|
|
|
جاء القديس يوحنا المعمدان كسابق للرب يسوع المسيح لكي يمهِّد الطريق قدَّامه، ولكي يشهد له، لذلك قال عنه الإنجيلي القديس يوحنا الحبيب إنه «جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ، لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ. كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ. كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ» (يو 1: 7 - 10).
ويعلِّق على ذلك القديس كيرلس الكبير قائلًا:
[كي يحتفظ الإنجيلي بالكلام الدقيق الذي يليق بالطبيعة الإلهية، فقد قال: «اللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ» (يو 1: 18). والآن يقول: ”إن المعمدان رأى الروح نازلًا من السماء“ على الابن، ويضيف بالضرورة: «رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ، وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، لكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: ”الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلًا وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ“. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللهِ» (يو 1: 32 - 34). فهو لم يَرَ الروحَ كما هو في طبيعته، وإنما في شكل وداعة الطائر. وبذلك حفظ لنا الإنجيلي المساواة أيضًا بين أقنوم الابن وأقنوم الروح. فالابن يقول عن نفسه: «تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ» (مت 11: 29). فالروح لم يظهر مطلقًا، لأنه الله، واحتفظ بطبيعته الإلهية غير الظاهرة، وظهر فقط بشكل حمامةٍ بسبب الإعلان الذي قُدِّم ليوحنا المعمدان، الذي قال إنَّ نزول الروح وُهِبَ له كعلامة، لكي يشهد للمخلِّص: «الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلًا وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ»](1).
كما يقول أيضًا القديس كيرلس، موضِّحًا أن قبول المسيح الروح القدس إنما كان من أجلنا:
[لَمَّا صار كلمة الله إنسانًا، اقتبل الروح القدس من الآب كواحدٍ منَّا. ليس كمَنْ يقبله لذاته، إذ أنه هو الذي يوزِّع الروح؛ بل لكي بقبوله الروح كإنسان يحفظه لطبيعتنا، ويجعل النعمة التي فارقتنا تتأصَّل من جديد فينا ... إذن فهو قَبِلَ الروح لحسابنا نحن بواسطة نفسه لكي يستعيد لطبيعتنا ذلك الخير الأصلي ولذلك أيضًا قيل عنه إنه افتقر لأجلنا.
فمع كونه غنيًّا كإله ولا يعوزه شيء من الخيرات، جعل نفسه مفتقرًا لكل شيء ... فكما أنه مع كونه الحياة بطبعه قد مات بالجسد لأجلنا لكي يغلب الموت عنَّا ويُقيم طبيعتنا كلها معه - لأننا جميعًا كنَّا فيه لكونه قد صار إنساناً – هكذا أيضاً هو يقبل الروح لأجلنا لكي يقدِّس به طبيعتنا كلها. لأنه لم يأتِ لكونه محتاجًا شيئًا لنفسه، بل قد جاء ليصير لنا جميعًا بابًا وبدايةً وطريقًا للخيرات السمائية!](2).
كما يقول القديس كيرلس أيضًا:
[إن المعزِّي روح الحق (أي روحي، لأن الابن هو الحق)، وروح الحق ينبثق من الآب، متى جاء سيشهد لي (أي للابن). وكيف سيشهد؟ إنه يشهد بعمل المعجزات فيكم. وبواسطتكم سيصير شاهدًا عادلًا وحقيقيًّا لسلطاني الإلهي، ولعظمة قوَّتي الإلهية. لأن ذاك الذي يعمل فيكم هو روحي، هكذا أيضًا هو روح الله الآب. ومن اللازم أيضًا أن نعتبر أن أولئك الذين يصنعون معجزات، بقوَّة الروح الواحد الصالح، لتثبيت إيماننا، عندما يُشتَمون بسبب المسيح، فإن الإهانة تلحق بالمسيح الساكن فيهم وهو ليس مجرَّد سكنى في جزء من الطبيعة الإلهية التي لا يعبَّر عنها، بل كما يقول بولس الرسول: هو «(الذي) فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا» (انظر: كو 2: 9).
ولكن حينما يشهد الروح، فأنتم أيضًا - هكذا يقول الرب - ستشهدون معه لأنكم كنتم شهود عيان وناظرون لما قد فعلتُه وسط خاصتي، إذ كنتم معي باعتباركم تلاميذي](3).
