مقدمات الأسفار
-25-
+ + +
ثانياً: الأسفار التاريخية
6 - سِفْر الملوك الأول (2)


المملكة المنقسمة:

بدأ مجد المملكة المتَّحدة في الأُفول بعد موت سليمان عندما تكلَّم ابنه رحبعام العديم الحكمة بغلاظة مع مُمثِّلي أسباط إسرائيل، فيما عدا سبط يهوذا، عندما طلبوا منه أن يُخفِّف عنهم عبء الضرائب الثقيلة التي كانت مفروضة عليهم في عهد سليمان (1مل 12: 1-24). فقد انصاع رحبعام لمشورة الشباب وترك مشورة الشيوخ الذين نصحوه بمعاملتهم باللُّطف، وقال لهم كما لقَّنه الشباب: «أبي حمَّلكم نِيراً ثقيلاً، وأنا أَزيد على نِيركم. أبي أدَّبكم بالسِّيَاط، وأنا أُؤدِّبكم بالعقارب» (1مل 12: 11). «فلما رأى كلُّ إسرائيل أنَّ الملك لم يسمع لهم، ردَّ الشعب جواباً على الملك قائلين: ”أيُّ قِسْمٍ لنا في داود، ولا نصيبَ لنا في ابن يسَّى. إلى خيامِكَ يا إسرائيل. الآن انظُر إلى بيتك يا داود“» (1مل 12: 16). وهكذا انحصرت مملكة رحبعام في يهوذا التي كانت في الجنوب. وصار يربعام مَلِكاً على مملكة إسرائيل في الشمال.

وعزم رحبعام ملك يهوذا أن يُحارِب بيت إسرائيل ويردُّهم إلى مملكته. فكان كلام الله إلى شِمْعِيَا رجل الله قائلاً: «”كلِّم رحبعام بن سليمان مَلِك يهوذا... هكذا قال الرب: لا تصعدوا ولا تُحاربوا بني إسرائيل. ارجعوا كلُّ واحدٍ إلى بيته، لأن من عندي هذا الأمر“. فسمعوا لكلام الربِّ، ورجعوا لينطلقوا حسب قول الرب» (1مل 12: 24،23). أمَّا يربعام مَلِك إسرائيل، فقد أَبعد شعبه عن عبادة الرب، وعمل عِجْلَي ذهب: ووضع واحداً في بيت إيل، والآخر في دان. وبَنَى بيت مرتفعات ومذبحاً في بيت إيل وأصعد ذبائح للأصنام، وعمل الشر في عينَي الرب، «وجعل إسرائيل يُخطئ» (1مل 14: 16). وظهر أنبياء كثيرون مثل أَخِيَّا الشِّيلوني (1مل 14: 18،5؛ 15: 29)، وياهو بن حناني (1مل 16: 12،1). ثم ظَهَرَ أيضاً إيليا النبي في مملكة إسرائيل في أيام أخآب الملك.

إيليا النبي:

كان إيليا النبي من بلدة تِشْبي في جلعاد، إلاَّ أنَّ موقع هذه البلدة غير معروف على وجه الدِّقة. ولم يُذكَر شيء عن ميلاده وأصله، وربما كانت جذوره العائلية ليست من إسرائيل. إلاَّ أن الاسم ”إيليا“ يعني: ”يهوه هو إلهي“، ولعلَّه شعار حياته. وكان قصده النبوي هو إيقاظ إسرائيل لكي يقتنعوا بأن يهوه وحده هو الله، وهذه هي شخصية إيليا في فرادت‍ها، وكان يلبس حزاماً جلديّاً حول وسطه (2مل 1: 8). وكان إيليا النبي مُعاصراً لفترة حُكْم أخآب الملك، وكانت عبادة البعل الوثنية قد دخلت رسمياً في إسرائيل (1مل 16: 32). وكان أول عمل لإيليا هو أن يُعلِن لأخآب أنَّ الله الحقيقي مزمع أن يُرسِل مجاعة قاسية على البلاد، لأن خطايا أخآب بعبادته للبعل إله الكنعانيين للعواصف والخصوبة، كان تعدِّياً مُباشراً للإله الحقيقي، وعقابـه حلول الجفاف في الأرض وانقطاع الأمطار. ولَمَّا انتهت مهمة إيليا، لم يَمُت، بل بينما كان يتكلَّم مع تلميذه أليشع النبي، أُخِذَ إيليا فجأةً في مركبة نارية إلى السماء (انظر 2مل 2: 1-12). وقد ذُكِرَ إيليا في (ملا 4: 5) باعتباره النذير ل‍ ”يوم الرب“ و”السابق للمسيح“. وقد تحقَّقت هذه النبوَّة في إرسالية يوحنا المعمدان (مت 11: 7-11؛ لو 1: 17).

النبيَّان إيليا وأليشع:

خَتَمَ إيليا النبي شهادته للإله الحي على جبل الكرمل بذَبْح 450 نبيّاً من أنبياء البعل (1مل 18: 20-40). وامتدَّت خدمته في كنعان من ن‍هر كَريث بالقُرب من مكان مولده (1مل 17: 1-17) إلى صرفة صيدون حيث صنع المعجزة التي آزر ب‍ها الأرملة وابنها الذي أقامه من الموت، ثم إلى الجنوب حتى جبل حوريب في شبه جزيرة سيناء. وفي السامرة شَجَبَ إيليا ظُلم الملك أخآب لنابوت اليزرعيلي (1مل 21: 17-29). وبالقُرب من أريحا، ضرب مياه ن‍هر الأردن بردائه، فانفلق إلى فرعَيْن وعَبَر في وسطه على اليابسة. وبعد ذلك جاءت مركبة من نار وخيل من نار وحملته إلى السماء (2مل 2: 1-12). أمَّا أليشع النبي تلميذه، فقد صنع معجزاتٍ كثيرة، منها أنه شفى نُعمان السرياني من بَرَصه في ن‍هر الأردن (2مل 5: 1-19). وكانت خدمته في مملكة إسرائيل بعد موت أخآب. وقاد الجنود السوريين الذين ضرب‍هم الرب بالعَمَى استجابةً لطلبه، وأتى ب‍هم إلى السامرة مهزومين (2مل 6: 8-23). وفي دمشق تنبَّأ عن موت الملك بنهدد ملك سوريا، وتملُّك حزائيل بدلاً منه (2مل 8: 7-15).

أقوال آبائية عن السِّفْر:

1. [يجب أن نتذكَّر أنَّ سليمان خَلَفَ داود أباه في اعتلاء عرش المملكة في حياة أبيه داود، وهذه حالة فريدة لم تحدث في تعاقُب الملوك في المملكة اليهودية عامةً. فليس هناك سببٌ آخر يُقدَّم دليلاً أكثر وضوحاً من أن سليمان ليس هو الرجل الذي أعلنت عنه نبوَّة ناثان (النبي) لداود قائلاً: «متى كَمِلَتْ أيامك واضطجعتَ مع آبائك، أُقيم بعدك نسلك الذي يخرُج من أحشائك وأُثبِّتُ مملكته» (2صم 7: 12). ففي ضوء هذه الكلمات، كيف يمكن أن يتصوَّر أحدٌ أنه بسبب الفقرة التي أتت بعد ذلك (في النبوَّة) قائلة: «هو يبني بيتاً لاسمي» (2صم 7: 13)، أن سليمان هو المقصود في هذه النبوَّة، بينما نفت النبوَّة في ضوء الجزء الأول منها القائل: «متى كَمِلَتْ أيامك واضطجعتَ مع آبائك، أُقيم بعدك نسلك الذي يخرُج من أحشائك»؛ فهو، إذن، شخصٌ آخر (غير سليمان) صانع سلام، واحدٌ يُقام ليس قبل موت داود، كما حدث مع سليمان، بل بعده. ولا يهمُّ كم من الزمن الذي ينقضي حتى مجيء المسيح يسوع الموعود به. فالأمر لا يحتاج إلى سؤال، لأن النسل الذي وُعِدَ به الملك داود بتلك الكلمات المُحدَّدة، كان مُقدَّراً له أن يأتي بعد موت داود، وهو نفسه الذي كان عليه أن يبني بيتاً لله، تماماً كما نفرح نحن أن نراه قائماً اليوم، بيتاً غير مصنوع من الأخشاب والحجارة، بل من البشر. إنه هؤلاء المؤمنين بالمسيح، الذين عبَّر عنهم القديس بولس ب‍هذه الكلمات: «لأن هيكل الله مُقدَّس الذي أنتم هو» (1كو 3: 17)](1) - القديس أُغسطينوس.

2. [بعد شرح الجرائم التي اقترفها يوآب وشمعي، فوَّض داود (ابنه) سليمان في معاقبتهم، ولكنـه أعطاه بعض التفاصيل بخصوص أسلوب ونوعية العقوبة، قائلاً له: «افعل حسب حكمتك» (1مل 2: 6). وكأنه يقول له: ”طالما اقترف كلٌّ من يوآب وشمعي مثل هذه الأفعال (ال‍مُشينة)، فإنه ليس من العدالة أن يُتركا بغير عقابٍ. وهكذا عليك أن تحلَّ هذا الأمر بحكمتك وإنصافك، فيمكنك أن تقبض عليهما متلبسَيْن بجريمتهما. ولعل بحزمك في اكتشاف جرائم جديدة، تكتشف الخطايا التي اختفت عن أبيك بسبب تساهُله“](2) - القديس أفرام السرياني.

3. [يمكنك أن ترى هنا أربعة رجال قد أُدينوا بواسطة سليمان، لأن‍هم كانوا قد اقترفوا جريمة الخيانة. فكلهم سبقوا فكانوا إشارة إلى خراب الأُمَّة اليهودية... فإنَّ أَدُونِيَّا الذي نُودي به مَلِكاً (دون عِلْم أبيه داود) ثم قُتِلَ بعد ذلك بقليل، كان أول مَن سعى لسقوط المملكة اليهودية. ثم بعد إلغاء كهنوت هارون عن أبياثار، عُزِلَ من وظيفته (كرئيس كهنة). ويوآب الذي كان له شرف قيادة الجيش، حُرِمَ من حياته بواسطة قادة الشعب، وتحطَّمت كل قوته العسكرية. وأخيراً، شمعي الذي كان يرمز بطريقة أكثر وضوحاً للخطية والعقوبة التي استحقَّها اليهود، وخاصة سُكَّان أورشليم الذين كفروا بالمسيح وطلبوا أن يُصلَب. وتلك الطِّلْبة الأخيرة للمسيح («هوذا بيتكم يُترَك لكم خراباً» - مت 23: 38) كما لو كانت هي الوصية العُظمى، وقد أُجِّل تنفيذها لمدة أربعة عقود (بعد النُّطق ب‍ها) ولم تكمل إلاَّ بعد أن أُمسِكَ اليهود في جريمة جديدة، وهي اضطهاد الرسل وباقي تلاميذ المسيح](3) - القديس أفرام السرياني.

4. [أليس هذا الحُكم النبيل الذي نطق به سليمان ملآناً من الحكمة والعدل؟ دعنا نرى كيف حدث هذا الأمر. وقفت امرأتان أمام الملك سليمان، وقالت له واحدة منهما: «اسمعنى، يا سيِّدي، أنا وهذه المرأة نسكن معاً في بيتٍ واحد. وفي اليوم الثالث بعد ولادتي وَلَدَتْ هذه المرأة أيضاً، ولم يكن هنا شاهدٌ علينا في المن‍زل. ولم تكن هناك امرأة أخرى معنا، بل كُنَّا وحدنا فقط. وهذه الليلة مات ابنها لأن‍ها رقدتْ عليه. فقامت في نصف الليل وأَخَذَت ابني من حضني ووضعته في صدرها، ثم وضعتْ الميت في حضني. ولما قُمتُ في الصباح لأُرضِّع طفلي، وجدته ميِّتاً. وعندما فحصته في مطلع الفجر، وإذا بي أكتشف أنه ليس ابني». وقالت المرأة الأخرى: «لا، بل الطفل الحي هو ابني، والميِّت هو ابنكِ» (1مل 3: 16-22). هذا كان نزاعهُنَّ، فكل واحدة منهما كانت تدَّعي أنَّ الطفل الحي هو طفلها والميِّت يخصُّ الأخرى. حينئذ طلب الملك سيفاً لكي يؤتى به حتى يَقسم الطفل إلى نصفين، ويُعطي النصف لكلِّ واحدة منهما. فما كان من المرأة التي كانت هي الأُم الحقيقية للطفل الحي إلاَّ أن تحرَّكت أحشاؤها وصرخت قائلة: «لا تقسم الطفل، يا سيِّدي، بل ليُعْطَ لها ويبقى حيّاً، ولا تقتله». أمَّا الأخرى فأجابت: «بل اِقسمه، وليكُن لي ولها». وحينئذ «أَمَرَ الملك أن يُعطَى الطفل للمرأة التي قالت: لا تقتله. لأن‍ها كما قالت إن أحشاءها تحرَّكت من أجل ابنها» (1مل 3: 23-27).

ليس هناك خطأ في أن نستنتج أنَّ فكر الله كان في المَلِك، لأنه هل هناك شيءٌ يَخْفَى على الله؟ وما هو الشيء الذي يمكن أن يكون أكثر خِفية من الشهادة التي تستتر في أعماق الإنسان، تلك التي أحسَّ ب‍ها الملك الحكيم حتى أمكنه أن يحكم على مشاعر امرأة ويستنتج منها أن‍ها صوت قلبها؟ لأن مشاعر المرأة ظهرت عارية عندما اختارت أن يحيا ابنها مع المرأة الأخرى من أن يُقتل أمام عينيها. وهكذا كانت هـذه علامة على الحكمة التي تُميِّز سرَّ أفكار القلوب لاستخراج الحقيقة من المنابع الخفية واختراقها كما لو كان بسيف الروح، ليس فقط الأجزاء الداخلية من الجسد، بل وأيضاً أعماق العقل والروح. فقد كان هذا جزءاً من العدالة أيضاً أنَّ تلك التي قتلتْ ابنها (برُقادها فوقه) لا تأخذ طفلاً ليس لها، بل أن تأخذه الأُم الحقيقية ويرجع إليها ثانية. وهـذا هـو بالفعل ما أعلنته الكُتُب المقدسة: «سمع كل إسرائيل الحُكْم الذي حَكَمَ بـه الملك، وخافوا الملك لأن‍هم رَأَوْا أنَّ حكمة الله حاضرة في العدالـة». وسليمان نفسه طلب الحكمـة، لكي يُعطَى قلباً نقيّاً ليسمع ويحكم بالعدل (انظر 1مـل 3: 9)](4) - القديس أمبروسيوس.

5. [في الوقت الذي بَنَى فيه سليمان الهيكل، كان هذا هو ربنا صانع سلامنا الذي قال: «سلاماً أتركه لكم، سلامي أُعطيكم» (يو 14: 27)، «لأنه هو سلامنا» (أف 2: 14)، «سلام الله الذي يفوق كل عقل» (في 4: 7). هذا هو الذي بَنَى بنفسه هيكل الله. لاحِظ ما تقوله الكُتُب المقدَّسة عن بناء الهيكل بواسطة سليمان: «سبعون ألفاً لقَطْع الأحجار، وثمانون ألفاً لحمل الأحمال» (1مل 5: 15 حسب النص). سَجِّل الأرقام: البناؤون الذين يقطعون الأحجار، الذين - كما لو كانوا - يُعِدُّون أساسات المباني، يأخذون الأحجار من الأرض لبناء هيكل الله، حُسِبَ عددهم سبعة (آلاف)، الذين منهم الأنبياء والبطاركة، الذين لفترةٍ مُعيَّنة كان يظهر أن‍هم يدفعون الجنس البشري من أطراف الأرض، فقد كانوا يُعِدُّون التجهيزات لبناء هيكل الرب. أمَّا الآخرون الثمانية ألف، فإن‍هم يرمزون إلى الكرازة الرسولية والتبشير بالإنجيل، هؤلاء هم الذين كانوا مع الرب مُخلِّصنا وسليمان يحملون حِمْل الأُمم الثقيل. هذا هو بالتأكيد السر الأسمى، ولكن اسمع ما هو أعمق أيضاً من أسرار! «ما عدا رؤساء الوكلاء... على العمل والهيكل، وكانوا ثلاثة آلاف (وثلاث مائة) المُتسلِّطين على العاملين العمل» (1مل 5: 16). فإن‍هم لا يمكن أن يكونوا أكثر من ذلك، حتى ولو كانوا هم المتسلِّطين على الشعب العاملين العمل، إذ كانوا يُعلنون عن الثالوث القدوس (مدبِّر العمل كله)](5) - القديس جيروم.

6. [يُلاحَظ هنا وجود أربعة رموز للشاروبيم والنخيل، ونبات النرجس والزنابـق، والتي قلنا إن‍ها تُمثِّل القدِّيسين الذين يُصلُّون في الهيكل، ويتأمَّلون في الإلهيات. وقـد أُشير إلى هؤلاء القدِّيسين بنفس المعنى بواسطة موسى (النبي)، وإنْ كان قد استخدم رموزاً أخرى، عندما وزَّع أسباط الشعب (بني إسرائيل) إلى أربع مجموعات في أربعة أركان المسكونـة، لكي يعيشوا كلهم حـول خيمة الاجتماع. وبـالتأكيد، فـإنَّ خيمة الاجتماع تُمثِّل الحضور الشخصي لله الـذي كـان يُريـدهم أن يتأمَّلوا ويُقيموا الشعائـر بـاستمرار](6) - القديس أفرام السرياني.

(يتبع)

(1) St. Augustine, City of God 17.8 (FC 24: 50).
(2) St. Ephrem the Syrian, On the First Book of Kings 2.8.9 (ESOO 1: 145).
(3) St. Ephrem the Syrian, On the First Book of Kings 2.3.9 (ESOO 1: 449-50).
(4) St. Ambrose, Duties of the Clergy 2.8.44-47 (NPNF, 2, 10: 50-51).
(5) St. Jerome, Homilies on the Psalms 19, Ps. 89 (90), (FC 48: 152-143).
(6) St. Ephrem the Syrian, On the First Book of Kings 6.29 (ESOO 1: 459).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis