بمناسبة صوم نينوى |
|
|
مناداة يونان في نينوى:
«ثم صار قـول الرب إلى يونان ثانيةً قائلاً: قُمْ اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وعِظْها بالرسالة التي أخبرتُك عنها من قبل» (يون 3: 2،1 سبعينية).
انتهز الله فرصة حماس يونان وأَمَرَه أن يذهب إلى نينوى مرةً أخرى بنفس الرسالة. وقد شابه يونان المسيح الذي مكث في باطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، إذ ذهب إلى أعماق قلب البحر، وكأنه نزل إلى أسافل الجبال، وهبط إلى مغاليق الأرض التي أغلقت عليه قضبانها بإحكام.
ولكن المسيح سَلَبَ الجحيم وبشَّر الأرواح الموجودة هناك، وفَتَحَ الأبواب الموصدة، وعاد إلى الحياة مرةً أخرى إذ تحررت حياته من الفساد، وظهر بحالته هذه لأولئك النسوة اللائي كُنَّ يبحثن عنه ثم للرسل.
ثم إنَّ رسالة الرب وصلت أخيراً أيضاً إلى الأمميين بواسطة الرسل المباركين. ومع أنه كان قد قال للرسل: «إلى طريق أُممٍ لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا؛ بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة» (مت 10: 6،5)؛ إلاَّ أنه جعلهم يبشِّرون أخيراً برسالته التي جاء من أجلها للجميع. وكانت وصايا إنجيله واحدة لكلٍّ من إسرائيل والأُمم الذين نحن منهم والذين دُعينا إلى القداسة بواسطة الإيمان.
«فقام يونان وذهب إلى نينوى بحسب قول الرب. أمَّا نينوى فكانت مدينة عظيمة لله مسيرة ثلاثة أيام. فابتدأ يونان يدخل المدينة مسيرة يوم واحد ونادَى وقال: بعد ثلاثة أيام تنقلب نينوى» (يون 3: 4،3 سبعينية). لقد مُنح النبي غيرةً لا تُقاوَم، وانطلق إلى مهمته بنشاط ودخل تلك المدينة الأجنبية لكي يوفي الأحكام الإلهية.
ورغم أنها كانت مدينة كبيرة ممتدة حتى أنها تتطلَّب مسيرة ثلاثة أيام؛ ولكنه عَبَرَها في يوم واحد، بقوة إلهية طبعاً، وأعلن الرسالة الإلهية. لقد أثار دهشتهم إذ أنه رجل عبراني آتٍ من بلاد أجنبية غير معروفة لأحد هناك، وقد سار وسط المدينة وهو يصيح بصوتٍ عالٍ: «بعد ثلاثة أيام تنقلب نينوى».
وقد تكلَّم النبي ليس من ذاته بل من فم الرب. والأنبياء غالباً لا يذكرون كل ما قاله الله لهم ولا كل الكلام الذي قالوه هم لله. ونحن نستنتج ذلك من قوله لله: «آه يا رب! أليس هذا كلامي إذ كنتُ بعد في أرضي؟ لذلك بادرتُ على الهرب إلى ترشيش...» (يون 4: 3،2).
استجابة أهل نينوى بالإيمان والتوبة:
«فآمن أهل نينوى بالله، ونادوا بصوم ولبسوا مسوحاً من كبيرهم إلى صغيرهم» (3: 5). آمن هذا الشعب بالله، هذا الذي كان مُداناً بسبب كل خطاياه المتأصِّلة فيه وأصنامه التي بلا عدد، وممارساته الشعبية المُخجلة. ومع ذلك فقد آمنوا بالله من كبيرهم إلى صغيرهم، الشهير والحقير، الغَني والفقير، الجميع شعروا بنفس الغيرة في قبول كلام النبي، وقد استجابوا لدعوته بدون تردُّد لإصلاح أنفسهم، وخضعوا للإنذار الإلهي الذي دعاهم للتوبة رغم أنه جاء من أجنبي وحيد لا يعرفونه. في حين أنَّ إسرائيل بغبائه لم يُطِع الناموس وسخر من الوصايا الموسوية ولم يستوعب كلام الأنبياء؛ بل إنهم صاروا قاتلين للرب، ولم يؤمنوا بالمُخلِّص.
وهذا هو ما قاله الله لحزقيال النبي: «اذهب امضِ إلى بيت إسرائيل وكلِّمهم بكلامي، لأنك غير مُرسَل إلى شعبٍ غامض اللُّغة وثقيل اللسان، بل إلى بيت إسرائيل. لا إلى شعوب كثيرة غامضة اللُّغة وثقيلة اللسان لست تفهم كلامهم. فلو أرسلتك إلى هؤلاء لسمعوا لك. لكن بيت إسرائيل لا يشاء أن يسمع لك. لأنهم لا يشاؤون أن يسمعوا لي. لأن كل بيت إسرائيل صِلاَب الجِبَاه وقُساة القلوب» (حز 3: 4-7).
«وبلغ الأمر إلى ملك نينوى، فقام عن كرسيه، وخلع رداءه عنه، وتغطَّى بمسحٍ، وجلس على الرماد. ونودي وقيل في نينوى عن أَمْر الملك وعظمائه قائلاً: لا تَذُق الناس ولا البهائم ولا البقر ولا الغنم شيئاً، لا تَرْعَ ولا تشرب ماءً. وليتغطَّ بمسوح الناس والبهائم ويصرخوا إلى الله بشدَّة. ويرجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة وعن الظلم الذي في أيديهم، لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حمو غضبه فلا نهلك» (3: 6-9). لقد أظهر مديحه لاستجابتهم بتفاصيل كاملة، وأُعجب جداً باستعدادهم للتوبة. وحتى ملكهم ترك عرشه ورداءه الملكي وتغطَّى بالمسوح رداء النوح. وإذ جلس على الرماد، أعطى مثالاً لغيره لكي يُمسِكوا عن الطعام ويُصلُّوا بلا انقطاع متوسِّلين إلى الله لأجل الرحمة.
لقد كان أهل نينوى حكماء، إذ كرَّسوا أنفسهم للإقلاع عن الفساد بواسطة الصوم الذي هو العمل الأصيل الوحيد للتوبة. أمَّا شعب إسرائيل فلم يهتموا بذلك بل أنهم أحياناً كانوا يُقدِّمون صوماً يُعتبر دنساً كما قال إشعياء النبي: «ها إنكم في يوم صومكم تُوجِدُون مسرَّةً، وبكل أشغالكم تُسَخِّرون. ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا بلكمة الشر. لستم تصومون كما اليوم لتسميع صوتكم في العلاء. أَمثل هذا يكون صومٌ أختاره؟ يوم يُذلِّل الإنسان فيه نفسه» (إش 58: 3-5).
أما أهل نينوى، فقد آمنوا بالله وقدَّموا صوماً نقياً بلا لوم، إذ اعتقدوا أنه «لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حمو غضبه» بسبب صلاحه وطيبة قلبه. ومن الناحية الأخرى فهو يُعاقب الخطاة والذين يتورطون في القساوة بعناد، إذ يفرض غضبه كنوع من اللجام لكي يُعنِّفهم ويأتي بهم إلى الإذعان. أمَّا بخصوص صوم البهائم، فقد كان نوعاً من المغالاة، وليس من الضروري أن يكون قد حدث ذلك، ولكن الكتاب ذكر ذلك لكي يُوضِّح درجة توبتهم غير العادية! إنه ينسب المعاناة أيضاً للحيوانات.
رجوع الله عن غضبه:
«فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة، ندم الله على الشر الذي تكلَّم أن يصنعه بهم، فلم يصنعه» (3: 10). هكذا يُسرع الرب في إظهار رحمته وخلاصه للتائبين. وهو يُريحهم في الحال من جرائمهم السابقة إذا كفُّوا عن خطاياهم، وهو يرفع غضبه ويُبدِّله بمعاملة طيِّبة. وهو ما قاله الرب لحزقيال النبي: «لماذا تموتون يا بيت إسرائيل؟ لأني لا أُسرُّ بموت مَن يموت، يقول السيِّد الرب. فارجعوا واحيوا» (حز 18: 32،31).
«فغمَّ ذلك يونان غمّاً شديداً واغتاظ، وصلَّى إلى الرب وقال: آه يا رب، أليس هذا كلامي إذ كنتُ بعد في أرضي؟ لذلك بادرتُ إلى الهرب إلى تـرشيش لأني علمتُ أنك إله رؤوف ورحيم بطيء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر» (4: 1-3).
فطالما أنَّ الله رؤوف على الذين يتفادون غضبه بالتوبة، وحتى لو مضى الوقت على إتمام ما كان مُقدَّراً لهم، وما تنبَّأ به عليهم النبي كان قد جاء وقت حدوثه؛ ومع ذلك فإنه لم يحدث، لذلك شعر يونان بغمٍّ شديد، وذلك ليس لأن انقلاب المدينة لم يحدث، ولكن لأنهم أخذوا عنه انطباعاً بأنه كاذبٌ مهذار. لقد أراد أن يتجنَّب ذلك فأقرَّ بأنه هرب إلى ترشيش، حتى لا يكون موقفه مهزوزاً لأنه اعترض على الله الذي يعلم كل شيء ويمكنه أن يُغيِّر فكر الإنسان، فهو شافي الأرواح الـذي يمكنه أن يُهدِّئ ضـراوة شهواتـنا بالمصاعب أحياناً وبأعمال رحمته أحياناً أخرى.
اكتئاب يونان وتشجيع الله له:
«فقال الرب: هل اغتظتَ بالصواب (أو بالحقِّ)؟ وخرج يونان من المدينة وجلس شرقي المدينة، وصنع لنفسه هناك مظلةً وجلس تحتها في الظل حتى يرى ماذا يحدث في المدينة؟» (4: 5،4). فلكي لا يجعل الله النبي فريسةً للاكتئاب، زوَّده بالحيوية في ضعفه، مؤنِّباً إيَّاه برقَّةٍ على هذا الاكتئاب وعلى فشله في إدراك الغرض من الأحكام الإلهية، إذ مـرت الأيام ولم يُنفِّذ الله تهديده لهم.
لقد اعتقد أن الكارثة تأجَّلت بسبب أنهم قرَّروا أن يتوبوا، ولكن الغضب الإلهي سوف تظهر نتائجه إنْ لم يصنعوا أعمالاً تليق بالتوبة وتتناسب مع خطاياهم. ولذلك ترك النبي المدينة لكي ينتظر ما سيحدث لهم، وتوقَّع أن المدينة ربما تحترق مثل سدوم، ولكن خيمته في الواقع هي التي تحطَّمت!
«فأعدَّ الرب يقطينةً (شجرة خروع)، فارتفعت فوق يونان لتكون ظِلاًّ على رأسه لكي يُخلِّصه من غمِّه. ففرح يونان من أجل اليقطينة فرحاً عظيماً» (4: 6). هكذا أعدَّ الرب اليقطينة لفائدة النبي، كما أعدَّ الحوت لكي يبتلعه. فكبرت اليقطينة سريعاً، ليس فقط لتُظلِّله من الحرِّ، بل الأهم هو لكي «يُخلِّصه من غمِّه»! فشعر يونان بالسعادة والميل إلى الاحتفاظ ببساطة الذهـن مثل الأطفال الذيـن تشغلهم الأشياء المُفرحـة عمَّا يُحزنهم.
«ثم أعدَّ الله دودةً عند طلوع الفجر في الغد، فضربت اليقطينة فيبست. وحدث عند طلوع الشمس أنَّ الله أعـدَّ ريحـاً شرقية حارة، فضربـت الشمس على رأس يـونان فذبل. فطلب لنفسه الموت وقال: موتي خيرٌ من حياتي» (4: 8،7).
والمقصود من الدودة عند الفجر هو الجراد لأنه يتخذ وجوده من ندى الصباح. وضَرَبَ الجراد اليقطينة بقسوة، فلما يبست وهبَّت الريح الحارة حُرِمَ النبي من الظل فتفاقم سُخطه حتى اشتهى الموت.
الله يوضِّح الهدف من القصة كلها:
«فقال الله ليونان: هل اغتظتَ بالصواب (أو بالحقِّ) من أجل اليقطينة؟ فقال: اغتظتُ بالصواب حتى الموت» (عدد 9). لاحِظ مرةً أخرى إله الجميع في معاملته الرقيقة وحبه للنفوس البريئة، وأنه لا يُقصِّر بأيِّ حال عن إبداء عاطفة الأُبوَّة. فلم يَعُد يونان يلوم رِقَّة الحب الإلهي عندما قرَّر أن يُشفق على أهل نينوى؛ بل اعترف بغيظه مِمَّا جعل الله يشرح له سبب تدبيره لتلك القصة كلها.
«فقال الرب: أنت أشفقت على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربَّيتها، التي بنت ليلة كانت وبنت ليلة هلكت؛ أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم وبهائم كثيرة» (عدد 11،10)؟!!
كيف يمكننا أن نفتح أفواهنا لنُقدِّم تسابيح الشكر لذاك المملوء بالرأفة والصلاح؟ إنَّ الرب يُبعد عنا معاصينا، فهو مثل أب يُبدي الرأفة على أبنائه، هكذا هو يتراءف على الذين يخافونه لأنه يعرف جبلتنا (انظر مز 103: 12-14).
لاحِظ كيف يُظهِر الرب اكتئاب يونان في وقت غير مناسب رغم كونه ملتزماً أن يمدح الرب على صلاحه كنبي قديس. فإذا كان هو قد بلغ إلى اكتئابٍ فائق الحدِّ بسبب ذبول اليقطينة، أفلا يُشفق الرب على كل هذا الشعب الذي لا يعرف يمينه من شماله؟ كما أنه يُشير إلى شفقته على البهائم، لأنه إن كان «الصِّدِّيق يُشفق على نفس بهيمته» (أم 12: 10 سبعينية)، وهذا يُضاف إلى فضله، فـلا غرابـة أن يُشفق الـرب على البهائم أيضاً.
وهذه هي الطريقة التي خلَّص بها المسيح كل أحد، إذ بذل نفسه لأجل الصغير والكبير، الحكيم والجاهل، الغني والفقير، اليهودي واليوناني، والذي قيل عنه: «الناس والبهائم تُخلِّص يا رب. ما أكرم رحمتك يا الله، فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون» (مز 36: 7،6)، الذي له المجد والقوة مع الآب والروح القدس الصالح والمُحيي إلى الأبد، آمين.