كما يقول القديس كيرلس أيضًا:
[مع كونه قدُّوسًا بطبعه كإله، بل هو يُعطِي شركة الروح القدس للخليقة كلها من أجل دوامها وتآلفها وتقديسها (فهو الذي يُعمِّد بالروح القدس)، إلَّا أنه يُقدِّس نفسه بالروح القدس من أجلنا، ليس بأن يُقدِّسه آخر بل هو الفاعل بنفسه لأجل تقديس جسده الخاص. فهو يقبل روحه الخاص ويناله بصفته إنسانًا، وهو بنفسه الذي بصفته إلهًا يمنحه لذاته، وهو يفعل ذلك من أجلنا وليس من أجل نفسه، حتى إنه إذ يقبل بداية هذا الفعل من نفسه في نفسه هو أولًا، يمكن بذلك أن تنتقل نعمة التقديس إلى سائر جنسنا](4).
هذا ما نطلبه ونصلِّي من أجل أن نقبله في صلاة الساعة الثالثة كل يوم قائلين:
[أيُّها الرَّبُّ الَّذي أرسلتَ روحَ قُدسِكَ علَى تلاميذِكَ القدِّيسينَ ورُسُلِكَ المُكرَّمينَ في السَّاعةِ الثالثة، هذا لا تَنْـزِعْهُ منَّا أيُّها الصالح. لكنْ نسألُكَ أنْ تجدِّدَهُ في أحشائِنا، يا ربَّنا يسوعَ المسيحَ ابنَ اللهِ الكلمة. روحًا مستقيمًا ومُحْيِيًا، روحَ النُّبُوَّةِ والعفَّة، روحَ القداسةِ والعدالةِ والسلطة، أيُّها القادرُ على كلِّ شَيْءٍ، لأنَّكَ أنتَ هُوَ ضياءُ نُفوسِنا. يا مَن يُضيءُ لكلِّ إنسانٍ آتٍ إلى العالمِ، ارْحَمْنا](5) .
ما هو قصد المسيح من قوله لتلاميذه: «إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ» (يو 16: 7)؟
يجيب على هذا السؤال القديس كيرلس قائلًا، بعد أن لاحظ على تلاميذه الحزن الذي ملأ قلوبهم حينما قال لهم إنه ماضٍ إلى الذي أرسله؛ كما صارحهم بأنهم سيواجهون بغضة العالم لهم، وأنهم سيخرجونهم من المجامع بل تأتي ساعة فيها يَظنُّ كلُّ مَنْ يقتلهم أنه يقدِّم خدمةً لله. وسيفعلون هذا بكم لأنهم لم يعرفوا الآب ولا عرفوا الابن. وهذا ما نراه حادثًا حتى يومنا هذا، وسيظلُّ هكذا حتى نهاية الأيام.
أمَّا إجابة القديس كيرلس على هذا السؤال فكانت هكذا:
[وكأن المخلِّص يقول لهم: ”الأَسَى الذي يأكل قلوبكم هو ثقيل جدًّا، والمحبة التي تكنُّونها لي هي شديدة جدًّا، لأنكم تعتبرون أن انفصالكم عنِّي سيكون مملوءً بالألم بالنسبة لكم، وهذا شعور صحيح، لأنكم بالتأكيد ستواجهون كلّ أنواع التجارب التي سبق أن أخبرتكم بها، وستحتملون غضب المضطهدين عديمي التقوى“. ولأنه يعتبر أن المنفعة ينبغي أن تُفضَّلَ على اللذَّة. لذلك يقول: «أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ، إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ». ونحن سنجعل كلُّ أفكارنا خاضعةً للمخلِّص الذي هو فوق الجميع، رغم أني أظن أن قوله هذا قد يسبِّب ارتباكًا ليس بقليل للسامع البسيط، لأنه بالتأكيد سيأتي على عقله الفكر أنه إن كان رحيل المسيح أفضل، فإن وجوده معهم قد يسبب لهم بعض الخسارة. وإن كان صعوده سبب منفعة لهم، فالعكس سينتج عن بقائه معهم. الأمر ربما يربك الفكر العادي، أمَّا الإنسان الذي ينقاد بالمعرفة التي من فوق ليصل إلى فهمٍ دقيقٍ للقول، فإنه لا يوجد ما يُعثره هنا، بل بالحري سيكتشف معناه الحقيقي ...
فالمسيح حينما صار إنسانًا أكمل وتمَّم كلَّ الأمور الآتية: فإنه جاء لكي يموت ويميت ”الأعضاء التي على الأرض“ (انظر كو 3: 5). أي ميول الجسد، ولكي يُطفئ ”ناموس الخطيئة“ (انظر رو 7: 23)، الذي يعمل في أعضائنا، وأيضًا لكي يقدِّس طبيعتنا، ويظهر أمامنا كمثال وكمرشد في طريق التقوى، ولكي يُتمِّم إعلان الحق حسب المعرفة، وإعلان طريق كامل لحياة ليس فيه أي قابليَّة للخطأ، كل هذا حقَّقه المسيح بتجسُّده.
لذلك كان ضروريًّا أن يمنح طبيعة الإنسان أعلى درجة من الغبطة، وليس فقط أن يحرِّرها من الموت والخطيئة، بل أن يرفعها إلى السموات نفسها، وأن يجعل الإنسان رفيقًا للملائكة، ومشتركًا في أفراحهم. ولأنه بقيامته جدَّد فينا قوَّة التحرُّر من الفساد، فإنه رأى أنه من الصوات أن يفتح لنا الطريق المؤدِّي إلى السماء، وأن يُدخل إلى حضرة الآب جنس البشر الذي كان قد طُرِدَ من أمامه بسبب تعدِّي آدم. والرسول المُلهَم بولس يتبنى هذا التعليم ويقول: «لأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ الْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى السَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ الآنَ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ لأَجْلِنَا» (عب 9: 24). ويخبرنا الرسول أن الابن كائن مع الآب أزليًّا، وهو شريك لطبيعته بسبب وحدة جوهرهما. ولكنه الآن يُظهِر نفسه أمامه ليس من أجل نفسه بل لأجلنا نحن ...
ربما أنه كان لا يزال هناك أمرٌ واحدٌ لم يتم بعد في تدبيره لأجلنا، فإن صعودنا إلى السماء قد أُعِدَّ لأجلنا في المسيح، الذي هو الباكورة وأول مَنْ صعد إلى السماء من البشر، لأنه صعد إلى هناك كسابقٍ لنا كما يقول الرسول المُلهَم بولس أيضًا، وهو هناك، كإنسان لا يزال - بالحقيقة، رئيس كهنة نفوسنا، وشفيعنا وكفَّارة لخطايانا، وكإله ورب الطبيعة، وهو يجلس على عرش أبيه، ومجده هذا سينعكس علينا نحن. ولهذا قال الرسول بولس إن الآب: «أَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (أف 2: 6)، فحينما اكتملت رسالته على الأرض، كان من الضروري أن يتمِّم ما كان باقيًا بدون تتميم - وأعني صعوده إلى الآب. لذلك يقول: «خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي» ... ومع ذلك، كان ضروريًّا بالتأكيد أننا ينبغي أن نصير شركاء الطبيعة الإلهية للكلمة ... ولكن كان من المستحيل أن نبلغ إلى هنا بأي طريقة أخرى سوى بالشركة في الروح القدس. فالوقت المناسب والملائم تمامًا لإرسالية الروح القدس ونزوله إلينا هو عندما جاء وقته المعيَّن، وأعني عند رحيل مخلِّصنا من هذا العالم. لأنه حينما كان حاضرًا بالجسد مع أولئك الذين آمنوا به، فقد أظهر نفسه، أنه المانح لكل بركة. ولكن لما جاء الوقت وحتَّمت الضرورة أن يعود إلى الآب في السماء، كان أساسيًّا ولازمًا أن يجعل عابديه في شركة معه بواسطة الروح ...](6).
_______________________________________
(1) شرح إنجيل يوحنا 1: 33 الجزء الأول (مؤسَّسة القديس أنطونيوس) ص 166..
(2) شرح إنجيل يوحنا 1: 33 ; LFC 1, 142-143.
(3) شرح إنجيل يوحنا 15: 36 و37 الجزء الثاني (مؤسَّسة القديس أنطونيوس) ص 313.
(4) شرح إنجيل يوحنا 17: 18 و19.
(5) الأجبية المقدَّسة، صلاة الساعة الثالثة.
(6) شرح إنجيل يوحنا المجلَّد الثاني يو 16: 7 (مؤسَّسة القديس أنطونيوس) ص 321-323.