|
|
|
(تكملة) مقارنة بين عمل المايسترو، وعمل الروح القدس:
8. بسبب تنوُّع الآلات، يحتاج المايسترو أن ينظر لكلِّ موسيقِي أو مجموعة من العازفين على حِدَة لإعطاء توجيهات مُعيَّنة لهم. ويحتاج لتحريك ذراعه بشكلٍ مختلف لكلِّ آلة. كما أنَّ لكلِّ إيقاع نوعاً مُعيناً مـن الإيماءات والحركات يختلف به عن غيره. ويمكن مع شيءٍ من التركيز أن نُميِّز صوت كل آلة في الأوركسترا.
العزف المُنفـرد لا يعني توقُّف باقي الآلات، ولكـن جمال السيمفونية يفرض نفسه بأن يعزف أخي وأنـا أستمتع. والاستمتاع يأتي بأن تعـزف بترتيب حين يحين دورك وليس اعتباطـاً. فبئس الأوركسترا التي تعـزف بعازفٍ واحـد أو بآلةٍ واحدة. في الأوركسترا يهتمُّ كل عازفٍ بدوره في السيمفونية، وليس بدور الآخرين. ولا يدَّعي أحد العازفين بأنه يقود الأوركسترا، فالعازف الجيِّد ليس بالضرورة أن يكون مايسترو جيِّداً.
ولا يجرؤ أحدٌ أن يقول للآخر اسْكُتْ أو اعزفْ؛ بـل كـل عـازفٍ له علاقة شخصية وخاصة مع المايسترو. أمَّا مع زميله فيُحاول أن يتوافق معه في النغمة الموسيقية تحـت تدبير المايسترو. وهنا يلزم أن نعرف أنَّ تعـدُّد مـرَّات العزف التي يعزفها الموسيقِي في السيمفونية لا تُحـدِّد أهميتـه. فالذي يعزف قليلاً كالذي يعزف كثيراً، والذي يعزف أولاً كـالذي يعزف أخيراً، وكـلاهما يُساهِم في نجاح السيمفونيـة. ووجـود مسافـاتٍ مُتفاوتـة بـين العازفين والمايسترو - حيث يوجد عازفون قريبون وعازفون بعيدون - لا يعني أبداً أنَّ المايسترو يهتمُّ بمجموعةِ على حساب الأخرى.
كمـا أنَّ نجاح السيمفونيـة يتوقَّف على مقدار توافُق العازفين مـع المايسترو، كذلك يتوقَّف نجاح الكنيسة ونشاطها وانسجامها على توافُقها مع الروح القدس، بصفةٍ أساسية ومُطلقـة(1). فمهما تعدَّدت مواهب الروح، فالروح القدس واحدٌ. فيستحيل نجاح موهبة تعمل بمفردها، لأن من الرأس الواحد تنبع كل الأعمال بانسجامٍ واحد. فبواسطة الروح القدس تتصالَح المُتناقضات وتأتلف المُتضادات.
الإنسان في الروح القدس يتنازَل عـن فـرديَّته وينجمع بالآخرين ويُفسِح لهم مجالاً بكـلِّ الحب ليعمل بهم الروح؛ فيتعرَّف على مواهبه ومواهبهم، ويُساعد الروح في نجاح سيمفونية الكنيسة: «يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيـدُ وَأَنِّي أَنَـا أَنْقُصُ» (يو 3: 30). والإنسان الروحي الذي يعرف مشيئة وتدبير الروح، يعرف أنَّ الروح القدس لا يلغي مُميزات ومواهب الأعضاء وخواصهم الفردية، رغم اتِّحادهم بالمسيح كاتِّحاد الأغصان بالكرمة؛ بل يُدرك تمام الإدراك أن خبرات ومواهب كل عضو تنمو وتزداد بسبب اتِّحاده في الكنيسة. فلا نجده يُزاحم ليأخذ مكاناً أو موهبةً أو عملاً في الكنيسة دون تدبير الروح. ولا يُعاند ولا يُحارب ليستمر في مكانته التي وضعها لنفسه، رغم رسائل الروح التي يُرسلها له، ولا يعتقد في نفسـه أن نجاح العمل أو الموهبـة قائـمٌ في شخصه.
ولكي نُجسِّد لك مدى خطورة الوضع، تخيَّل معي: أوركسترا فيها عـازف كمان مُتميِّزٌ جـدّاً وعازف بيانو مُتميِّزٌ أيضاً لا يقل كفاءة عن ذلك، وتخيَّل أن يُصرَّ عازف الكمان أن يعزف بيانـو، وعازف البيانـو أن يعزف كمان. سنُلاحِظ أنـه رغم كفاءة العازفَيْن - كلٌّ في آلته - إلاَّ أنَّ هذا الوضـع الجديـد يُسيء، ليس فقط لهمـا ولا للأوركسترا ولا للسيمفونية، بل للمايسترو أيضاً. وليس عسيراً على القارئ اللبيب أن يتتبَّع قَصْـد الكتاب حين يقـول:
+ «فَـأَنْواعُ مَوَاهِبَ مَوْجُودَةٌ، وَلكِنَّ الرُّوحَ وَاحِدٌ. وَأَنْواعُ خِدَمٍ مَوْجُودَةٌ، وَلكِنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ. وَأَنْواعُ أَعْمَالٍ مَوْجُودَةٌ، وَلكِنَّ الله وَاحِدٌ. الَّذِي يَعْمَلُ الْكُـلَّ فِي الْكُلِّ. وَلكِنَّهُ لِكُلِّ وَاحِـدٍ يُعْطَى إِظْهَارُ الرُّوحِ لِلْمَنْفَعَةِ. فَإِنَّهُ لِوَاحِـدٍ يُعْطَى بِالرُّوحِ كَـلاَمُ حِكْمَةٍ، وَلآخَرَ كَلاَمُ عِلْمٍ بِحَسَبِ الرُّوحِ الْوَاحِـدِ، وَلآخَـرَ إِيمَانٌ بِالرُّوحِ الْوَاحِـدِ، وَلآخَـرَ مَوَاهِبُ شِفَاءٍ بِالرُّوحِ الْوَاحِـدِ. وَلآخَـرَ عَمَـلُ قُـوَّاتٍ، وَلآخَـرَ نُبُـوَّةٌ، وَلآخَـرَ تَمْـيِيزُ الأَرْوَاحِ، وَلآخَـرَ أَنْـواعُ أَلْسِنَةٍ، وَلآخَـرَ تَرْجَمَةُ أَلْسِنَةٍ. وَلكِنَّ هـذِهِ كُلَّهَا يَعْمَلُهَا الرُّوحُ الْوَاحِدُ بِعَيْنِهِ، قَاسِماً لِكُـلِّ وَاحِـدٍ بِمُفْـرَدِهِ كَمَا يَشَـاءُ...» (1كـو 12: 4-30).
مـا أحوجنا اليوم أن نتخلَّـى عـن رؤيتنا الصالحة لأنفسنا. ما أحوجنا أن نرى أنفسنا بمرآة الروح القدس. ما أحوجنا أن نتخلَّى عن كل خدمة أو موهبة أو عمل احتجزناها واحتكرناها لأنفسنا - ومـن الواضـح أنَّ الروح القدس يذَّخـرها لغيرنـا - رغـم حُـزن الـروح ورغـم نشاز السيمفونية. ما أجمل الخادم الذي يفـرح عندمـا يرى الروح يتكلَّم أو يترنَّم على لسان أخيه. وقِسْ على هذا أمثلة بلا حًصْرٍ ولا عدد. ونعود فنقول إن التخلِّي عـن موهبة أو عمل لإنتاج سيمفونية مُمتعة يعزفها الروح بالآخرين، هـو في حدِّ ذاته موهبة أعظم من موهبة القيام بالعمل أو بالخدمة، لأن بها يكتمل عمل الروح بأن يُمجَّد المسيح.
الروح القدس هـو الذي يُوحِّـد الأفكار، فلا سبيل إلى تقابُل الناس جميعاً في المسيح الواحـد الحقيقي إلاَّ إذا تقابَـل الناس بالروح أولاً. كمال الوحـدة وجمالها هما في التآلُف والانسجام بـين المُتنوِّعات، والتعاوُن في الاختصاصات المختلفة، من واقع الحب والانسجام.
هـذه السيمفونية الناجحة معروضة على كلِّ نفسٍ، كـل أُسرة، كـل خدمة، كل كنيسة، كـل العالم؛ لكي تُقدِّمها لمجـد الله الآب بالابـن في الروح القدس.
9. لكـلِّ مايسترو رؤيتـه الخاصة وفَهْمـه بالعمـل والمؤلِّف الموسيقـي، فمثـلاً إذا غيَّرنـا المايسترو على نفس المقطوعة الموسيقية، سنُلاحِظ فَرْقـاً هائـلاً في النتيجـة الصـادرة، علماً بـأنَّ الأوركسترا هـو هـو نفسه، والنوتة الموضوعة هي نفسها أمـام العازفين. وكذا المايسترو الحقيقي – الروح القدس – يقود الكنيسة والنفس البشرية بكلِّ حرية: «وَأَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ» (2كو 3: 17).
فـالروح القدس ليس له مقطوعة واحـدة، إنه يعـزف باستمرار مهما اختلف الأشخاص والزمان والمكان، ولكـن مـا يهمُّه هـو خـلاص الإنسان ومجد المسيح.
10. يجلس المايسترو مع أعضاء الأوركسترا ليُدرِّبهم على السيمفونية، وإذا حدث خطأ ما يُعيد العـزف حتى يُتقنوا العمـل. والمايسترو المُتميِّز لا يوقِف العزف ليقـول: هنا يجب أن تُسرع أو تُبطئ، أو هنا يلزم عزفٌ قويٌّ، أو غير ذلك؛ بـل يفعل كـل هـذا بحركات يديه. وأمَّا إذا ظَهَرَت مشكلة في العزف أمام الجمهور، فإنه يتخطَّاها.
وأمَّـا المايسترو الحقيقي - الروح القدس - فلا يحتاج لبروفات، بل: «مَهْمَا أُعْطِيتُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَبِذلِكَ تَكَلَّمُوا. لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلِ الرُّوحُ الْقُدُسُ» (مـر 13: 11). وهو كفيلٌ بأن يرفع كل نشاز من سيمفونية الكنيسة.
11. أخيراً يلزم أن نؤكِّد أنَّ كل موهبة بدون الحب هي موهبة باطلة، كنُحاسٍ يَطِنُّ أو كصَنْجٍ يرنُّ. والذي يُقيِّم الموهبة أنها من الروح القدس، هي أن تكـون لمجـد المسيح: «ذَاكَ يُمَجّـِدُنِي» (يـو 16: 14).
فالروح القدس لا يقود أحـداً إلاَّ على أساس أن يُوحِّـدنا بجسد المسيح أي الكنيسة: «لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ» (رو 8: 14).
هذه هي الكنيسة، عروسٌ عذراء مُزيَّنة لعريسها، مُجتمعةٌ كوحـدةٍ واحـدة في حضرة الله، مُستضيئة ومُستنيرة بالروح القدس، بفكـرٍ واحد، وقلبٍ واحد، ونفسٍ واحدة، والمسيح فيها الكلُّ في الكلِّ.
**** غاية مجيء الرب أن يَلدنا من روحه ***********************************************
[... أخيراً أتى (ربنا يسوع المسيح) هو نفسه، واحتمل الموت مُستهيناً بخِزي الصليب (انظر عب 12: 2). وقـد كان عمله هـذا كلُّه واجتهاده لكي يَلِدَ من نفسه، من طبيعته، بنينَ من الروح القدس، إذ قد سُرَّ بأن يُولدوا من فوق، من لاهوته.
وكما أنَّ الآبـاء إذا لم يَلدوا يشملهم الحزن؛ هكذا الرب أيضاً، لأنه أحبَّ جنس البشر كصورته الخاصة، أراد أن يَلِدهم من زَرْع لاهوته. فإن كان أُناسٌ لا يشاءون أن يأتوا إلى مثل هذا الميلاد، ويُولَدوا من ”رَحِم“ روح اللاهوت؛ يُلِمُّ بالمسيح حُزنٌ بليغٌ، كونه تجشَّم الألم من أجلهم وصَبَرَ لكي يُخلِّصهم].
*************************************** [القديس أنبا مقار الكبير - ”العظات الخمسون“ - العظة الثلاثون: 2]
(1) الأب متى المسكين، ”الروح القـدس الرب الْمُحيي“، الكتاب الثاني، ص 834.