، لأن الصلاح الإلهي يُشركنا (فيه بالنعمة)“ (القديس أمبروسيوس)(6).

+ العلاقة بين الآب والروح القدس توصَف، ليس على أنها من ذُرِّيَّة أو من نَسْل (كما في حالة الأبناء البشريين)؛ لكنها علاقة إلهية في وحدة الجوهر الإلهي، لا يمكن شرحها بلُغة البشر: «وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي (اسم المسيح)، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (يو 14: 26). فهو «رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ» (يو 15: 26). وهذا التوضيح والكَشْف هو بلُغة بشرية قاصرة محدودة بمفاهيم البشر.

+ والقديس أثناسيوس يُسمِّي هذا التوضيح بـ ”اللُّغة الأرضية“. وهو يُعبِّر عنها بهذا القياس التمثيلي: ”كما في حالة "النهر" الذي ينتج من مَنْبعه، وهو ليس مُنفصلاً عنه (أي عن النبع). وبالرغم من وجود النوعين (المَنْبَع، النَّهْر)، ولكنه ليس مُنفصلاً الواحد عن الآخر. ومع ذلك يظلُّ المنبع مَنبعاً، والنهر نهراً؛ لكنهما غير مُنفصلَيْن الواحد عن الآخر. وكلٌّ منهما تجري فيه نفس المياه. فكما أنَّ المنبع ليس هو النهر، وليس النهر هو المنبع، والاثنان هما واحدٌ، وتجري فيهما نفس المياه التي تنتقل في مَجْرَى من الينبوع إلى النهر؛ هكذا الروح القدس ينبثق من الآب بلا انقسام“ (القديس أثناسيوس الرسولي)(7).

الأساس الثالوثي وعمل الخلاص: الآب يتحرَّك بالمحبة نحو البشرية الساقطة، ما أدَّى إلى إرسال الابن إلينا. وابن الله أَخَذَ على عاتقه الطبيعة البشرية، وتألَّم وصُلِبَ، وقام من بين الأموات؛ ليُقيم البشرية من الموت. والروح القدس أَخَذَ على عاتقه توفير الوسائل التي بها يتقبَّل البشر هذه العطايا الثمينة لينالوها وينتفعوا بها.

+ ويمكن القول بأنَّ أساس هذا التعليم هو جزءٌ لا يتجزَّأ في فاتحة الرسالة الأولى للقديس بطرس الرسول إلى المُختارين لله في الشتات: «بِمُقْتَضَى عِلْمِ اللهِ الآبِ السَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ الرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (1بط 1: 2).

+ يبدأ تتابُع تدبير الخلاص من خلال محبة الله الآب نحو البشرية؛ ومن خلال موت ابن الله على الصليب وقيامته من بين الأموات، من أجل خلاص العالم؛ وبنعمة الروح القدس من أجل تحقيق وتمكين عمل الفداء.

وهكذا بدأ عمل الله المُثلث الأقانيم من نحو خلاصنا: الآب يحب الذين سقطوا؛ والابن يفتدي الذين أحبَّهم الله الآب؛ والروح القدس يدعو ويُعلِّم الذين قد خَلَصوا.

عمل الروح القدس

الله اختار البشرية لتكون الهدف والقصد الخاص للنعمة الإلهية، والتي من خلالها يُعلِن الله مجده الإلهي. وبحسب قانون الإيمان الأرثوذكسي (النيقاوي والقسطنطيني): ”نؤمن بربٍّ واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد... الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء، وتجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء...“.

+ لماذا: ”من أجلنا نحن البشر“؟ وما الذي حرَّك الله من أجل خلاصنا، ليُرسل ابنه الوحيد من السماء ليُخلِّصنا؟ فليس شيءٌ فينا هو الذي دفعه إلى ذلك، لا شيء سوى مسرَّته ومشيئته من نحو خلاصنا، ومن أجل إعلان مجده الإلهي، ومحبته لنا التي لا يُنطق بها: «إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ... إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ» (أف 1: 9،5)، «لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ» (في 2: 13).

فالله لم يكن مُقيَّداً لأن يُخلِّص البعض أو الكل بإرادةٍ إلهية مفروضة عليه بسببٍ أو بآخر! فالسلام على الأرض ممنوحٌ لمَن يتقبَّل مشيئة الله، والخلاص ينتفع به مَـن يؤمن ويقبل. فخلاص الخطاة هـو السبب في موت ابن الله المُتجسِّد وقيامته من بين الأموات، وكذلك في عمل النعمة بحلول الروح القدس على البشر بحسب مشيئة الآب.

+ وهكذا أحب الله الآب العالم حتى أرسل ابنه الوحيد ليتجسَّد ويتألَّم ويُصلب ويقوم من بين الأموات، لكيلا يهلك كل مَن يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية (يو 3: 16). فابن الله المُتجسِّد هو الذي أََعلَن للبشر صلاح الله وبرَّه المجَّاني من نحو خلاصنا. والروح القدس هو الذي يَهَب لنا الولادة الجديدة والتي بها ننال بر الله المجَّاني: «اَلرُّوح هُوَ الَّذِي يُحْيِي» (يو 6: 63).

فالذي يؤمن، يختمه الروح القدس بسرِّ المعمودية، ويُعلِن له مشيئة الله، ويدفعه ليكرز ويُبشِّر بهذا الإيمان، ثم ”يُرشده إلى جميع الحق، ويُخبره بأمورٍ آتية“ (يو 16: 13).

وهنا يبرز دور الروح القدس في الخلاص، حيث تظهر الحياة الجديدة التي في المسيح، ويشهد الروح القدس - روح الحق - للحق الذي في ابـن الله، ويضمُّ إلى جماعـة المؤمنين مولودين جُدُداً.

فالحياة الجديدة، والشهادة لاسم المسيح، وجماعة المؤمنين؛ تظلُّ تُكمِّل الشهادة، بعمل الروح القدس.

أقنوم الروح القدس في تدبير الخلاص،

قبل تجسُّد ابن الله الكلمة ومجيئه إلينا

عمل الروح القدس في الخِلْقة الأولى: يبدأ سَرْد الكتاب المقدَّس لعمل الروح القدس، هكذا: «فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ. وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ» (تك 1: 2،1).

+ فروح الله تحرَّك ليُعطي أمراً للعدم، أي للفراغ. وهكذا خُلِقَ الوجود من العدم، وبدأ يصير كل شيء بأَمْر الله. فصار الجمال أي الوجود من الفراغ، وكل خليقة خلقها الله هي بكلمته وبروحه القدوس: «بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَوَاتُ، وَبِنَسَمَةِ فِيهِ (بالروح القدس) كُلُّ جُنُودِهَا» (مز 33: 6). وبالتالي كما يقول إشعياء النبي: «مَنْ كَالَ بِكَفِّهِ الْمِيَاهَ، وَقَاسَ السَّمَوَاتِ بِالشِّبْرِ، وَكَالَ بِالْكَيْلِ تُرَابَ الأَرْضِ، وَوَزَنَ الْجِبَالَ بِالْقَبَّانِ، وَالآكَامَ بِالْمِيزَانِ؟ مَنْ قَاسَ رُوحَ الرَّبِّ، وَمَنْ مُشِيرُهُ يُعَلِّمُهُ؟» (إش 40: 13،12).

+ ويقول القديس أمبروسيوس: ”ليس عطية بَلَغَت الخليقة بدون الروح (القدس)“(8).

(يتبع)

(1) St. Cyril of Jerusalem, Catech. Lect. XVI. 1; NPNF 2 V, p. 115.
(2) St. Ambrose, On the Holy Spirit II, intro. 4; NPNF 2 IV, p. 115.
(3) St. Cyril of Jerusalem, Catech. Lect. XVI. 1; NPNF 2 V, p. 115.
(4) St. Ambrose, On the Holy Spirit III,44; NPNF 2 X, p. 99.
(5) Tertullian, Ag. Proxecas IV; ANF III, pp. 598-599; Gregory Nazianzen, Orat. XXX I.4; Basil, On the Holy Spirit I.3,X,XI, Hom. XV.31.
(6) St. Ambrose, On the Holy Spirit II, intro. 4; NPNF 2 IV, p. 115.
(7) St. Athanasius, Ekthethesis 2; ECF, p. 298; cf. NPNF 2 IV, p. 84; LCHCI. Lg.
(8) St. Ambrose, On the Holy Spirit IX.24-26; NPNF 2 VIII, 16,17.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis