طعام الأقوياء
- 72 -
تذكار ظهور الصليب
17 توت / 10 برمهات


«مع المسيح صُلبتُ، فأحيا
لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ»
(غل 2: 20)

+ «وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ» (غل: 6: 14).

يهتف بولس الرسول بفخرٍ قائلاً: «وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ» (غل: 6: 14). وكأني به يتباهى بصليب ربِّنا يسوع المسيح، مقابل اليهود الذين يَرَوْنَ في الصليب عثرة، والأُمم الحكماء في أَعين أنفسهم الذين يَرَوْنَ في الصليب جهالة: «فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ... فَبِالْمَسِيحِ قُوَّةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ. لأَنَّ جَهَالَةَ اللهِ أَحْكَمُ مِنَ النَّاسِ! وَضَعْفَ اللهِ أَقْوَى مِنَ النَّاسِ» (1كو 1: 18-25).

فإنَّ بولس الرسول قد اختبر كيف أنه بصليب المسيح قد صُلِبَ العالم له، فلم يَعُد للعالم سلطانٌ عليه، ولا هـو صـار حيّاً بالنسبة للعالم، لأن «الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ» (غل 5: 24). لذلك صاح بولس الرسول أيضاً قائلاً: «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غل 2: 20).

ولكن، لماذا صُلِبَ المسيح؟

يُجيب بولس الرسول على هذا السؤال، قائلاً: «فَإِنَّهُ بِالْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ الصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ. وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا. فَبِالأَوْلَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ الآنَ بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْغَضَبِ! لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ، فَبِالأَوْلَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِه» (رو 5: 7-10).

واضحٌ أنـه بإنسانٍ واحد - آدم الأول - قد دخـلت الخطية إلى العالم، وبـالخطية الموت: «وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ» (رو 5: 12).

+ ويُعلِّق الأب متى المسكين على ذلك قائلاً:

[صحيحٌ أنهـا خطية واحـدٍ - آدم الإنسان الأول - ولكن الخطية ارتبطت بالطبيعة، وسَلَّم آدم لذرِّيَّته الطبيعة التي زَلَّتْ وأخطأتْ وفقدتْ نعمة وجودها في حضرة الله، وفارقتها النعمة الحافظة والمُدبِّـرة؛ فصارت مُستهدَفَـةً للموت ولمَن له سُلطان الموت. آدم لم يُسلِّم خطايا بأيِّ نوعٍ كانت، ولكن سَلَّم طبيعة مُستهدَفَة للخطية، لأنهـا فاقـدة النعمة وفاقـدة الحِفْظ والتدبير الإلهيَّيْن... وكان الموت الجسدي هـو الصورة المنظورة للمـوت الروحي... وهكـذا دخلت الخطية إلى العالم تَحْمِل في بطنها الموت، وكلُّ مَن وُلِدَ منها كـان مآله إلى القبر... ولكن ليس أبنـاء آدم معفيِّين مـن اللـوم حينما يقعون تحت الموت وهو عقوبة كانت على الأصل، أي على آدم، لأن الكلَّ أخطأ وأخطأ بإرادته، بل وبحرية إرادته («وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع»)](1).

المسيح بموته على الصليب،

افتدانا من لعنة الناموس:

يقول بولس الرسول أيضاً: «لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ هُمْ مِـنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ هُـمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: ”مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ“. وَلكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِالنَّامُوسِ عِنْدَ اللهِ فَظَاهِرٌ، لأَنَّ ”الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا“» (غل 3: 11،10).

فبما إن الناموس قائمٌ على طاعة وصايا الله، والعمل بها، فإن مَن لم يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به، فهو تحت لعنة. وبما إن المسيح قـد جاء ليُكمِّل الناموس بشخصه، وقـد أكمله بالفعل، إذ أطـاع حتى الموت موت الصليب، وصرخ قائلاً: «قد أُكْمِلْ» (يو 19: 30)؛ فهو بذلك افتدانا من لعنة الناموس، «إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: ”مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ“» (غل 3: 13؛ انظر أيضاً تث 21: 23،22).

فالمسيح افتدانا من لعنة الناموس، ليس فقط لأنه عُلِّق على خشبة؛ بل لأنه «حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ» (1بط 2: 24). لأن لعنة الناموس لمَن عُلِّق على خشبة هي لكلِّ إنسان اقترف الخطية عن عَمْدٍ التي عقوبتها الموت، فقُتل وعُلِّق على خشبة (تث 21: 23،22). فالمسيح تحمَّل اللعنة، لأنـه حَمَل كـل خطايا البشرية من آدم حتى نهاية الدهور. من أجل هذا قال عنه يوحنا المعمدان، «هوذا حَمَل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29). وإشعياء النبي تنبَّأ عنه قائلاً: «... جعل نفسه ذبيحة إثم... يُبرِّر كثيرين وآثامهم هو يحملها... من أجل أنه سَكَب للموت نفسه وأُحصِيَ مع أَثَمَة. وهو حَمَلَ خطية كثيرين وشفع في المذنبين» (إش 53: 10-12).

لذلك يقول بولس الرسول: «لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية من أجلنا، لنصير نحن برَّ الله فيه» (2كو 5: 21). فلولا أنَّ المسيح اقتبل لعنـة الله بحسب الناموس الواقعـة أصلاً على الخطاة، لما صالح الله الخطاةَ في المسيح. لذلك يقول القديس بولس نفسه أيضاً: «إنَّ الله كان في المسيح مُصالِحاً العالم لنفسه، غير حاسبٍ لهم خطاياهم» (2كو 5: 19).

فبذلك تُضيء حكمة تدبير الله بلمعانٍ أكثر من الشمس، تلك التي أعلن عنها الله في العهد القديم، وشهد عنها القديس بولس بقوله: «لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: ”سَأُبِيدُ حِكْمَةَ الْحُكَمَاءِ، وَأَرْفُضُ فَهْمَ الْفُهَمَاءِ“ (انظر إش 29: 14)... لأَنَّهُ إِذْ كَانَ الْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ اللهِ لَمْ يَعْـرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَـةِ، اسْتَحْسَـنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّـصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ. لأَنَّ الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَالْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، وَلكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبـاً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَـانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِالْمَسِيحِ قُوَّةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ» (1كو 1: 19-24).

+ وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير في شرحه لإنجيل يوحنا:

[«هوذا حَمَل الله الذي يرفع خطية العالم»، وهو الذي أشار إليه إشعياء، وما أشار إليه يتحقَّق الآن: «كشاةٍ تُساق إلى الذبح، وكنعجةٍ صامتة أمـام جازِّيها لم يفتح فـاه» (إش 53: 7). وهو الذي سبق وأخبر عنه ناموس موسى بشكلٍ رمـزي. الـذي خلًَّص جزئيـاً حينذاك دون أن تمتدَّ الرحمة وتشمل الكلَّ. أمـا الآن فالذي صوَّرتْه هـذه الرموز بشكلٍ غامض أي الحَمَل نفسه، والذبيحة التي بـلا عيب، قد جاء لكي يُقاد إلى الذبح لأجـل الكـلِّ. لكي يرفع خطية العالم، ولكي يُبيد المُهلك من الأرض. وعندما يموت عـن الكل، يُبيد الموت، ويُبطِل اللعنة التي لحقت بنـا، ويضع حـدّاً لِمَا قيل: «لأنك ترابٌ وإلى تراب تعود» (تك 3: 19). وبـذلك يصبـح آدم الثـاني، ليـس ”مـن التراب“، وإنما ”مـن السماء“. ويصبح بداية كـل الصالحات للطبيعة الإنسانيـة، ومُحرِّر الإنسان مـن الفساد الدخيـل، ومانـح الحياة الأبدية، وأساس المُصالحة مـع الله، وبدايـة التقوى والبر والطريق إلى ملكوت السموات. لقد مـات حَمَلٌ واحد عـن القطيع كله لكي يُخلِّص القطيع كلـه لله الآب... وذلك «كـي يعيش الأحياء فيما بعد، لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام» (2كو 5: 15)... وإذا كان «الله هـو الذي يُبرِّر، فمَن هـو الذي يدين؟» (رو 8: 34،33)، «المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنةً لأجلنا» (غل 3: 13) لكي نفلت من لعنة التعدِّي](2).

المسيح بصليبه افتدانا لنفسه، جنساً مختاراً،

كهنوتاً ملوكياً، أُمَّة مُقدَّسة، شعب اقتناء:

يقول بطرس الرسول مُخاطباً المؤمنين: «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ» (1بط 2: 9).

وهذا يُذكِّرنا بما قاله الرب لبني إسرائيل بعد أن فداهم بـدم خروف الفصح وأخرجهم مـن أرض مصر، إذ خاطبهم بلسان موسى النبي قائلاً: «أَنْتُمْ رَأَيْتُمْ مَا صَنَعْتُ بِالْمِصْرِيِّينَ. وَأَنَا حَمَلْتُكُمْ عَلَى أَجْنِحَةِ النُّسُورِ وَجِئْتُ بِكُمْ إِلَيَّ. فَالآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي، تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. فَإِنَّ لِي كُلَّ الأَرْضِ. وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً» (خر 19: 4-6).

ثم يعود الله فيُخاطبهم بلسان إرميا النبي قائلاً: «هَـا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَقْطَعُ مَـعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً. لَيْسَ كَالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعْتُهُ مَـعَ آبَائِهِمْ يَـوْمَ أَمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. بَلْ هذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ، يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً. وَلاَ يُعَلِّمُونَ بَعْدُ كُـلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ. وَكُـلُّ وَاحِدٍ أَخَـاهُ، قَـائِلِينَ: اعْرِفُـوا الـرَّبَّ، لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَيَعْرِفُـونَنِي مِـنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ، يَقُولُ الرَّبُّ، لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِم، وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْدُ» (إر 31: 31-34).

وهنا يتضح أنَّ الله في عهده الأول مع بني إسرائيل، الـذي أسَّسـه على سماعهم لصوتـه وحِفظهم لعهـده معهم، سيجعلهم شعبه الخاص، ويكونون له مملكة كهنة وأُمَّة مُقدَّسة. ولكنهم لمَّا نقضوا عهده رفضهم، ووعد بأن يقطع عهداً جديداً مع بيت إسرائيل، مؤسَّساً على عمله في قلوبهم: أن يجعل شريعته في داخلهم، ويكتبها على قلوبهم، ويكون لهم إلهاً وهم يكونون له شعباً! ولا يحتاجون أن يُعلِّمهم أحد عن الرب، لأنهم كلهم سيعرفـون الرب مـن صغيرهم إلى كبيرهم. والرب سيصفح عـن إثمهم ولا يذكُر خطيَّتهم. هذا معناه أننا أمام عهدٍ جديد هو عهد الدعـوة والاختيار والفداء والاقتناء، العهد الذي قـال عنـه يوحنا الحبيب: «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقًّا... وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ. لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا. اللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. الاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو 1: 14-18).

هذا هـو العهد الذي ذكره الرب في تأسيسه لسرِّ الإفخارستيا في اليوم الذي أَسلم فيه ذاته للموت عن حياة العالم، وذلك عندما قال لتلاميذه: «هذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ» (لو 22: 20).

+ وفي هذا يقول القديس أنبا مقار الكبير، مُبيِّناً الحال الذي صارت إليه النفس بعد أن دخلت في عهدها الجديد مع الرب:

[والـرب يُناقش النفس ويُريـها مواضـع المسامير قائلاً: ”انظري علامـات المسامير، انظري الجَلَدات، انظري البُصَاق، انظري الجروح، هـذه كلها تألَّمتُ بها من أجلكِ... لأني بمحبتي للبشر، جئتُ أطلبكِ وأُحـرِّركِ، لأني منذ البدء جبلتكِ على صورتي، وخلقتكِ لتكوني عـروساً لي...“. والرب يُظهر نفسه لها على هيئتين: على هيئة جروحـه، وعلى هيئة نوره المجيد. والنفس ترى الآلام التي احتملها لأجلها، وترى المجد الفائق الذي لنوره الإلهي، فتتغيَّر إلى تلك الصورة عينها، من مجدٍ إلى مجد كما مـن الرب الروح. وتتقدَّم في كلتا الهيئتين: في هيئـة آلامـه، وهيئة نوره المجيد؛ حتى تنسى بنوعٍ مـا طبيعتها الخاصـة، إذ تكـون ممسوكة بالله، وممتزجة ومتَّحدة بالإنسان السماوي وبالروح القدس، بل تصير هي نفسها روحاً](3).

«ارحمني يا الله ارحمني، لأنه بك احتمت

نفسي، وبظل جناحيك أحتمي...»:

يذخر سِفْر المزامير بكثير من الآيات التي تتكلَّم عن حماية الله لنا بظلِّ جناحيه، وبالأخص المزامير التي نقولها في صلاة الساعة السادسة التي رتَّبتها الكنيسة لكي نُصلِّي بها في الساعة التي عُلِّق فيها مُخلِّصنا على خشبة الصليب، باسطاً ذراعيه عليه لكي نستظل ونحتمي بهما من العدو، حيث نُصلِّي قائلين: ”صنعتَ خلاصاً في وسط الأرض كلها أيها المسيح إلهنا، عندما بسطتَ يديـك الطاهرتين على عود الصليب. لهذا كل الأُمم تصرخ وتقول: المجد لك يا رب“.

ففي المزمـور 56 (سبعينية) نُصلِّي قائلين: «ارحمني يا الله ارحمني، فإنه عليك توكَّلَتْ نفسي، وبظِـلِّ جناحيك أعتصم إلى أن يَعـبُر الإثـم». والمزمور 60 (سبعينية): «صرتَ رجائي وبُرْجـاً حصيناً في وجه العدو، فـأسكن في مسكنك إلى الدهـر، وأستظل بستر جناحيك». والمزمور 62: «لأنـك صرتَ لي عونـاً، وبظل جناحيك أبتهج. التصقتْ نفسي بـك ويمينك عضدتني». والمزمور 84: «الرحمة والحق تلاقيا. البر والسلام تلاثما. الحق من الأرض أشرق، والبر من السماء تطلَّع». والمزمور 90: «في وسط منكبيه يُظلِّلك، وتحت جناحيه تعتصم، عدله يُحيط بك كالسلاح... يَسْـقُطُ عن يسارك ألوف، وربوات عن يمينك» (الأجبية).

في سِفْر إشعياء النبي، نجده يتكلَّم عن يد الرب التي لم تقصر عن أن تُخلِّص، وذراعه التي خلَّصَت لنفسه، وذلك في قوله: «هَلْ قَصَرَتْ يَدِي عَنِ الْفِدَاءِ؟ وَهَلْ لَيْسَ فِيَّ قُدْرَةٌ لِلإِنْقَاذِ؟» (50: 2)، «الْبَسِي قُوَّةً يَا ذِرَاعَ الرَّبِّ! اسْتَيْقِظِي كَمَا فِي أَيَّامِ الْقِدَمِ، كَمَا فِي الأَدْوَارِ الْقَدِيمَةِ» (51: 9)، «هكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لاَ تَرْجِعُ إِلَيَّ فَارِغَةً، بَلْ تعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِيمَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ» (55: 11)، «فَرَأَى أَنَّـهُ لَيْسَ إِنْسَانٌ، وَتَحَيَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ شَفِيعٌ. فَخَلَّصَتْ ذِرَاعُهُ لِنَفْسِهِ، وَبِـرُّهُ هُـوَ عَضَدَهُ. فَلَبِسَ الْبِرَّ كَدَرْعٍ، وَخُوذَةَ الْخَلاَصِ عَلَى رَأْسِهِ. وَلَبِسَ ثِيَابَ الاِنْتِقَامِ كَلِبَاسٍ، وَاكْتَسَى بِالْغَيْرَةِ كَرِدَاءٍ» (59: 17،16).

هذا هو ما أكمله المسيح بصليبه عندما سُرَّ أن يصعد بمشيئته على خشبة الصليب ليُنجِّي الذين خلقهم من عبودية العدو. فهو الكلمة التي خرجت من فم الآب، ولم ترجع فارغة. وهو ذراع الرب التي خلَّصت لنفسه. وهو يمين الرب التي صنعتْ قـوَّة. وهـو الذي بسط ذراعيه على الصليب، فصار خلاصاً وفداءً وحمايةً لكلِّ مَن يحتمي به. وهـو الرحمة والحـق والبر الـذي أشرق على الأرض وتطلَّع من السماء.

+ وفي هذا يقول القديس أثناسيوس الرسولي:

[إنْ كـان موت الرب قـد صار كفَّارة عن الجميع، وبموته نقض حائط السياج المتوسط، وصارت الدعوة للأُمم؛ فكيف كان مُمكناً أن يدعونا إليه لو لم يُصلَب؟ لأنه لا يمكن أن يموت إنسانٌ وهـو باسطٌ ذراعيه إلاَّ على الصليب. لهـذا لاق بالربِّ أن يحتمل هـذا (الموت على الصليب) ويبسط يديه، حتى بيده الواحـدة يجتـذب الشعب القديم، وبالأخرى يجتذب الذين هم من الأمم، ويُوحِّد الاثنين في شخصه. فإنَّ هذا هو ما قاله بنفسه مُشيراً إلى أية مِيتة كـان مزمعاً أن يفدي بها الجميع: «وأنا إنْ ارتفعتُ (عـن الأرض) أجذب إليَّ الجميع» (يو 12: 32)](4). (يتبع)

(1) الأب متى المسكين، ”شرح رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل رومية“، ص 268-270.
(2) ”شرح إنجيل يوحنا“، الكتاب الثاني، ص 1: 29 (مؤسَّسة القديس أنطونيوس).
(3) المجموعة الثالثة من العظات، عظة 3: 2.
(4) On the Incarnation of the Word, 25,3-4; (NPNF, 2nd Series, Vol. VI, p. 49,50).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis