للأب متى المسكين



الطريق إلى ملكوت الله
- 17 -

«وكان هو في المُؤخَّر على وسادة نائماً»(1)

إنجيل يوم الأربعاء من الأسبوع الرابع من الصوم المقدس

المزمـور: «17أَنْقَذَنِي مِنْ عَدُوِّي الْقَوِيِّ، وَمِنْ مُبْغِضِيَّ لأَنَّهُمْ أَقْوَى مِنِّي. 18أَصَابُونِي فِي يَوْمِ بَلِيَّتِي، وَكَانَ الرَّبُّ سَنَدِي» (مز 18: 18،17).

الإنجيل: «35وَقَالَ لَهُمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ: ”لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ“. 36فَصَرَفُوا الْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضاً سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ. 37فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ، فَكَانَتِ الأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى السَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ. 38وَكَـانَ هُـوَ فِي الْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِماً. فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ: ”يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟“ 39فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ: ”اسْكُتْ! اِبْكَمْ!“. فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. 40وَقَالَ لَهُمْ: ”مَـا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟“ 41فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً، وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ”مَنْ هُوَ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضاً وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!“» (مر 4: 35-41).

للأب متى المسكين

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

إنجيل القداس:

إنجيل قدَّاس هذا الصباح يختصُّ بالكنيسة وبالنفس البشرية، ولنا فيه منفعة كبيرة.

آية اليوم هي: «وكان هو (الرب يسوع) في المُؤخَّر على وسادةٍ نائماً». قصة السفينة والنوء جاءت في الثلاثة الأناجيل، وفي كل إنجيل تُضاف آية أو لمسة من اللمسات تُزيدها جمالاً. وقد جمعتُ كل هذه الآيات، وهي ممتلئة بالاصطلاحات السريَّة:

+ «وقال لهم في ذلك اليوم لَمَّا كان المساء: ”لنَجْتَزْ إلى العَبْر“. ولَمَّا دخل السفينة، تبعه تلاميذه. فأقلعوا. وفيما هم سائرون نام. وكان هو في المُؤخَّر على وسادةٍ نائماً. فحدث نَوْءُ ريحٍ عظيم. وإذا اضطرابٌ عظيم قد حدث في البحر حتى غطَّت الأمواجُ السفينةَ. وكانوا يمتلئون ماءً، وصاروا في خطرٍ. فأيقظوه وقالوا له: ”يا مُعلِّم، أَمَا يَهُمُّكَ أننا ن‍هلك؟“. فقام وانتهر الريح، وقال للبحر: ”اسْكُتْ. اِبْكَمْ“. فسكنتْ الريح وصار هدوءٌ عظيم. وقال لهم: ”ما بالكم خائفين هكذا؟ كيف لا إيمان لكم؟“. فخافوا خوفاً عظيماً، وقالوا بعضهم لبعض: ”مَـن هـو هذا؟ فإنَّ الريح أيضاً والبحر يُطيعانه!“» (مت 8: 23-27؛ مر 4: 35-41؛ لو 8: 22-25).

«لَمَّا كان المساء»:

بصفةٍ دائمة، عندما تقرأ في الإنجيل كلمة: ”المساء“، انتبه فإنَّ معنى هذه الكلمة: ”إنَّ النور سيغيب، وستأتي ضيقة“.

«لنَجْتَزْ إلى العَبْر»:

هنا السفينة في الناحية الغربية للبحيرة؛ و«لنجْتَزْ إلى العَبْر»، أي: إلى الناحية الشرقية. معنى هذا أنه يُريد أن تجتاز السفينة البحيرة كلها. فهل معنى كلام المسيح أنه يريد عبور العالم، عبور مُحيط هذا العالم إلى الشاطئ الآخر؟!

«ولَمَّا دخل السفينة، تبعه تلاميذه»:

في حياة المسيح مع تلاميذه، وفي معظم الأحداث التي حدثت، كان التلاميذ هم الذين يتقدَّمون أولاً لإفساح الطريق أمام المسيح، وهم مُمسِكون بيده، ثم بعد ذلك يدخل هو. أمَّا هنا في هذه الحادثة، دخل المسيح السفينة أولاً، ثم بعد ذلك تبعه تلاميذه. هنا السفينة تُمثِّل ”الكنيسة“، فلابد أن يتقدَّم هو أولاً، ويُعِدَّ لنفسه مكاناً فيها، «ولما دخل السفينة (الكنيسة)، تبعه تلاميذه». ثم بعد ذلك أقلع التلاميذ، أي فردوا قِلاع السفينة (أي الشِّرَاع). «وفيما هم سائرون نام»، إذ كانت الريح هادئة والجو صَحْواً، بينما «كان هو في المؤخَّر على وسادةٍ نائماً».

ولكن فجأةً، حدث نوءُ ريحٍ عظيم، وهو ما زال نائماً. «وإذا اضطرابٌ عظيم قد حدث في البحر»، وهو ما زال نائماً. «فكانت الأمواج تَضْرِب إلى السفينة»، وهو ما زال نائماً. السفينة تتأرجح، صاعدة ونازلة، بفعل قوة الرياح وهياج الأمواج، وما زال هو نائماً. وفي مثل هذه الظروف الصعبة، لا يمكن لإنسانٍ أن يأتيه النوم، «حتى غطَّت الأمواجُ السفينةَ. وكانوا يمتلئون ماءً». فالمياه غطَّت السفينة، ووصلت إلى المسيح حيث كان في المؤخَّر على وسادة نائماً. وصار الجميع في خطرٍ داهم، وبالرغم من ذلك كان المسيح نائماً.

وحينئذٍ «أيقظوه وقـالوا له: ”يـا مُعلِّم، أَمَا يَهُمُّكَ أننا ن‍هلك؟“»، بمعنى: ”أَلا تُبالي بنا، إننا ن‍هلك؟“. ”ن‍هلك“! والربُّ موجودٌ معنا، هل هـذا معقول؟! ولذلك «قام وانتهر الريح، وقال للبحر: ”اسْكُتْ. اِبْكَمْ“». الرب نفسه هـو الذي وَضَعَ قوانين الطبيعة ونظام الكون كله. فالريح لا تَ‍هُبُّ كيفما تشاء، لأنه توجد ضغوطٌ تتحكَّم فيها، يوجد ارتفاع وانخفاض في درجة الحرارة، توجد سرعة مُحدَّدة يمكن قياسها حتى قبل أن تَهُبَّ الريح. ومع هذا، بسلطان المسيح الإلهي، أَوْقَف هـذه القوانين، «فسكنتْ الريح، وصار هدوءٌ عظيم. وقـال لهم: ”ما بالكم خائفين هكذا؟ كيف لا إيمان لكم؟“. فخافوا خوفـاً عظيماً، وقالوا بعضهم لبعض: ”مَـن هو هـذا؟ فإنَّ الريح أيضاً والبحر يُطيعانه!“».

فكَوْن أنَّ المسيح ينتهر الريح، ويقول للبحر: ”اسْكُتْ. اِبْكَمْ“؛ فهذا الأمر أصعب بمراحل من خَلْقه للريح وللبحر. لأن المسيح هنا يوقِف قوانين الطبيعة الذي هو نفسه واضِعُها. والكنيسة دقيقة جداً في ترتيب قراءات‍ها، إذ نقرأ في الإبركسيس صباح هذا اليوم: «وفي ذلك الوقت مَدَّ هيرودس الملك يديه ليُسيئ إلى أُناسٍ من الكنيسة، فقتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف» (أع 12: 2،1). فما حَدَث بالنسبة للسفينة، وهي تتلاطمها الأمواج العاتية وتَهُبُّ عليها الأنواء العاصفة؛ هو الذي يحدث بالنسبة للكنيسة. فالكنيسة في ضيقةٍ عظيمة، والأنواء هي الاضطرابات التي تعصف ب‍ها من داخل ومن خارج.

فحادثة السفينة التي تتلاطمها الأمواج وتصطدمها الرياح، هي إشارةٌ سرِّية لحال الكنيسة، التي تعبُر في محيط هذا العالم المضطرب بلَيلِه الطويل، إذ «كان المساء»، تُداهمها الأنواء، وتتلاطمها الأمواج، وتُحيط ب‍ها المخاطر من كل جانب، أهوال وراء أهوال، وكل جيل له أهواله وأوجاعه الخاصة به. وملاَّحو الكنيسة، تأسر ألبابَ‍هم المظاهرُ الزائفة، فيفزعون؛ إذ يَرَونَ الرياح قد أطبقت عليهم من كلِّ ناحية، والأمواج تكاد تُغرقهم، والمسيح - كما هو في حادثة السفينة - «في المُؤخَّر على وسادةٍ نائماً». وكلامنا الآن هو عن الكنيسة وما يحدث لها.

«في المؤخَّر... نائماً»:

وسواء كان المسيح في السفينة أو في الكنيسة، فهو «في المؤخَّر على وسادة نائماً». أنا أُريد أن أُقارِن بين الأهوال والأنواء العاصفة والأمواج العاتية التي ضربت السفينة، مع دخول الليل الحالك الظلام؛ وبين ما جازته وتجوزه حتى الآن الكنيسة: مِحنٌ لا يمكن لعقلٍ أن يتصوَّرها، اضطهادات مريرة، قطع رؤوس، حَرْق أجساد وكُتب مقدَّسة، قطع ألسنة؛ بالإضافة إلى أباطرة وملوك تعاهدوا فيما بينهم على إهلاك الكنيسة ومحـو المسيحية وإفناء المسيحيين. ولذلك وسط هـذا الاضطراب العظيم، فالملاَّحون مفزوعون ومذعورون.

فهذا البحر الهائج، والأمواج التي تلطم السفينة، والأنواء العاصفة التي تَهُبُّ عليها؛ كل هذا لا يُقارَن بما عانته وتُعانيه الكنيسة طوال تاريخها: فقد صَدَرت فرمانات بحَلِّ دماء المسيحيين، وهَدْم الكنائس. وفي أيام بعض الخُلفاء، كانوا يُهيِّجون الرعاع فيقومون بتدمير الكنائس وذَبح المسيحيين، فيختفي المسيحيون في بيوت‍هم ولا يقدرون على الخروج منها وإلاَّ سيُذبَحون! فأهوالٌ تلو الأهوال تحمَّلتها الكنيسة وهي تُدافع عن إيمان‍ها المقدَّس، ما لا يمكن لقلمٍ أن يُصوِّره أو يكتبه! فما سمعناه اليوم، هو قصةٌ مُبسَّطة للغاية عن تاريخ الكنيسة، وأهوال الزمان التي صدمتها وما زالت تصدمها!

«على وسادةٍ نائماً»:

فالمسيح لا توقِظه زعازع الدُّنيا، ولا يُقلقه اضطراب العالم، ولا يُضايقه التهديد الذي يصل إلى حدِّ الهلاك الذي يُحيط بالكنيسة مـن كلِّ جانب. ولكن همسة صُراخ، ونداء استغاثة، يوقِظه للتوِّ. طلب النجدة، يستحثُّه ويدفعه إلى المُقدِّمـة لينتهر كـلَّ هـذه الأنواء. كلمة ”ينتهر“ لا تُذكَر إلاَّ على الأعداء: ”ينتهر الريح“، ”ينتهر الشيطان“، ”ينتهر المرض“، كما ذُكِرَت هـذه الكلمة في الإنجيل. وهكذا هي الطبيعة، عندما تكـون هائجة، فهي خطيرة جدّاً. فهـو كما انتهر الريح «فسَكَنتْ... وصار هدوءٌ عظيم»؛ فهو ينتهر أيضاً كل هذه الأهوال، فهي تحت رجليه، وقد عَبَرَها، ومحا الخطية وداس الموت الذي كان سبباً في كلِّ هذه الأهوال. انتهر كل هذه الأنواء، من نوءٍ إلى نوء، من نوءٍ عظيم إلى نوءٍ أعظم، من ضيقةٍ حتى الاختناق إلى ضيقةٍ حتى الموت. وأخيراً، في المستقبل القريب الذي سيأتي، ترسو السفينة (الكنيسة) على شاطئ الأمان كما يُريدها هو!

? عجيبٌ هو داود النبي، فقد رأى هذا المنظر بعينيه وسجَّله في المزمور 107: «هم رأوا أعمال الرب وعجائبه في العُمق. أَمَرَ فأَهاج ريحاً عاصفة، فرفعت أمواجه». «أَمَر فأَهاج ريحاً عاصفة»: لقد رأى داود - بعين النبوَّة - كما لو أنَّ المسيح هو الذي أَمَر الريح بأن ت‍َهُبَّ وهو نائمٌ، وكذلك هو الذي أَمَرَ البحر بـأن تَ‍هيج أمواجه. ولكي يُثبت داود النبي هذا الكلام، قال: «يصعدون إلى السموات، يهبطون إلى الأعماق. ذابتْ أنفُسُهُم بالشَّقاء. يتمايلون ويترنَّحون مِثْل السَّكْران، وكلُّ حكمتهم ابْتُلِعَتْ. فيصرخون إلى الربِّ في ضيقهم، ومـن شدائـدهم يُخلِّصهم». هنا عندمـا يصرخون إلى الرب، يُهدِّئ العاصفة، فتسكتْ الريح وت‍هدأ الأمواج؛ فإذا ب‍هم بعد الانزعاج والترنُّح، «يفرحون، لأن‍هم هَدَأوا، فيَهْديهم إلى الْمَرفَإ الذي يُريدونه. فليحمدوا الربَّ على رحمته وعجائبه لبني آدم. وليرفعوه في مجمع الشعب، وليُسبِّحوه في مجلس الشيوخ»!

هذه هي الصورة الأصغر، وقد عرفناها؛ أما الصورة الأكبر فلم نعرفها بعد، ولذلك لابد أن نغوص فيها. فإذا أردتَ أن تعرف ما عانته وتُعانيه الكنيسة في هذا الدَّهر، عليك أن تقرأ تاريخ الكنيسة بإمعانٍ، وتحاول أن تُقارِن بين ما حدث للسفينة وما حدث ويحدث للكنيسة. فالبحر والسفينة والزمان، هو نفس العالم، وهو نفس رئيس هذا العالم. لا يوجد اختلافٌ كبير بين الاثنين، فإذا شاهدتَ الآن اضطهاداتٍ وأهوالاً، ارجع إلى التاريخ. فما يحدث الآن هو امتدادٌ لِمَا حدث في عُمق التاريخ! السفينة تَمخُر عُبَاب هذا البحر المُتلاطم الأمواج، ولكن ما تُقابله الكنيسة من ضيقاتٍ وأهوالٍ هو أفظع بما لا يُقاس!

النفس هي السفينة على المستوى الأصغر، والكنيسة هي السفينة على المستوى الأكبر:

إنَّ النَّفْس البشرية هي صاحبة هذه السفينة الصغيرة الضعيفة، وما تُواجهه النفس - على المستوى الأصغر - تُجاب‍هه الكنيسة على المستوى الأكبر. فالنفس هي السفينة الأصغر والأضعف، والمحيط الذي تَعبُره هو هو ما تَعبُره الكنيسة، والعالم هو هو، وظلمة هذا الدَّهر هي هي! فما تُعانيه الكنيسة مجتمعةً، تواجهه كلُّ نفسٍ تسعى في طريق الخلاص. والملاَّح، في سفينة النَّفْس، جاهلٌ. ومِن توالي الأيام وطول الإعياء، فَقَدَ صَنْعة الملاحة، فَقَدَ تقاليدها! أين حكمة الآباء في ضبط البوصلة والاتِّجاه والغرض المستقيم والصلاة المستمرة؟ لقد ضعُفتْ صَنْعة الملاحة، فأصبح السَّفَر عَبْر البحر صعباً أكثر بما لا يُقاس مِمَّا كان في السابق. فكان الملاَّحون، أصحاب صَنْعة الملاحة، مَهَرَة، يعرفون إدارة الدَّفَّة، ويعرفون متى ينشرون القِلاع! ومتى يرتاحون ومتى يسيرون!

والآن، في زماننا هذا، نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور، مَن يعرف صنعة الملاحة! ملاحة النُّسك والعبادة، وعبور محيط هذا العالم المُخيف بليله الطويل الذي أَفْقَدنا الرؤيا، ”والوقت مساء“. ولكن المسيح هو هو ”في المؤخِّرة“ متوسِّداً إيماننا! فما دُمتَ تنوي أن تَعبُر محيط هذا العالم، مهما كانت سفينتك هي أصغر سفينة، أو أضعف نفس؛ فإنَّ الرب يسوع سيدخلها قبل أن تدخلها أنت: «ولَمَّا دخل السفينة، تبعه تلاميذه. فأقلعوا».

فالمسيح هو الذي يُدشن له في سفينتك الصغيرة مكاناً لراحته متوسِّداً إيمانك. فمهما هاجت الدُّنيا علينا، ومهما تزايدت ضدَّنا الضيقات، ومهما عصفت بنا رياح الاضطهادات وضربت سفينتنا الصغيرة والضعيفة؛ فإنَّ مسيحنا الحيَّ ما زال متوسِّداً إيماننا، فهو هو الأول والآخِر.

ولكن علينا ألاَّ نُخطئ خطأ التلاميذ، فلا نخاف أو نضطرب من الرياح العاصفة أو الأمواج الهائجة ضدَّنا؛ فعينا الرب يسوع علينا تُلاحظنا من على بُعْدٍ، وهو بيده الدَّفَّة يوجِّهها يميناً ويساراً كيفما يشاء، وهو الذي يستطيع أن ينشر قِلاع (شِرَاع) السفينة حتى وإن بَدَا لنا نائماً؛ إذا كنتَ قد أدركتَ وأيقنتَ ووثقتَ بالإيمان أنَّ المسيح متوسِّداً إيمانك ومرتاحاً فيك.

”المسيح النائم، مسيح الهدوء الأبدي“:

إنَّ عبارة ”المسيح النائم“ هي عبارة سرِّية، من أهم وأخطر صفات المسيح. نحن نعرف المسيح كلمة الله الخالق الفعَّال في الخليقة، الذي يُقيم الخليقة بكلمته، ويضبط حركتها، ويُحْكِم مسيرت‍ها، والذي به نحيا ونتحرَّك ونوجد. ونحن نؤمن بالمسيح الماسك بأعِنَّة نظام الكون والمجرَّات والنجوم والكواكب، فكل حركة لهذا الكون تأتَمِر بأَمره. ولكننا لسنا نعرف ”المسيح النائم“، ”مسيح الهدوء الأبدي“.

ليتك تحسُّ معي، لأن هـذا الإحساس هـو الذي يُعوزك اليوم: ”مسيح الهدوء الأبدي“. فـ ”مسيح السكون الأزلي“ مرتاحٌ فيك، نائمٌ في سفينتك. وهو الذي منه انطلقت أول حركة للخَلْق كقوةٍ أعلى من قوة الحركة، لأن الحركة انبثقت من السكون. فالسكون هو الأول، هو الأصل؛ والحركة هي الفرع. هذا هو ”المسيح النائم“، ”مسيح السكون“، ”مسيح الهدوء“، ”مسيح الصمت الرهيب“، الذي لا تَقرُبه حركة اضطراب، ولا يدنو منه قلق، ولا يقترب إليه انزعاج مُطلقاً. فالاضطراب والقلق والانزعاج هم إفرازات الحركة.

عندما وُجِدَت الخليقة، ابتدأتْ فيها ومعها الحركة، ومع الحركة بدأ يظهر الاضطراب. أمَّا المسيح، فهو السكون الذي لا تَقرُبه الحركة التي تتلاطم فينا، ولا تُناطحه الاضطرابات أبداً. المسيح يبقى دائماً هو رئيس السلام ومركزه. المسيح في داخلك هو مصدر الهدوء والراحة: «تعالوا إليَّ يا جميع المُتعبين والثَّقيلي الأحمال، وأنا أُريحكم» (مت 11: 28). ”تعالوا إليَّ يا جميع المضطربين والقلقين والمن‍زعجين، وأنا أَهبكم السكون العجيب. تعالوا إليًَّ، وأنا أمنحكم سلامي الذي يفوق كل عقل، وأُعطيكم الراحة التي لا يَقرُب‍ها ضيق أو اضطراب“.

لا تتعجَّبوا من حياة القدِّيسين عندما عاشوا حياة السكون، وقالوا إنَّ الصمت هو أهم فضيلة، لأنَّ في الصمت سنتواصل مع مصدر الصمت الذي منه تخرج الحركة. فالحركة تصدر من الصمت، والصمت هو الذي يضبطها. والذي استطاع أن يضبط الحركة، ويكون في هدوءٍ وسكون، لا يمكن أن ين‍زعج أو يضطرب أو يقلق! لماذا؟ لأنه يستمدُّ الصمت من مصدر الصمت، ومصدر أو مركز الصمت هو فيه!

لقد كشف لنا المسيح في هذه الحادثة، بنومه الهادئ في مؤخَّر السفينة على وسادة الإيمان، وفي وسط الأنواء والأمواج والصَّخَب؛ أنه هو فعلاً مصدر السكون الذي لا يتزعزع، وهو الذي يستطيع أن ينتهر الرياح فتسكت ويأمر الأمواج فتهدأ. المسيح هو صاحب سلطان السكون الذي يضبط ثورات الخليقة بكـلِّ أنواعها، ومُعلِناً في ذاتـه عـن جبروت الهدوء القادر أن يُجمِّد حركة الكون في لحظةٍ!

نتعجَّب جداً عندمـا نقرأ إنجيل اليوم، فنجده يبتدئ بـ «حَدَثَ نَـوْءُ ريحٍ عظيم»، وينتهي بـ «سَكَنَت الرِّيح وصار هدوءٌ عظيم»! نوءُ ريحٍ عظيم ينقلب إلى هدوءٍٍ عظيم! هذا الأمر لا يمكن أن يحدث إلاَّ إذا كان صاحب السكون هو صاحب الحركة بديهياً!

سرُّ نوم المسيح في مؤخَّر السفينة:

الآن عرفنا ما هو سرُّ نوم المسيح على وسادةٍ في مؤخَّر السفينة، لأن صاحب الحركة هو صاحب الهدوء، لذلك لا يمكن أن يضطرب المسيح! فانتبِه جداً، لأن في سفينتك الصغيرة الضعيفة المضطربة، المسيح نائمٌ، بسلطان هدوئه وصمته الذي يفوق كل العالم واضطراباته.

فحينما تضطرب الأمور من حولنا، وحينما تنقضُّ علينا التجارب كأنواء الريح وأمواج البحر، وتتأرجح سفينة حياتنا الضعيفة كريشة في مَهَب الريح، وحينما تطمو فوقنا اللُّجج، وتدخل في أعماقنا المياه لتُكدِّر صفو حياتنا وروحنا وتُهدِّدنا بالغرق، ويستبدُّ بنا القلق؛ فلنا ربٌّ متوسِّدٌ إيماننا في المؤخَّر في ذات السفينة المضطربة نائماً. وهو يوحي لنا بنومه بالهدوء الذي ينبغي أن يدخل قلبنا، ولا ينتظر منَّا إلاَّ الاستغاثة إذا ضَعُفَ إيماننا، كما وَرَدَ في إنجيل القديس لوقا: «يا مُعلِّم، يا مُعلِّم، إننا ن‍هلك!». فهو نائمٌ ولكنه مستيقظٌ أيضاً، نائمٌ والهدوء ملء جفنيه ويديه! ومهما صرخنا: «إننا ن‍هلك»، فالخلاص كائنٌ معنا في نفس السفينة.

لقد قال التلاميذ، كما وَرَدَ في إنجيل القديس مرقس: «يا مُعلِّم، أَمَا يَهُمُّكَ (”أَمَا تُبالي“)، أننا ن‍هلك؟». ولكن كأنَّ المسيح يردُّ عليهم قائلاً: ”ت‍هلكون! كيف ت‍هلكون، وها أنا معكم في نفس السفينة! هل أترككم ت‍هلكون، مستحيل أن ت‍هلكوا“!

لقد انزعج التلاميذ واضطربوا من هياج الرياح وتلاطُم الأمواج التي ضربت السفينة حتى امتلأت بالمياه، لقد أخذوا بالمظاهر المُزعجة: ”إننا نغرق! إننا ن‍هلك!“، خداعٌ أَخذ بألباب‍هم. لقد انخدع التلاميذ حسب مظاهر الفزع التي أحاطت ب‍هم، ففقدوا الرؤية الصحيحة، وأدركوا أن‍هم هالكون لا محالة، ولم يَرَوْا المسيح؛ انشغلوا بالغرق والهلاك، ونسوا أن‍هم مربوطون بطَوْق النجاة.

كيف يأتي الموت من مُقدَّم السفينة، والحياة رابضة في مؤخَّرها! هل هذا هو الإيمان؟ أرجوك اسأل نفسك! كما أنني أسأل نفسي أيضاً!

لقد قال المسيح لتلاميذه: «أين إيمانكم؟»، وترجمتها الدقيقة: ”أين أنا منكم؟“، فأنا معكم!

إذن، فعبارة: «كان هو في المُؤخَّر على وسادةٍ نائماً»، هي معيار حادثة السفينة، ولابد أن تكون معيار حياتنا كلها في رحلة العبور من مُحيط هذا العالم المضطرب إلى شاطئ الأمان والسلام!

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.

(1) هذه العظة هي عن إنجيل قداس يوم الأربعاء من الأسبوع الرابع من الصوم الأربعيني المقدس عام 1990. وهي رقم (17) من سلسلة العظات التي تُسمَّى ”الطريق إلى ملكوت الله“.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis