دراسة الكتاب المقدس


مقدِّمات الأسفار
- 54 -

ثالثاً: الأسفار الشعرية

5 - سِفْر نشيد الأنشاد

مُقدِّمـة:

يُعتَبَر سِفْر نشيد الأنشاد، هـو أول الأسفار الخمسة المُسمَّاة بالعبرية Megilloth أي المجلاَّت أو الدروج. وهي الأسفار التي يقرأها اليهود في الأيام التي يحتفلون فيها بخلاصهم من أعدائهم:

وأوَّلها: خروجهم من أرض مصر. وتُقرأ فيه أُنشودة سليمان (نشيد الأنشاد)، والمرجع الكتابي لهذه المناسبة هو (خر 12؛ لا 23: 4-8)، ويُعيِّدون له في 14 نيسان (يُقابل مارس/ أبريل) ويُسمَّى عيد الفصح، وبعده مباشرةً عيد الفطير.

والثاني: هـو عيد الخمسين، ويُسمَّى بالعبرية ”شافوت“ ويقع في 6 سيفان (يُقابل مايـو/ يونية)، والمرجع الكتابي له هو (تث 16: 9-12؛ لا 23: 2-14)، ويُقرأ فيه سِفْر راعوث، ويحتفلون فيه بحصاد القمح وتقليم الكروم.

والثالث: ذِكْرى هَدْم الهيكل في سنة 586 ق.م، وسنة 70م في 9 آب (يُقابل يوليو/ أغسطس)، ويُقرأ فيه سِفْر مراثي إرميا.

والرابع: عيد المظال، ويُدعَى بالعبرية ”سُكُّوت“ في 15-21 تشري (يُقابل سبتمبر/ أكتوبر)، والمرجع الكتابي (نح 8؛ لا 23: 33-36)، وهو تذكار التيه في البريَّة، ويُقرأ فيه سِفْر الجامعة.

والخامس: ”عيد البيوريم أو الفيوريم“، والاسم مأخوذ من كلمة ”فور“ أي ”قرعة“، لأن هامان ألقى قرعة لإبادة اليهود. ويُقرأ فيه سِفْر أستير تذكاراً للبطولة التي قامت ب‍ها أستير بتعريض نفسها للموت من أجل إنقاذ بني جنسها، وصارت أداة في يد الله لخلاصهم. فهذا العيد لا يُحْتَفَى فيه ب‍هلاك الأعداء؛ بـل بإنقاذ اليهود مـن اضطهاد أعدائهم لهم. ويتميَّز هذا العيد بإقامة الولائم والاحتفالات والفرح باستعلان العناية الإلهية.

مؤلِّف السِّفْر:

مؤلِّف هـذا السِّفْر، حسب التقليد اليهودي، هـو سليمان. وقد أُشير إليه في السِّفْر سبع مرَّات (1: 5،1؛ 3: 11،9،7؛ 8: 12،11). وهو على شكل حـوارٍ بين حبيـبين، ويَظُنُّ البعض أن‍هما سليمان وفتاة من شولم. وهناك أيضاً خورس من بنات أورشليم يشترك معهما في الحوار بين الحين والآخر. ومع ذلك، فإنَّ البعض يُشكِّك في نسبة السِّفْر لسليمان، رغم أنَّ افتتاح السِّفْر بالقول: «نَشِيدُ الأَنْشَادِ الَّذِي لِسُلَيْمَانَ» يُعتَبَر بمثابة تكريس له، وليس اعترافـاً بتأليفه إيَّاه. ويُطلَق على هـذا السِّفْر باللاتينية Canticles ومعناه: ”أناشيد“. وإذا كان سليمان هو مؤلِّف السِّفْر، فهو قد يتضمن جزءاً من الأناشيد الألف وخمسة التي ذُكِرَت في سِفْر الملوك الأول (4: 32) ونُسِبَت إليه.

تاريخ كتابة السِّفْر:

يُعتَبَر التاريخ ال‍مُتوقَّع لكتابة سليمان لهذا السِّفْر هو القرن العاشر قبل الميلاد. وحسب التقليد اليهودي، فهو من كتابات سليمان في سِني حُكْمه الأولى، قبل أن يأخذ له أعداداً كبيرة من الزوجات والسراري والعذارَى: «هُنَّ سِتُّونَ مَلِكَةً وَثَمَانُونَ سُرِّيَّةً وَعَذَارَى بِلاَ عَدَدٍ» (6: 8)، تزوَّج ب‍هنَّ لأغراضٍ سياسية ولانغماسه في الجسديات. وبصرف النظر عن التاريخ الفعلي لتأليف السِّفْر، فإنَّ نشيد سليمان هذا يعكس بداية عصر مملكته، والمجد الذي أُحيط به عهده، الذي كان أساسيّاً للرمز الذي يُشير إليه هذا السِّفْر.

التكوين الأدبي والروحي للسِّفْر:

هذا السِّفْر يُحسَب أنه أُنشودة عُرْس مُتسامية، استخدمها الشعب اليهودي منذ القرون الأولى للاحتفال بزواج العروسَيْن في عُرْسهم. وموضوع السِّفْر رمزٌ لمحبة الله لشعبه ال‍مُخْلِص والمحبة ال‍مُتبادَلة بينهما. وقد اتَّخذته الكنيسة المسيحية للتأكيد على تفسير وشرح محبة المسيح لعروسه الكنيسة، حتى بَذَل نفسه لأجلها. وهذه الأُنشودة تُمثِّل نوعاً من الأدب الذي اشتهرت به الحكمة السامية، وهي تتطابق مع سِفْر الأمثال في بعضٍ من أسلوبه، من حيث ذِكْر فكرة وتكرارها في سياقٍ مُترابط. وتشمل الصُّور الرئيسية في السِّفْر بعض الكلمات مثل: النبيذ، أو الحديقة، أو القُبلة، أو العديد من التوابل والفواكه، أو الريف. ومن الجدير بالذِّكْر حقيقة أنَّ اسم الله لا يظهر مُباشرةً في السِّفْر.

والشكل الأدبي والهدف المقصود للنشيد قد تمَّ فهمه بعدَّة طُرُق متنوعة، تُختَصَر في ثلاثة أساليب أساسيَّة، منها النظرة الاستعارية أو الرمزية التي تتفهَّم السِّفْر باعتباره قصيدة تصف العلاقة بين الله وإسرائيل أو بين المسيح والكنيسة. ويُنظَر إلى كل التفاصيل على أن‍ها رمزٌ للحقيقة الروحية الأعمق. وتختلف النظرة النمطية عن النظرة المجازية من خلال الاعتراف بالأساس التاريخي وإيجاد التشابُه، ليس في جميع التفاصيل الثانوية، ولكـن فقط في الخطوط الرئيسية. ويعترف مؤيِّدو هـذا الرأي بالحبِّ المتبادَل بين سليمان والفتاة الشولاميَّة. ولكنهم يتعدُّون ذلك بالنظر في التشبيه الإلهي بمعناه الأكثر ارتفاعاً وروحانيةً باعتباره الأهم.

وعموماً، فقد توافَق اليهود والمسيحيون، على السواء، أنَّ هناك معنًى روحيّاً أكثر عُمقاً من المعنى الحرفي، يختفي تحت هذه الأشعار البالغة الرقَّة. ويرى بعض ال‍مُفسِّرين أن‍ها تُعلِّمنا بصورةٍ رمزية عن العلاقة المرتبطة بعهدٍ بين إسرائيل ويهوه، كما جاءت في الأصحاحات الأولى من سِفْر هوشع النبي مثل قوله: «وَأَخْطُبُكِ لِنَفْسِي إِلَى الأَبَدِ. وَأَخْطُبُكِ لِنَفْسِي بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ وَالإِحْسَانِ وَالْمَرَاحِمِ. أَخْطُبُكِ لِنَفْسِي بِالأَمَانَةِ فَتَعْرِفِينَ الرَّبَّ» (هـو 2: 20،19). وطبَّقها البعض الآخـر على تكريس النفس البشرية لمحبة الله وعبادته.

أمَّا المسيحيون، فقد اهتدوا بالطبع إلى التفسير الذي قدَّم له القديس بولس الرسول في رسالته إلى أفسس: «لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ» (أف 5: 30)، «هذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ» (أف 5: 32). وكـذلك يقول القديس يوحنا في سِفْر الرؤيا: «وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا. وَسَمِعْتُ صَوْتاً عَظِيماً مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: ”هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهاً لَهُمْ...“» (رؤ 21: 2-5).

وقد أعلن الرب في إنجيل يوحنا أنه «أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى» (يو 13: 1)، وهذا ما قاله في بداية خدمته: «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يو 3: 16). وأكَّد هذا المعنى حينما أعطانا جسده لنأكله ودمه لنشربه، قائلاً: «مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ» (يو 6: 56). كما قال عن مدى حبِّه للمؤمنين به: «أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ» (يو 10: 11). كما طلب الرب يسوع من الآب في صلاته الختامية قائلاً: «أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ» (يو 17: 23). فلا عجب أن يكون سِفْر نشيد الأنشاد هو نشيد الحب ال‍مُتبادَل بين الله وخاصَّته الذين أحبهم إلى المنتهى، وسَكَبَ في قلوبنا حبَّه بالروح القدس الساكن فينا.

وقد عضد هذا التفسير آباء الكنيسة الأوَّلون، أمثال: أوريجانوس وغريغوريوس النيصي وجيروم، واعتبروه سِفْراً ذا مغزى روحي، وليس عاطفيّاً جسدانيّاً. فهـو يُشير إلى المسيح والكنيسة أو النفس البشرية والله الكلمة ال‍مُتجسِّد.

ويسرد السِّفْر الحوار السرِّي المستيكي بينهما (بين النفس البشرية والمسيح)، ومحتويـات موروثة وليست مُنتحلة؛ والغرض منها أيضاً هـو تقديس العلاقة الروحية. كما أنَّ القُبلة في الكنيسة هي علامة ال‍مُصالحة والمحبة الصادقة. وقُبلة الله الكلمة للنفس هي قُبلة القداسـة والمحبة السامية، حسب تفسير الآبـاء: أمبروسيوس وغريغوريوس النيصي وهيبوليتس، وغيرهم.

+ وفيما يلي جدول تصويري لمحتويات السِّفْر: بؤرة التركيز بداية الحب اتِّساع الحب المراجع 1: 1 _____ 3: 6 ________ 5: 2 ________ 7: 11 _ 8: 14 الأقسام الدخول في الحب الاتِّحاد في الحب الجهاد في الحب النمو في الحب الموضوع التودُّد العُرْس مشاكل تقدُّم تعزيز الحب تحقيق الحب الإحباط في الحب وفاء الحب المكان إســرائيــل الزمن القرن الأول قبل الميلاد مُلخَّص لمحتويات السِّفْر:
1. بداية الحب (1: 1-5: 1):

أ - الدخول في الحب (1: 1-3: 5).

ب - الاتِّحاد في الحب (3: 6-5: 1).

2. اتِّساع الحب (5: 2-8: 14):

أ - الجهاد في الحب (5: 2-7: 10).

ب - النمو في الحب (7: 11-8: 14).

أقوال آبائية عن السِّفْر:

1. أُنشودة زواج جميلة: [سليمان مُحب السلام ومُحب الرب، يُصحِّح الأخلاق، ويُعلِّم عن الطبيعة، ويُوحِّـد بين المسيح والكنيسة، وينشد أُنشودة حلوة احتفاءً بالعُرْس المقدَّس](1) - القديس جيروم.

2. الثديان هما القلب، إشارة إلى قوَّة الله السريَّة: [«ثدياك أطيب من الخمر»، يقصد بذلك القلب. لن يُخطئ أحدٌ إذا فَهِمَ أنَّ القلب هو القوَّة السريَّة الخفية لله. ويمكن للمرء أن يفترض بحقٍّ أنَّ الثديين هما أنشطة قوَّة الله بالنسبة لنا، والتي يُغذِّي ب‍ها حياة كل شخص التغذية ال‍مُناسبة](2) - القديس غريغوريوس النيصي. (يتبع)

(1) St. Jerome: Letter 53.8; NPNF 2 6: 101.
(2) St. Gregory of Nyssa: Homilies on Songs of Songs 1, CNSS 52.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis