-146-


الكنيسة القبطية في القرن التاسع عشر
البابا بطرس الجاولي
البطريرك التاسع بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1809 - 1852م)
- 10 -


«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

تكملة ما نُشر في عدد فبراير 2017، ص 32:

نحرص على أن ننشر نصوص المُراسلات المُتبادَلة مـن وإلى الأب البطريـرك بطرس الجاولي حول ما يُسمَّى بدير السلطان في القدس القديمة، والذي كان يتبع أوقاف الكنيسة القبطية الأرثـوذكسية، ولكـن حدث أن استولى على مفاتيحه بعض إخوتنا الإثيوبيين وادَّعوا مِلكيَّتهم له. وللأسف كانوا يتعدَّوْن على الأقباط الداخلين إلى كنيسة القيامة، لأنه لابد من المرور على هذا الدير ليتمكَّنوا من الدخول إلى بطريركية الأقباط الأرثوذكس في القدس.

+ ويذكر كاتب هذه السطور أنه في يوم خميس العهد في شهر مايـو عـام 1967، شاهدنا نيافة المتنيِّح الأنبا باسيليوس مطران القدس الأسبق وهو داخلٌ إلى البطريركية، شاهدناه ووجهه مُلطَّخٌ بالدم بسبب تعدِّي الإثيوبيين عليه وهـو يمرُّ على ديـر السلطان في الطريق إلى دار البطريركية!

+ ونحن ننشر هـذه الوثـائق، لأن الكنيسة القبطية الأُم في مصر تحاول الآن استرجاع هذا الدير مرةً أخرى. وربما تُلقي هذه الوثائق الضوء على حقيقة مِلْكيَّة هذا الدير للكنيسة القبطية.

+ وكان الرأس ”عالي“، المنوَّه عنه في الخطاب المتقدِّم ذِكْره (المنشور في العدد السابق) من ”أمهرة“، وكان هو الحاكم على بلاد الحبشة (إثيوبيا) المتوسطة من سنة 1831م إلى سنة 1855م، بسبب كَـوْن ”أَميرَيْن“ كـان الرأس ”عالي“ وزيراً لهما، وكانا يحكمان البلاد في تلك الأثناء، وذلك بالاسم فقط(1).

+ وقبل أن يسـود على بـلاد الحبشـة ”ثيئودوروس“ ويصير ملك ملوك الأحباش، كانت هذه البلاد محكومة بحُكَّام أربعة مُستقلين في أحكامهم، وهم: ”دجاز أوبي“، وكان يحكم على مقاطعة ”التيفرة“؛ و”هايلو ملكوت“، وكان يحكم على منطقة ”الشوا“؛ و”بروغوشو“، وكان يحكم مقاطعة ”قود جام“؛ بينما ”الرأس عالي“ كان يحكم مقاطعة ”أمهرة“، وكان يُعتَبَر هـو الرئيس على الحُكَّام الثلاثة السابق ذِكْرهم.

+ وقد دخل ”ثيئودوروس“ في خدمة ”الرأس عالي“، وكان يُدعى ”كاسا“. ونظراً لشجاعته، زوَّجه ”الرأس عالي“ من ابنته، بالرغم مـن كونه مـن طبقة العامة. ثم أَخَذَ ”ثيئودوروس“ هذا يتقوَّى نفوذه، ولم يمنعه هذا الزواج من إيقاف تيار آماله في أن يتغلَّب على صهره ويصير ”ملك ملوك الحبشة“.

+ وكان سَفَر القمص داود رئيس دير الأنبا أنطونيوس (البابا كيرلس الرابع فيما بعد) في أيام الرأس ”عالي“ قبل أن يرتقي العرش ثيئودوروس الذي وُلِدَ سنة 1818، وصار تتويجـه مَلِكاً على كل إثيوبيا (الحبشة) في مارس سنة 1855م بيد المطران القبطي، ثم ثَبَّته البابا كيرلس الرابع في سَفَره الثاني بعد أن صار بطريركاً.

التجاء الأحباش (الإثيوبيين) للكنيسة

الإنجليزية لكي يتمكَّنوا من مساعدتهم

في الاستيلاء على دير السلطان:

فقد قام أسقف الكنيسة الإنجليزية في القدس بإرسال الرسالة التالية إلى البابا بطرس الجاولي، ردّاً على كتاب البابا المُرسَل إليه في 7 بابة سنة 1567ش:

+ المجد لله دائماً،

”من كير صموئيل، برحمة الله، أسقف الكنيسة الإنجليزية بمدينة أورشليم وسائر المشرق حالاً“ (خِتْم الكنيسة).

+ غِبَّ (بعد) المُصافحة الأخوية، وإهداء الأشواق الوافرة القلبية بمشاهدة أنواركم الباهرة هنا وفي أورشليم العُليا السمائية التي سبق وَعْدُه الصادق ب‍ها لسائر المؤمنين بكلمته الطاهرة الإلهية، والداعي لترقيم وريقة المودَّة الأخوية هو أولاً لافتقاد عزيز خاطركم العاطر وافتحاص (ربما ”رجاء“) اعتدال المزاج السليم الفاخر. ثم الآن في أَبْرَك وقت وَرَدَت إلينا رسالة ردِّكم البهيَّة رقم 17 بابة من السنة الماضية، تلوتُها مسروراً مُجِدّاً. وحَمَدْتُه - تعالى - بغالي سلامتكم المأثورة، وجميع ما أفَدْتُم ب‍ها عمَّا كان قد بَلَغَكم أولاً من حضرات أولادكم الموقَّرين قسوس هذا الطرف المحترمين عن المقولة التي كانت واقعة إذ ذاك فيما بينهم وبين أولادنا قسوس الأحباش وفقرائهم أيضاً المُقيمين ب‍هذا الطَّرَف (أي الجهة المختصَّة بـ) مفاتيح كنيسة دير السلطان محل إقامتهم، وقد صار معلوم مُخلِّصكم. ويا حبَّذا لو صادف في ورود رسالة أُخوَّتكم هذه المملوءة حبّاً وعذوبةً بوقته، لكان ربما بموجبها قُضي الأَمر بكلِّ سهولة، ورجعوا إلى الائتلاف بالمحبة، الأَمر الذي هو غاية مرغوبنا في استدامة المحبة الأَخويَّة، وفضِّ المشكلات، ونَهْو تلك المفاوضة، لو إنَّ أولادكم قسوس القبط حضروا وعَرَضوا علينا المسألة، لاهتممنا بمصالحهم. إلاَّ أن‍هم بوقته وكَّلوا حضرة إخوتنا... الذي لا يَخْفَى أنَّ الضرر جميعه آتٍ من قِبَلِها... التي نحن خاصةً مجبورون على مراعات‍ها... وأخيه بكلِّ مودَّة. ولكن حيث إنه بذلك الوقت كان المرحوم أخونا بطريرك الأرمن منقولاً لرحمة مولاه، وكير (لَقَب) ”يوهانيس“ البطريرك الجديد لم يحضر إلى كرسيه من جانب الأستانة (عاصمة الدولة العثمانية)، وهم لاحظوا أن يُحِلَّوا المُصالحة بعصا الحُكْم المدني أوفق لهم. فذلك لم يكن فائدة من كل ما رآه ولا من المصروفات السريَّة التي بَلَغَنا أن‍هم صرفوها إلى الأُمم من مال المسيحيين، الذي اتَّصل لأيديهم ليوزِّعوه لطريق المصالحة التي أَشَرْنا إليهم ب‍ها. وصار ذلك مؤقَّتاً عن يد الحُكْم لحضور قدس أخينا البطريرك المحترم.

+ ولَمَّا حضر جناب المُشار إليه هو ذاته، التمس منَّا ذلك طريقاً إنجيلياً. وبنعمة ربِّنا يسوع المسيح ما حَصَل من طرفنا تأخير. وتمَّ الأَمر بكلِّ سهولة، ورجعوا إلى طريق الحب والائتلاف. فلا يكن لقدسكم فكرة من قِبَل ذلك.

+ ومأمول بتقوى أُخُوَّتكم أن تُعرِّفوهم بعد الآن ألاَّ يسلكوا ب‍هوى النفس غير النافع. بل يكون مَسْلكهم في النور، لأننا بنو النور ولسنا بني الظلمة. وكما أننا ما دخلنا إلى العالم بشيء، فلا نستطيع أن نخرج منه بشيء أيضاً؛ بل وملتزمون للوقوف أمام المنبر الإلهي لنُعطي جواباً عن كلِّ قولٍ وفعلٍ. فكيف إنْ سألنا قـائلاً: «كنتُ غريباً... إلخ»؟ الأمـر الذي لا نظنُّه غائباً عـن ذكاء مفهومية أُخُوَّتكم السامية. وإن شاء الله تعالى، بوصوله تكون وَرَدَتْ لأُخُوَّتكم أجوبة الموافقة والسلام، من جهة الديار الحبشية، وتعودون إلى الائتلاف الحقيقي لكلمته الإلهية، كما كنتم قديماً. ونسأل جُودَه تعالى أن يُهيِّئ السلام والاتفاق ويُنير قلوبنا لمعرفة كلامه الإلهي، ويؤهِّلنا ل‍مُلْكِه الدائم في أورشليم العُليا السمائية، ويحفظ وجود أُخُوَّتكم مُوَطَّداً على أساس البيعة الرسولية.

+ هذا، وفيما بعد نؤمل مواصلتنا برسائل إلى مودَّتكم البهيَّة، لنكون مُطمئنين على صحتكم المأثورة، ومُقدِّمين شُكراً لعزَّته الإلهية بسبب أُخُوَّتكم، مع سؤال خاطر من لديكم من الإخوة الأساقفة الموقَّرين والقسوس المحترمين. ومِن هنا جميع أولادنا يدعون سلامتكم ودوام بقائكم في أورشليم.

3 شباط (فبراير) سنة 1851م - الإمضاء (س. أنجل هيروسول)

( (+(

+ وهذا الجواب كُتِبَ في يوم الاثنين 3 فبراير سنة 1851م الموافق أول ربيع الثاني سنة 1267 هجرية / 27 طوبة سنة 1567ش. وكان بعد صدور مضبطة أعضاء مجلس القدس الشريف عقب صدور الحجَّة التركية عن أَخْذ مفتاح الدير من يد مُغتصبيه، وهي كالآتي:

+ تقدَّم تقرير من وكيل واختيارية دير الأرمن بالقدس الشريف لأعتاب دولتلو والي أيالة صيدا حالا باشا حضرتلري. وأُحيل لطرف سعادتلو مُتصرِّف القدس الشريف المحترم، يتضمن أنَّ دير السلطان الكائن باتِّصال القيامة بالقدس الشريف. فالكنيسة التي داخله الكائنة من قديم الأيام، مفاتيحها في يد القبط تحت نظارة بطريق (بطريرك) دولة الأرمن. فهذا الآن، أي مفتاح الكنيسة المذكورة، بملاحظة إبقائه بأيدي الحَبَش، فقد خطفوه الحَبَش المذكورين من يد القبط تغلُّباً، وتوجَّهوا به لطَرَف جناب مطران الإنجليز بـالقدس الشريف، ومُظهرين الاستنكاف مـن وجودهم تحت نظارة الأرمـن، ويسترحم الوكيل والاختيارية المرموقين: إنه حيث إنَّ الحَبَش أَجْروا هذه الحركات غير المرضية، بمعرفة الشَّرْع الشريف، يؤخذ المفتاح المذكور من الحَبَش، ويرتدُّ إلى يد القبط على موجب القديم.

+ فعند ذلك، بناءً على الأمر الصادر من دولتلو الوالي المُشار إليه بإجراء المُعاملة على الوجه القديم، صار عَقْد مجلس بحضور سعادتلو المُتصرِّف باشا، وبحضور الشَّرْع الشريف وأعضاء المجلس ووجوه البَلْدة. وحضر في المجلس المذكور وكيل اختيارية الأرمن وخوارنة الأقباط وحضر الحَبَش أيضاً. وحضر في المجلس تُرجمان مطران الإنجليز الخواجة ”قسطه غرغور“.

+ وعند ذلك قرَّر وكيل الأرمن وادَّعى أنَّ الكنيسة التي داخل دير السلطان الكائن باتِّصال القيامة بالقدس الشريف، فهذه بحسب وجود القبط، يحقُّ لنا وتحت نظارتنا، فمفتاحها من القديم بيد رهابين القبط. وبما إنَّ الحَبَش المذكورين أيضاً هم من جملة يمقاننا (ربما ”مَن هم في ذمتنا“) وتحت نظارتنا، ففي الأوقات ال‍مُعيَّنة والأزمنة المعلومة، فبالتنبيه من طرفنا كان القبط يُمكِّنون المذكورين من إجراء أُمنيَّتهم بالكنيسة المذكورة، وبمعرفة القبط أيضاً كان ينصرف الزيت والشمع العسلي بالكنيسة المرقومة، وبالجملة فقراء الحَبَش وعجزهم (أي العَجَزَة منهم) في مـدَّة إقامتهم بالقدس، مأكولات‍هم ومشروبات‍هم تُعطَى من طرفنا على سبيل الإحسان، وهي لوازمات موتاهم أيضاً، في هذه الأثناء حيث توارد أنفار حَبَش بكثرة من السنين السابقة. فنظراً لأفكارهم غير الصحيحة، أخذوا مفتاح الكنيسة المذكورة تغلُّباً (أي عُنوَةً) وخبُّوه (أي أخفوه)، وهذا شيء مُغاير للشَّرْع الشريف، ومنافٍ للتعامُل القديم. وأسترحِم أَخْذ المفتاح من الحَبَش وتسليمه لِمَن كان بيدهم بالسابق (أي الأقباط).

+ فعند ذلك، سار السؤال في المجلس من ميخائيل الذي هو وكيل من طَرَف الأرمن من كَوْن‍هم تحت نظارة الأرمن وإدارة لوازمات‍هم هي من طرف الأرمن. وإنما أجاب بأنه من حيث إنَّ الكنيسة هي منسوبة لنا من قديم الأيام، كما استدْلَلْنا من تواريخنا؛ فلهذا السبب أَخَذت المفتاح المذكور. فسُئلَ منه: هل يوجد بين الحَبَش مستندات على قِدَميَّة وجود المفتاح بيدهم، أو عندهم إثبات على ذلك؟ فأجاب بأنه لا توجد مستندات، ولا عندهم إثبات على هذه الدعوى (أي الادِّعاء).

+ فلذلك، حيث ما وُجِدَ مستندات ولا إثبات مع الحَبَش، فصار السؤال من أعضاء المجلس ووجوه البلدة والاختيارية الحاضرين في المجلس بأنه: من قديم ماذا تعلمون؟ مفتاح هذه الكنيسة في يد مَن هو؟ وإلى مَن انتسابه؟ فأجابوا جميعاً: إنَّ الذي نعلمه أنَّ مفتاح الكنيسة المرقومة هو من القديم في يد القبط، وهم تحت نظارة الأرمن.

+ فعند ذلك صار القرار في المجلس، بحسب الثبوت الشرعي، بأنْ يُعطَى مفتاح الكنيسة المذكورة بمعرفة وكيل الأرمن إلى يد القبط، كما كان من القديم إلى الآن إيجاباً للتعامُل القديم، وتطبيقاً للشرع القويم، وإنفاذاً للأَمر الكريم، وقد تحرَّر ب‍هذا الخصوص إعلامٌ شرعيٌّ حسب الواقع.

وبناءً على ذلك:

تحرَّرتْ هذه المضبطة من مجلس القدس الشريف لتكون بيد وكيل الأرمن المومأ إليه(2).

(أ.هـ)

+ وعلى ذلك، صدرت الحُجَّة الرسمية باللغة التركية في أوائل شهر ربيع الثاني سنة 1267 هجرية، وهي لا تخرج عمَّا تَضَمَّنته المضبطة المتقدِّم ذِكْرها.

+ وقـد تداخَل قنصل الإنجليز على الأَمـر، مُساعِداً الأحباش للاستيلاء على ما ليس مـن حقوقهم.

ويظهر أنَّ الأحباش قد انغشُّوا بالمواعيد الكاذبة، فأرادوا أن يأخذوا دير السلطان لتسليمه إلى مَن يُدافع عنهم بحجَّة أن‍هم فَقَدَوا كل الأحباش الموجودين في أورشليم أيام الطاعون الذي حدث في سنة 1838م، وأنَّ التُّرك حرقوا كل كُتبهم وأوراقهم بما فيها مستندات‍هم الرسمية بسبب التطهير من الوباء. ولكن هذه المؤامرة قد باءت بالفشل، وانجَلَتْ القضية على ثبوت ملكية دير السلطان للأقباط(3) .

(يتبع)

(1) عن: ”دائرة المعارف البستانية“، جزء 6، ص 676؛ عن: ”سلسلة تاريخ البابوات“، كامل صالح نخلة، الحلقة الخامسة، ص 155-156.
(2) عن: ”تاريخ البابا كيرلس الرابع“، ص 64-68؛ عن نفس المرجع السابق ، ص 155-161.
(3) عن: ”سلسلة تاريخ البابوات بطاركة الكرسي الإسكندري“، تأليف: كامل صالح نخلة، الحلقة الخامسة، مطبعة دير السريان، ص 160-161.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis