عظات وكلمات روحية



معمودية يوحنا المعمدان



+ نص العظة التي ألقاها نيافـة أنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار ليلة عيد الغطاس المجيد 19 ينايـر 2017م، بكنيسة القديس أنبا مقار بديره العامر ببرية شيهيت.

إنجيل قدَّاس اليوم عـن معمودية الرب يسوع بيد يوحنا المعمدان، وسوف نتكلَّم عـن شخصية يوحنا المعمدان وأحقيَّته أن يُمارِس سر المعمودية (يو1: 18-34).

يبدأ نص الإنجيل هكذا: «اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الوَحِيدُ الذِي هُوَ في حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ. وَهَذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا حِينَ أَرْسَلَ الْيَهُودُ مِنْ أُورُشَلِيمَ كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ لِيَسْأَلُوهُ: ”مَنْ أَنْتَ؟“. فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ وَأَقَرَّ أَنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ. فَسَأَلُوهُ: ”إِذاً مَاذَا؟ إِيلِيَّا أَنْتَ؟“ فَقَالَ: ”لَسْتُ أَنَا“. ”أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟“. فَأَجَابَ: ”لاَ“. فَقَالُوا لَهُ: ”مَنْ أَنْتَ لِنُعْطِيَ جَوَاباً لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟“. قَالَ: ”أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ في الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبيُّ“. وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ. فَسَأَلُوهُ: ”فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ وَلاَ إِيلِيَّا وَلاَ النَّبيَّ؟“.

هنا يطرح المُرسَلون تساؤلاً حول هويَّـة يوحنا المعمدان، وأحقيَّته أن يُمارِس معموديـة الشعب. أو بمعنًى آخر، ما هو مصدر هذه المعمودية؟ ومَنْ له الحق في القيام ب‍ها؟

هنا نقطة يجب أن نلتفت إليها، فلأول مرة في تاريخ الشعب اليهودي يُنادي إنسانٌ بمغفرة الخطايا خارجاً عن طقوس الهيكل. فمِن شريعة موسى نعرف أنه إذا أخطأ إنسان سهواً يجب أن يُقدِّم ذبيحة لتُغفَر له الخطيئة (لا 5،4؛ عدد 15). أما أن يُنادي إنسانٌ بطقسٍ آخر لمغفرة الخطايا بعيداً عن طقوس الهيكل، فهذا شيءٌ جديد، ويُعتَبَر ثورة في الفكر الديني اليهودي: «كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ في الْبَرِّيَّةِ وَيَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لمَِغْفِرَةِ الْخَطَايَا» (مر 1: 4).

ما هي مصادر معمودية يوحنا؟

نظراً لوجود تشابُه بين معمودية يوحنا وبعض الممارسات التي كانت تُجرَى في أيامه، كان على رؤساء الكهنة الاستفسار عن مصدر هذه المعمودية. ومن أمثلة هذه الممارسات:

+ المثال الأول: إذا رجعنا للعهد القديم، لا نجد صراحةً أي طقس يُسمَّى طقس المعمودية. لكن هناك طقوس التطهير بالماء. فمثلاً نقرأ في سفر اللاويين عن طقوس الطهارة: «فَيَغْسِلُ الْمُتَطَهِّرُ (من مرض البَرَص) ثِيَابَهُ وَيَحْلِقُ كُلَّ شَعْرِهِ وَيَسْتَحِمُّ بِمَاءٍ فَيَطْهُرُ. ثُمَّ يَدْخُلُ المحَلَّةَ، لَكِنْ يُقِيمُ خَارِجَ خَيْمَتِهِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ» (لا 14 : 8).

كما نقرأ في سفر العدد: «وَيَأْخُذُ رَجُلٌ طَاهِرٌ زُوفَا وَيَغْمِسُهَا فِي المَاءِ وَيَنْضِحُهُ عَلى الخَيْمَةِ وَعَلى جَمِيعِ الأَمْتِعَةِ وَعَلى الأَنْفُسِ الذِينَ كَانُوا هُنَاكَ وَعَلى الذِي مَسَّ العَظْمَ أَوِ القَتِيل أَوِ المَيِّـتَ أَوِ القَبْرَ. يَنْضِحُ الطَّاهِرُ عَلى النَّجِسِ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ وَاليَوْمِ السَّابِعِ. وَيُطَهِّرُهُ فِي اليَوْمِ السَّابِعِ فَيَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَرْحَضُ بِمَاءٍ فَيَكُونُ طَاهِراً فِي المَسَاءِ» (عد 19 : 18-19)؛ «وَأَمَّا الإِنْسَانُ الذِي يَتَنَجَّسُ وَلا يَتَطَهَّرُ فَتُبَادُ تِلكَ النَّفْسُ مِنْ بَيْنِ الجَمَاعَةِ لأَنَّهُ نَجَّسَ مَقْدِسَ الرَّبِّ. مَاءُ النَّجَاسَةِ لمْ يُرَشَّ عَليْهِ. إِنَّهُ نَجِسٌ» (عد 19: 20).

هذا مثال عن طقوس الطهارة في العهد القديم، ونُلاحِظ أن هذه الطقوس كانت تتكرَّر حسب الحاجة مع الإنسان المتطهِّر. أمَّا معمودية يوحنا المعمدان فلم تكن تتكرر.

كما أن هذه الطقوس كانت تتمُّ للشخص اليهودي فقط، أمَّا معمودية يوحنا المعمدان فربما كانت لليهودي والأُممي على السواء (لو 3: 9-14): «”فَاصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ. ولاَ تَبْتَدِئُوا تَقُولُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَداً لإِبْرَاهِيمَ... وَجَاءَ عَشَّارُونَ أَيْضاً لِيَعْتَمِدُوا وَسَأَلُوهُ: ”يَا مُعَلِّمُ مَاذَا نَفْعَلُ؟“. فَـأَجَابَ: ”لاَ تَسْتَوْفُوا أَكْثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكُمْ“. وَسَـأَلَهُ جُنْدِيُّونَ(1) أَيْضاً: ”وَمَـاذَا نَفْعَلُ نَحْنُ؟“. فَأجَابَ: ”لاَ تَظْلِمُوا أَحَداً وَلاَ تَشُوا بِأَحَدٍ وَاكْتَفُوا بِعَلاَئِفِكُمْ“».

وكانت طقوس التطهير تتمُّ، إما بماءٍ جارٍ (لا 14: 8)، أو بماءٍ للاغتسال داخل البيوت (لا 15). أمَّا معمودية يوحنا، فكانت في ن‍هر الأردن (لو 3: 3).

أخيراً، كانت طقوس التطهير عمل يومي للطهارة البدنية؛ أمَّا معمودية يوحنا، فكانت لمغفرة الخطايا: «حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ الْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالأُرْدُنّ. وَاعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي الأُرْدُنِّ مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ» (مت 3: 5-6)؛ «كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا» (مر 1: 4).

+ المثال الثاني: وهو ما يُسمَّى بمعمودية الدُّخلاء، وهي معمودية كانت تُجرَى لكل مَن يودُّ أن ينضمَّ لرعوية بني إسرائيل؛ إذ كانت التقليدات أيام المسيح تُصِرُّ على معمودية الماء، وهذه تتمُّ مرَّةً واحدة، ثم الختان حسب شريعة موسى، ثم تقديم ذبيحة.

وكانت هذه المعمودية واحدة لا تتكرَّر. هذه المعمودية غالباً قد بدأ ممارستها في غضون القرن الأول الميلادي. وكانت هذه المعمودية تتمُّ للدخلاء أي غير اليهود، ولم تكن تُمارَس بين اليهود.

واضحٌ أنَّ معمودية يوحنا لم يكن لها أية علاقة بمعمودية الدُّخلاء، لأن معمودية يوحنا كانت لليهود بالدرجة الأولى، ولم يكن يتبعها أية إجراءات رسمية مثل معمودية الدُّخلاء التي كانت تضمُّ المعمَّد لشعب الله.

+ المثال الثالث: معمودية الأسينيين، وهم مجموعة من النُّسَّاك اليهود كانوا يعيشون في مغارات قُمران في بريَّة الأردن، وهي منطقة قريبة من منطقة كرازة يوحنا المعمدان. ونحن نَعْلَم أن كرازة يوحنا كان محورها آية سفر إشعياء (40: 3)، وقد جاءت على لسانه شخصياً عندما سأله المُرسَلون: «مَنْ أَنْتَ لِنُعْطِيَ جَوَاباً لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟». قَالَ: «أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ في الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبيُّ».

وكان لنفس الآية أهمية خاصة عند نُسَّاك قُمران، بحسب النص العبري، لأن‍ها كانت تُعطي لهم شرعية الإقامة في البرية: «صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ، أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلاً لإِلَهِنَا» (إش 40: 3).

وكانت المعمودية أحد الطقوس الهامة لهذه المجموعة، وكانت تتمُّ عندهم يومياً، وكانت رمزاً للطهارة الجسدية ولم يكن لها أي مفهوم اِسْخاتولوجي أي أُخروي؛ بخلاف معمودية يوحنا التي كانت بالأساس معمودية اسخاتولوجية أي أُخروية.

واضحٌ هنا الاختلاف بين معمودية الأسينيين التي كانت تتكرَّر يومياً، ومعمودية يوحنا التي كانت لا تتكرَّر.

من هذه الأمثلة، يتضح لنا أن معمودية يوحنا لم تتبع أي مثالٍ سابق لها. لقد تشاب‍هت مع المعموديات السابقة فقط أن‍ها كانت بالتغطيس في الماء، وانفردت عنها جميعاً بأن‍ها كانت تتمُّ على يد شخص يقوم بالتعميد، وهو شخص يوحنا المعمدان، أي لم تكن تتمُّ بواسطة المعتمد شخصياً. كذلك انفردت أيضاً في أن مفهومها كان اسخاتولوجياً، أي أن‍ها كانت مُرتبطة بالبشارة بقُرْب مجيء الرب: «وَفي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ في بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ قَائِلاً: تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ» (مت 3: 1-2)؛ «أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ وَلَكِنِ الَّذِي يَأْتي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ» (مت 3: 11).

لذلك نجد أن يوحنا المعمدان كان هو الوحيد الذي أُطلِقَ عليه لقب ”المعمدان“ من كلِّ مَن كان يُمارِس طقوس تلك المعموديات.

والآن، لماذا استكثر اليهود على يوحنا القيام بطقس المعمودية؟ لقد قالوا له: «فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ وَلاَ إِيلِيَّا وَلاَ النَّبِيَّ؟».

المسيح: كان اليهود ينتظرون المسيح أو المسيَّا، وأنه سيكون هو المسئول عن تطهير الأُمة من خطاياها، عملاً بقول الرب في حزقيال النبي: «وَأَرُشُّ عَلَيْكُمْ مَاءً طَاهِراً فَتُطَهَّرُونَ. مِنْ كُلِّ نَجَاسَتِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَصْنَامِكُمْ أُطَهِّرُكُمْ» (حز 36: 25). وعن المسيَّا، قال داود النبي: «طَهِّرْنِي بِالزُّوفَا فَأَطْهُرَ. اغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ... قَلْباً نَقِيّاً اخْلُقْ فيَّ يَا اللهُ، وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ في دَاخِلِي» (مز 51: 7-10). فكان الشعب ينتظر المسيَّا الذي سيُطهِّرهم من خطاياهم.

إيليا: كما كان الشعب ينتظر ظهور إيليا النبي، الذي من مهامه الأساسية ت‍هيئة الشعب للتنقية على يد السيِّد الرب، وذلك حسب ما ورد في نبوءة ملاخي النبي: «هَئَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي. وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَمَلاَكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ. هُوَذَا يَأْتِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. وَمَنْ يَحْتَمِلُ يَوْمَ مَجِيئِهِ وَمَنْ يَثْبُتُ عِنْدَ ظُهُورِهِ؟ لأَنَّهُ مِثْلُ نَارِ الْمُمَحِّصِ وَمِثْلُ أَشْنَانِ الْقَصَّارِ. فَيَجْلِسُ مُمَحِّصاً وَمُنَقِّياً لِلْفِضَّةِ. فَيُنَقِّي بَني لاَوِي وَيُصَفِّيهِمْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِيَكُونُوا مُقَرِّبِينَ لِلرَّبِّ تَقْدِمَةً بِالْبِرِّ. هَئَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ. فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ وَقَلْبَ الأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ. لِئَلاَّ آتِيَ وَأَضْرِبَ الأَرْضَ بِلَعْنٍ» (ملا 3: 1-3؛ 4: 5-6).

النبي: كما كان الشعب ينتظر ظهور النبي الذي بشَّر به موسى النبي، ولم يفهم اليهود أن‍ها كانت نبوءة عن المسيَّا نفسه: «يُقِيمُ لكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لهُ تَسْمَعُونَ» (تث 18: 15؛ أع 3: 22؛ 7: 37). وأن اليهود وكهنتهم سَرَّهم أن يكون سمعان رئيساً لهم وكاهناً أعظم مـدى الدهـر+++ +++ +++++ إلى أن يقوم نبي أمين (1مكابيين 14 : 41).

كان آخر سؤال سأله المُرسَلون ليوحنا: «فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ وَلاَ إِيلِيَّا وَلاَ النَّبِيَّ؟». أَجَابَهُمْ يُوحَنَّا: «أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ وَلَكِنْ فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي الَّذِي صَارَ قُدَّامِي الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ».

ب‍هذا الكلام يعترف يوحنا ضمناً أنه إيليا السابق لظهور الرب. انظروا ماذا قال يوحنا المعمدان: «وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي (أي ”الله الآب“ حسب القديس كيرلس الكبير): الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هَذَا هُوَ ابْنُ اللَّهِ».

+ يقول القديس كيرلس الكبير في شرحه لإنجيل يوحنا (1: 33،32):

[مـن اللائق أن نقول بأيَّـة طريقة أُعيد تشكيل الطبيعة (الإنسانية) إلى صورت‍ها الأولى؟ الإنسان الأول، ترابي من تراب الأرض، وكان في قدرته الاختيار بين الخير والشر، لأنه يملك الانحياز: إمَّا إلى الخير أو إلى الشر، ولكنه سقط بمكر وخدعة لئيمة، ومال إلى العصيان، فسقط إلى الأرض، الأُم التي خرج منها، وساد عليه الفساد والموت، ونقل هذه الخسارة إلى كل الجنس البشري. ونما الشرُّ وكثر فينا وانحدر إدراكنا إلى الأسوأ وسادت الخطيئة، وبالإجمال ظهر أن الطبيعة الإنسانية تعرَّت من الروح القدس الذي سكن فيها...

ولأن آدم لم يحتفظ بالنعمة التي أعطاها الله له، قرَّر الله الآب أن يُرسِل لنا آدم الثاني من السماء؛ إذ أرسل ابنه الذاتي الذي أخذ شكلنا، والذي هو بالطبيعة بلا تغيير أو اختلاف، بل لم يعرف الخطيئة مطلقاً، حتى كما ”بمعصية“ الأول خضعنا للغضب الإلهي؛ هكذا ”بطاعة“ الثاني (رو 5 : 19) ن‍هرب مـن اللعنة وكل شرورها تنتهي. ولكن حينما صار كلمة الله إنساناً، قَبِلَ الروح القدس من الآب كواحدٍ منَّا، ولم يقبله لنفسه في ذاته، لأنه هو الواهب الروح؛ وإنما الذي لم يعرف خطيئة، عندما يقبل الروح كإنسان، يحفظ الروح لطبيعتنا، لكي تتأصَّل فينا النعمة التي فارقتنا.

لذلك السبب أعتَقِد أنَّ القديس (يوحنا) المعمدان أضاف: «رأيتُ الروح نازلاً من السماء واستقرَّ عليه». لقد فارَقَنَا الروح بسبب الخطيئة، لكن الذي لم يعرف خطيئة، صار كواحـدٍ منَّا، لكي يتعوَّد الروح القدس على السُّكْنى فينا، بدون مناسبة للمفارقـة أو الانسحاب منه. لذلك أَخَذَ الروح القدس فيه، ليُجدِّد الصلاح الأول لطبيعتنا].

والمجد لله دائماً، آمين.

(1) هم جنود هيرودس أنتيباس الخاصة المُعسْكِرون في بيريا (الأب متى المسكين، ”شرح إنجيل لوقا“، ص 164).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis