ادخل إلى العمق



- 5 -
ملامح مُضيئة في أيقونة المعمودية
(السموات المفتوحة)

يُطِلُّ علينا عيد الغطاس المجيد، أو عيد الإبيفانيا والظهور الإلهي، فتتراءى أمامنا أيقونة المعمودية المُقدَّسة، بأحداثها الرائعة والمُثيرة، والتي كرَّست ورَسَّخَتْ - في وجدان الكنيسة - مفاهيم إيمانية عميقة وثابتة ومُبهجة، فيما يختصُّ باستعلان الثالوث القدوس، ويسوع المسيح حَمَل الله الذي يرفع خطية العالم، وأيضاً في معنى شركتنا في موت المسيح وقيامته، وفي مفهوم الولادة الجديدة من الماء والروح؛ إضافةً إلى سلوكيات وأمور روحية أخرى كثيرة، كلها من خلال بانوراما روحية داخل أيقونة سمائية جميلة.

ولعلنا نقدر في عُجَالة، أن نطوف ببعض ملامح هذه الأيقونة، لنَستَشِفَّ لأنفسنا بعض المعاني والدروس الروحية، التي تُفيدنا في حياتنا، سواء من شخصيات، وأقوال، أو أحداث هذه المعمودية، المرسومة لنا في إطار هذه الأيقونة المُقدَّسة.

المنظر الأول: يوحنا المعمدان:

+ هو يوحنا بن زكريا الكاهن، المُرسَل كصوت صارخٍ في البريَّة، ليُهيِّئ للرب طريقاً، كقول إشعياء النبي: «صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: ”أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلاً لإِلهِنَا“» (إش 40: 3). وهو الذي شهد لحَمَل الله الآتي إلى العالم، ومهَّد الطريق أمامه، وأشار إلى بدء زمان ملكوت الله وانتشاره. ومنذ أن كان جنيناً في بطن أُمِّه، فقد امتلأ بسلام الرب والروح القدس، وفَرِحَ وقَبِلَ التكليف بأن يكون سابقاً وخادماً وصابغاً لربِّه (بالمعمودية)، كما هو مذكور في (لو 1: 41).

+ وهو العظيم أمام الله، وليس أمام الناس، فقد شهد له الرب يسوع بقوله: «اَلْحَقَ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ» (مت 11: 11). وكذلك خاطَب الربُّ الجموعَ بقوله: «لكِنْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيًّا؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ، وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ» (مت 11: 9). وقول الرب أيضاً: «وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا، فَهذَا هُوَ إِيلِيَّا الْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ» (مت 11: 14). ويشهد الملاك المُبشِّر لزكريا عن يوحنا المعمدان بقوله: «لأَنـَّهُ يَكُونُ عَظِيماً أَمَامَ الرَّبِّ... وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِيءُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (لو 1: 15). كما أنَّ أباه زكريا قال بالروح عنه: «وَأَنْتَ أَيُّهَا الصَّبِيُّ نَبِيَّ الْعَلِيِّ تُدْعَى، لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ» (لو 1: 76). فعظمة يوحنا الحقيقية، كانت كونها أمام الله، ولأجل مجد اسمه. أمَّا مَن يسعى ليكون عظيماً بين الناس، دون الله، فقد أضاع تعبه، وفَقَدَ نعمة المسيح، حسبما يُنبِّهنا الكتاب المقدَّس على فم بولس الرسول: «فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي النَّاسَ، لَمْ أَكُنْ عَبْداً لِلْمَسِيحِ» (غل 1: 10).

+ ويوحنا المعمدان، هو الرجل المُتَّضع، المُنكر لذاته، والذي يُمثِّل لنا الصورة الواجبة لاتِّضاع المخلوق أمام الخالق، فهو يقول للرب: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!» (مت 3: 15)، وهو يشهد ويقول: «يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ» (يو 3: 30). وأيضاً يقول: «مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ... إِذًا فَرَحِي هذَا قَدْ كَمَلَ» (يو 3: 29). إنها صورة رائعة للاتِّضاع مـن هذا النبي الجبَّار.

+ ويوحنا المعمدان هو الناسك والزاهد الشجاع، الذي قضى حياته مُختبئاً مع الله، واهباً قوَّته ومحبته لخدمة اسمه، وكما يصفه البشير متى الرسول بقوله: «وَيُوحَنَّا هذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَاداً وَعَسَلاً بَرِّيًّا» (مت 3: 4). وقال عنه لوقا البشير: «أَمَّا الصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، وَكَانَ فِي الْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ» (لو 1: 80)؛ بل إنَّ الرب يسوع قال للجموع عنه: «مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَـرِّكُهَا الرِّيحُ؟» (مت 11: 7). كذلك كان يوحنا شُجاعاً لا يخاف أن يُجاهر بالحقِّ، حتى في وجه الملك، فتراه يؤنِّب هيرودس الملك ويُوبِّخه وينهاه عن أعماله الشريرة، لاسيَّما تحذيره من الزواج بهيروديَّا امرأة أخيه، إذ يقول له: «لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ» (مت 14: 4)؛ لذلك حَنَق عليه هيرودس وقَطَعَ رأسه فيما بعد. وهو أيضاً الذي كان يُخاطب الرؤساء والجموع الآتية إليه بجـرأة قائـلاً: «يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي؟ فَـاصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِالتَّوبَـةِ» (مت 3: 8،7).

المنظر الثاني: آداب الحديث

(تواضُع الخالق أمام خليقته):

هذا منظرٌ عجيبٌ للإخلاء والاتِّضاع الذي مارسه الرب يسوع مع خليقته، ليُثبِّت في قلوبنا معنى المُتَّكأ الأخير، ومعنى الوداعة والتواضُع، وذلك حسب قوله لنا: «اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ» (مت 11: 29). فها نحن ننظر:

+ «وَلَمَّا اعْتَمَدَ جَمِيعُ الشَّعْبِ اعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضاً» (لو 3: 21). فالرب يسوع انتظر كلَّ الشعب حتى يعتمد الجميع، وحينئذٍ جاء أخيراً ليعتمد، مع أنه الإله الذي باسمه نحن جميعاً نعتمد، وذلك لكي يُعلِّمنا الاتِّضاع الحقيقي، كما يقول الرب يسوع: «وَلكِنْ كَثِيرُون أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَالآخِرُونَ أَوَّلِينَ» (مر 10: 31).

+ «اسْمَحِ الآنَ، لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ». حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ» (لو 3: 21)، فالخالق يَطلب من خليقته المعمودية، ويحني رأسه أمامها. وهذا ليس بعجيبٍ لإلهٍ قد قَبِلَ أن يأخذ الذي لنا، من ضعفٍ وانكسارٍ، ويهبنا بقوَّته وقدرته الإلهيَّتين النصرة والحياة والميراث.

والسؤال هنا لنا: هل نحن أيضاً نسلك مثله؟ وهل نتَّضع بعضنا لبعض، كما علَّمنا المسيح؟ (الزوج مع الزوجة، والأب مع أبنائه، والكاهن والعلماني، والرئيس والمرؤوسين). فلننظر إلى إلهنا المُتَّضع والمُنحني تحت يد يوحنا، ولنتعلَّم!!

المنظر الثالث: السموات المفتوحة:

منذ أن اقترب ملء الزمان، وبعد فترة انقطاعٍ طويلة، بين السماء والأرض، بَدَأَت إرهاصات الحركة تَدُبُّ مرَّةً أخرى - بزخمٍ شديد - وبدأت رسائل السماء تتوالى. فها الملاك يُبشِّر زكريا الكاهن بميلاد يوحنا، ثم يذهب إلى القديسة العذراء مريم، ليزُفَّ إليها بشارة التجسُّد والخلاص الذي سيُولد منها، وبقُرب استعلان سرِّ الله المكتوم، بميلاد المُخلِّص يسوع المسيح. وها نجم الميلاد يظهر للمجوس البعيدين، وملاك الرب يأتي في حُلْمٍ ليوسف النجَّار ليُطمئنه ويُهدِّئ قلبه. وبعد ذلك تَظهر الأجناد الملائكية للرعاة المُتبدِّين، تُبشِّرهم بمولود بيت لحم المُخلِّص، وتتهلَّل أمامهم بتسبحة الميلاد الخالدة. ثم ما تلا تلك الظهورات بأخرى كثيرة مع الرب يسوع نفسه، على جبل التجربة، إذ صارت الملائكة تخدمه؛ أو على جبل التجلِّي؛ وعند القيامة؛ وغيرها. إذن، فقد انفتحت السموات مرَّةً أخرى، وانحسرت الظلمة، وأشرق علينا نور عهدٍ جديد.

لكن ما حدث في أيقونة المعمودية، فهو أمرٌ مُبهرٌ ومُميَّزٌ. فقد انفتحت السماء، عندما صعد يسوع مـن الماء، واستُعلِن الثالـوث القـدوس - لأول مرَّة - بصورةٍ رائعة وبهيئة محسوسة ومنظورة. فها الابن حَمَل الله صاعدٌ من الماء، وصوت الآب يسمعه يوحنا ناطقاً: «أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ، بِكَ سُرِرْتُ!» (لو 3: 22). وها الروح القدس يحلُّ مثل حمامة على الابن، شاهداً له، ومُعلِناً وحدانية هذا الثالوث القدوس.

حقّاً، إنه منظرٌ عجيب، يستوجب الفرح والشكر. فقد نَقَل حياتنا من الأرض إلى السماء، وأضاء عقولنا بنور معرفة الثالوث الإلهي، وبشَّرنا بانفتاح باب السماء والفردوس أمامنا، مِن قِبَل هذا الابن الوحيد الصاعد من الماء، ماء المعمودية، التي هي لنا عربون الشركة في موته وقيامته بالجسد، من أجل خلاصنا.

+ بهذا المنظر الروحاني الجميل، تأسَّس في الكنيسة المُقدَّسة، أول أسرارها نحو الملكوت، ودخول السموات المفتوحة، وهو سر المعمودية باسم الثالوث القدوس. وصار الإيمان والمعمودية، التي هي شركة لمعمودية المسيح، هما المَعْبَر لنا، وعربون خلاصنا، نحو ميراثنا السمائي. بهما ننال الميلاد الجديد من الماء والروح، كقول الرب يسوع: «مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ» (مر 16: 16).

+ والمعمودية، كشركة في موت الرب ودفنه بالجسد ثم قيامته، هي التي تؤهِّلنا أن نُدعَى أولاد الله، وإن كُنَّا أبناء فنحن ورثة الله بالمسيح: «مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي المَعْمُودِيَّةِ» (كو2: 12)، «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ» (يو 3: 5).

المنظر الرابع: الأثمار التي تليق بالتوبة:

فكما أنَّ المعمودية لا يمكن تحقيقها إلاَّ بالتوبة والاعتراف بالخطية والإقلاع عنها، كما يقول حنانيا لبولس الرسول: «وَالآنَ لِمَاذَا تَتَوَانَى؟ قُمْ وَاعْتَمِدْ وَاغْسِلْ خَطَايَاكَ دَاعِياً بِاسْمِ الرَّبِّ» (أع 22: 16)؛ هكذا أيضاً، لا يمكن أن تُؤتي المعمودية مفاعيلها للإنسان، دون تفعيل لهذه التوبة كل أيام حياته، حتى تَظْهَر ثمار هذه التوبة، وتشهد باستحقاقنا لبركات ونِعَم هذه المعمودية.

وقد قيل عن المعمودية: إنها ولادة جديدة لله بالروح، بمعنى أننا قد صرنا أولاداً لله. ونحن نَعْلَم أنَّ أولاد الله لا يُخطئون، أي أنَّ الخطية لا تسود ولا تقدر عليهم، وليس لها أيُّ قبول أو مكان فيهم أو سلطان عليهم. وإن حدث وأخطأوا، فالروح الذي داخلهم سوف يدفعهم ويحثُّهم على الندم والتوبة والرجوع سريعاً، لأن هذا هو عمل الله داخلهم، ومفاعيل المعمودية لهم؛ إذ تُعطيهم سلاح التوبة والاعتراف والرجوع، لتجديد حياتهم، كما في يوم معموديتهم، ودم المسيح يغسل كل خطاياهم بسبب توبتهم الحقيقية، حسب وَعْد الله لنا، على فم يوحنا الرسول: «إِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ» (1يو 2: 1).

وقديماً كان نُعمان السرياني العظيم بين الناس، يُخفي بَرَصه عنهم، لكنه لم يُشْفَ إلاَّ عندما كَشَفَ بَرَصه للجميع، وتعرَّى، ثم نزل ليغتسل في نهر الأردن، حينئذ نال الشفاء والفرح. كذلك نحن أيضاً، إنْ لم نعترف ونتوب، ونكشف ضعفنا، بتوبةٍ وندم، سنخسر كل شيء، كما قال الرب يسوع: «إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَـذلِكَ تَهْلِكُونَ» (لو 13: 3).

وهكذا بالمثل، فإننا إن لم نتخلَّ عن ضعفاتنا وسلوكياتنا المُرتبطة بإنساننا العتيق، وكل ما يرتبط به من شهوات وأهواء وشرور ونجاسات وتهاوُن، مع كل ما هو مُرتبطٌ بملذات هذا العالم من شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظُّم المعيشة، وإن لم نُجاهد الجهاد القانوني بالروح، مُقدِّمين توبة مستمرة، صانعين كل ثمر الروح، من لُطف ومحبة وفرح وسلام وطول أناة، وغيرها من الثمار الروحية؛ فلن نستطيع أن نجني شيئاً. ولكن بتوبتنا الدائمة، وجهادنا وصبرنا، سنربح ثمر أتعابنا - بنعمة الله - معونةً وخلاصاً وحياةً أبدية.

ولنحذر، إنه لا يمكننا أن نلبس الإنسان الجديد الذي وُهِبَ لنا في المعمودية، فوق العتيق؛ بل علينا أن نخلع ذلك العتيق، ونُجدِّد توبتنا كل يوم ونغتسل دائماً من خطايانا، أولاً بأول، حتى نضمن فاعلية واستمرارية سرِّ شركتنا الدائم في موت المسيح وقيامته، بنوال الغفران واستحقاق الوقوف أمام الله الديَّان العادل، لأن توبتنا الحاضرة كل حين، هي بعينها تجديد لمعموديتنا، وهي القاعدة الأساسية لإمكان عمل الروح القدس داخلنا؛ حتى نُثمر أثماراً لائقة بالتوبة، تشهد أننا أولاد الله: «مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ... هكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً...» (مت 7: 17،16).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis