مفاهيم كتابية



حضور الله
- 2 -

+ اختبار حضور الله هو عماد حياة المؤمنين وسندهم في جهادهم، وفي احتمال تجارب الحياة وآلامها. نبدأ إدراك حضور الله وقت العبادة؛ ولكن بعد تأصُّل الحياة مع الله، يسود الشعور بحضوره في كلِّ زمان ومكان وفي كلِّ الخليقة، في كلِّ محتاج، وفي كلِّ مَن يمدُّ لنا يد العَون.

+ لا يختبر حضور الله النفعيون الذين لا يأتون إلى الله إلاَّ وقت الحاجة، والعابدون بالشفاه لا بالقلب، وأصحاب خدمة السيِّدَيْن العارجون بين الفرقتين. هـؤلاء، حسب الظاهر، هم من أهل بيت الله، ولكنهم واقع الأمر غرباء عن الله.

كيف نسلك في حضور الله؟

بالطبع فإنَّ الذين يسلكون حسناً في حضور الله هم الذين يختبرون حضوره بالفعل، فتملأهم المخافة والخشوع والفرح.

ويمكن القول إنَّ أكثر الناس يُدركون حضور الله في الكنيسة، تُساندهم في ذلك رؤيـا الصليب والأيقونـات والأنوار، وتملأ أسماعهم الصلوات والألحان. مع هذا، ففي الاعتياد على هذا الجو المُحيط ما يجعله مع الوقت يفقد تأثيره.

الاختبـار الحقيقي، هـو الإحسـاس الدائـم بحضور الله بغير حاجـة إلى إشباع الحواجـز الجسدية.

وآباء البريَّة الأوائل الذين تركوا المدينة إلى البريَّة الخالية، عاشوا مـع الله وملائكته، وكان اختبارهم صادقاً، وقد انفصلوا عن الكلِّ والتصقوا بالواحد.

+ عن مخافة الله:

بعد أن رأى يعقوب الله في حُلْمٍ على رأس سُلَّمٍ ممتدٍّ بين السماء والأرض، استيقظ من نومه وقال: «ما أرهب هـذا المكان. ما هـذا إلاَّ بيت الله، وهذا باب السماء» (تك 28: 17). فأُولَى علامـات الشعور بحضـور الله، هي الرهبـة والمخافة والخشوع تعبيراً عن البَوْن الشاسع بين عظمـة الله وضآلـة الإنسان وقدراتـه. وهـو ما اختبره أبونا إبراهيم وهو واقفٌ أمام الله عندما قـال: «إني شرعتُ أُكلِّم المَولَى وأنـا ترابٌ ورماد» (تك 18: 27)، وهو ما يختبره المُصلِّي الشاعر بوقوفـه أمام الله من الاستغراق وحَصْر الفكـر والهـدوء والإنصات والصمت والتأمُّـل والسجود، مع الصلاة والهذيذ بكلِّ فرح.

والخشوع والمخافـة غير الخوف الذي هـو غريـزة طبيعيـة لحفظ النفس مـن الأخطـار والأعداء. ولكن أمام الله تكون المهابة والتوقير في أعلى درجـاتهما، ومكتوبٌ: «بـدء الحكمة مخافة الرب» (أم 9: 10). فالمحبة تُجرِّد النفس من الخوف.

وحتى إنْ ذُكِـرَ ”الخوف“ في آياتٍ كثيرة، ولكن ليس المقصود الرُّعب والفزع لعدم الإيمان أو بـالتغرُّب والبُعْد عـن الله. والكتاب يقول: «لا خوف في المحبة، بـل المحبة الكاملة تَطْرح (تطرد) الخوف إلى خارج... أمَّا مَن خاف فلم يتكمَّل في المحبة» (1يو 4: 18).

وذُكِرَ عن القديس أنطونيوس أنه قال لبعض تلاميذه من الرهبان: ”أنا لا أخاف الله“. فدُهِشوا لهذا القول من أبيهم الروحي، وسألوه: ”كيف“؟ فقال لهم: ”لأني أُحب الله. والمحبة تطرد الخوف إلى خارج“.

ولكـن أنْ لا نخاف الله لأننـا نُحبُّه، لا ينفي الخضوع والخشوع في محضره. فغير ذلك هـو تجاوُز لا يليق بأولاد الله. وإذا كُنَّا نهاب الكبار والرؤساء احتراماً وتأدُّباً، فالله بالأَولَى. وفي مَثَل ”القاضي الظالم“، وصفه الرب أنـه: «لا يخاف الله، ولا يهاب إنساناً» (لو 18: 42) تعبيراً عن تعاليه وعدم اعتداده بالآخرين.

+ مع الله في المخدع:

السلوك بالخشوع والمخافة في حضور الله، يبدأ في المخدع حيث لا يوجد آخرون نحرص أن نبدو أمامهم أتقياء، وهو ما يحدث من الكثيرين، إذ ينصرف جانب مـن وعيهم إلى الناس مـن حولهم حتى ولو لم يقصدوا. والربُّ حذَّرنا من أن نُقدِّم صلاتنا أمام الناس لكي نكتسب رضاهم، وقال لكـلِّ مؤمـن: «وأمَّـا أنت فمتى صلَّيتَ، فـادخُلْ مخدعك وأَغلق بابـك، وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء» (مت 6: 6).

فمستوانـا الروحي الحقيقي تعكسه صلواتنـا الفردية، التي لا يهمُّ طولها بقدر عُمْقها الروحي وصِدْقها وما يملأها من محبة الله.

+ مع الله في الكنيسة:

الذين يختبرون حضور الله في المخدع، يسهل عليهم اختبـار حضـوره في اجتماعـات الكنيسة كـأنهم يقفون وحدهم أمام الله ولا يَرَوْنَ أحداً غيره. والذهن يُشارِك الروح في الصلوات بغير انقطاع. ووقت القداس تظلُّ عيونهم مُثبَّتة على الهيكـل، أو مُغمضـة سـابحة في السماويَّـات، ويبلغون قمة انحصارهم في الله ساعة التناول كأنهم في علِّيَّة صهيون، والرب يُقدِّم لهم جسده ودمه كما لتلاميذه.

وفي الذهن كلمات الكتاب: «أمَّا أنـا فبكثرة رحمتك أدخُـل بيتك. أسجد في هيكل قُدْسـك بخوفـك» (مز 5: 7)، «ببيتك تليق القداسـة، يـا رب، إلى طـول الأيام» (مـز 93: 5). أو ما جاء في قِطَع الأجبية (صلاة الساعة الثالثة): ”إذا ما وقفنا في هيكلك المُقدَّس، نُحسَب كالقيام في السماء“.

والكنيسة، من جانبها، توالي تنبيه المؤمنين خـلال القدَّاس أن يرفعوا قلوبهم وأذهانهم إلى فوق، وأن يمتلئوا بمخافة الله: ”قفوا بمخافة الله وانصتوا لسـماع الإنجيـل المقدَّس“؛ ”فلنقف حسناً. لنقف بتقوى. نقف بسلام. نقف باتصال. نقف بخوف الله ورعدة وخشوع“؛ ”اسجدوا لله بخوفٍ ورعـدة“، ”أحنـوا رؤوسكم للـرب“، فـيردُّون: ”نسبحك. نباركك. نشكرك، يـا رب، ونتضرَّع إليك يا إلهنا“؛ ”نسجد لك أيها المسيح إلهنا مع أبيك الصالح والروح القدس“.

ومـع الشعور الجارف بحضور الله، وهـم ينطقون هـذه الكلمات بفهمٍ، يملأهـم الخشوع والمهابـة، فيكون سجودهم بالروح بحسب قـول الرب: «الله روح. والذين يسجدون له، فبالروح والحـق ينبغي أن يسجدوا» (يو 4: 24)، فهُم ساجدون جسداً وقلباً وروحاً.

وخُـدَّام الكنيسة مـن الكهنة والشمامسة هـم المثـال في الروحانيـة والخشوع والحفاظ على السلام. ويلزم أن تنضبط حركتهم، وأن يؤدّوا كل الطقوس والصلوات والألحـان بفَهْمٍ و«بلياقـة وبحسب ترتيب» (1كو 14: 40).

+ والخشوع الذي يُلازِم الصلوات الليتورجية مطلـوبٌ أيضـاً في صلـوات سائـر الأسرار (المعمودية، ومسحة المرضى، والزيجة، والرسامات الكهنوتية)، فتتجرَّد المُمارسات كلها من الاستخفاف والعَجَلَة أو الهَرَج كأننا في حفلٍ أو وليمة.

وعند الوقوف أمام أب الاعتراف، فالتائب إذ يُوقِـن أنـه أمام الله الذي يغفر الخطايا، يقف خـاشعاً متأسِّفاً على خطيتـه (متمثِّلاً بـالعشَّار والمرأة الخاطئة) دون أن يجتهد في تخفيفها أو تبريرها (كما حاول آدم وقايين)، لأن «كل شيء عُريانٌ ومكشوفٌ لعينَي ذلك الذي معه أَمرُنا» (عب 4: 13). فذبـائح الله المقبولة «هي روح مُنكسرة» (مز 51: 17).

+ مع الله عند قراءة الكلمة:

عند قراءة الكلمة، نحن نكون في حضرة الله. يستحق الأمر، إذاً، أن نستجمع كل فكرنا وتركيزنا وجدِّيتنا، وأن نقرأ بتمهُّل وفَهم وخشوع. وإذا كانت القـراءة في اجتماعٍ للمـؤمنين، يلـزم الهـدوء والإنصات والمخافـة، ولا يليق الشرود أو المرح الذي يُفتِّر الروح. فنحن في لقاءٍ مع الله في كلمته التي يقول عنها الكتاب إنها «حيّةٌ وفعَّالةٌ وأَمضى من كـلِّ سيفٍ ذي حَدَّيْن، وخارقـةٌ إلى مَفْرَق النفس والـروح والمفاصـل والمِخَـاخ، ومُمَيِّزة أفكار القلب ونِيَّاته» (عب 4: 12).

+ مشاهد سلبية:

بالطبع لا تخلو حياتنا الخاصة والكنسية من مثالب تكشف أننا بتصرُّفاتنا لا نعي حضور الله، ونذكر بعضها كي ننتبه حتى لا يغلبنا الحرف [«الذي يقتل» (2كو 3: 6)]، وشكلية العبادة:

+ فقد يقـود التعوُّد والتكرار، خلال الصلاة الفرديـة أو القدَّاس، أن تفقـد الكلمـات معانيـها وتأثيرهـا (حتى الصـلاة الربِّـيَّة، وطلبات مثل كيرياليسون - يا رب ارحم - التي تتكرَّر كثيراً).

وقد يغلب الطقس على الروح، ويُتقَن اللحن بغير فَهمٍ لكلماتـه (خاصة لو كـانت بالقبطية أو اليونانية). وقد تؤدَّى الصلوات والتسابيح بعَجَلَةٍ تحت ضغط الالتزام بالوقت، وتصير العبادة آلية بغير روح، وتُحوَّل كـل الأفعال الروحيـة إلى نشاطاتٍ جسديـة، وهنـا يقول مُعلِّمنا يعقوب الرسول: «فـلا يَظُنَّ ذلك الإنسان أنه ينال شيئاً من عند الرب» (يع 1: 7).

ويقول القديس بولس: «أُصلِّي بالروح، وأُصلِّي بالذهـن أيضاً. أُرتِّـل بالروح، وأُرتِّـل بالذهن أيضاً» (1كو 14: 15). فبغير مُتابعة الذهن في الصلاة والتسبيح، وتوفُّر الحُب والخشوع؛ يتحوَّل الأَمر إلى مُجرَّد أصواتٍ في الفراغ [«... نُحاساً يَطِنُّ أو صَنْجاً يرنُّ» (1كو 13: 1)]. ففي كـلِّ جوانب العبادة، نحتاج أن نتوسَّل إلى الروح كي يهبنا أن نسلك كما يليق في حضرة الله.

+ وقـد تتراجـع المخافـة لتسود الجسارة والتسيُّب، فيخـرج الشمامسـة ويـدخلون بغير مُقتَضٍ؛ بل وأثناء أقدس لحظات القدَّاس، ودون رادعٍ. ويجيء الناس إلى الكنيسة ويُغادرون في أيِّ وقتٍ(1) كأنـه طريـقٌ عـام. وعند النداء بالسجود، يستجيب أكثر الناس بالجلوس للراحـة دون أن يُخالجهم أدنى شعور بالذنب. ويتقدَّمون للتناول بغير تهيُّب، ودون استعدادٍ بالتوبة. ويبلغ الهَرَج مداه في ليالي الأعياد، حيث يغيب النظام مـع الازدحام(2)، ويتحـوَّل القدَّاس إلى مُناسبة اجتماعيـة، يسهُل خـلالها الكـلام والضحـك والتحيَّات، ويخفُت فيها صوت الصلاة.

+ حَدِّث ولا حرج عن صلوات الإكليل في مُعظمها. فأكثر المدعوِّين لم يأتوا للمشاركة في الصلاة في هذا السرِّ الكنسي، وليطلبوا من أجل هـذه الكنيسة الصغيرة الجديـدة؛ وإنما لحضور المناسبة، وتهنئـة العروسَيْن، ولقاء الأقـارب والأصدقاء، وتقديم الهدايا(3).

وأقل القليل، على كـلِّ حالٍ، مَـن يرفعون قلوبهم، ويشعرون بحضور المسيح في مثل هذه المناسبات التي يغلب فيها التحرُّر مـن القيود، ويُنتَهَك الخشوع واحترام المقادس.

الفرح الاجتماعي المُلازِم للمناسبة مقبولٌ في حدودٍ، ولكـن لا يليق أن يُقحَم الهَـزْل ضمن الصلوات وطقوس السر كما يفعل البعض، خاصةً عند توجيه الوصية للعروسَيْن.

+ بعض الكنائس، في محاولة للحفاظ على الحدِّ الأدنى من احترام بيت الله، تُلزِم العروس والمدعوِّيـن بالحشمة. وهناك مَـن يُوزِّعـون نصوص الصلوات والقراءات في كُتيِّب صغير، كي يُتابع المدعوُّون الصلاة ولا ينشغلون عنها.

+ هـذا لا يعني أنَّ الخشوع يُلازمه التجهُّم والجمود، ولا يُسمَح بـالفرح والبهجـة والمرح البريء؛ بل إنَّ المرح - في أساسه - نعمةٌ، فهو يُعبِّر عـن التفاؤل والرجاء، ويُزيل الجفاء بين الأزواج وبـين الأصدقـاء، ويضبط الغضب، ويُيسِّر الاعتذار والتسامُح والغفران.

المهم أَلاَّ نتحرَّر مـن الالتزام في الكلمـة والتصرُّف في كلِّ الظروف، سواء كانت جلسة عائلية، أو بين أصدقاء، أو رحلة، أو سَفَر، أو عُرْس، بغير تسيُّب أو انحـلال. وليكُن قـانوننا: ”افرحوا ولا تُخطئوا“ [على مثال: «اغضبوا ولا تُخطئوا» (أف 4: 26)].

ولنُلاحِظ أنَّ المرح الزائـد والضحك الكثير، يُفتِّر الحياة، ويُصعِّب الجدِّيـة والخشوع، وعلى الأخص في أوقات الصلوات الطقسية(4).

+ بحسب وَعْد المسيح: ”هو معنا كل الأيام“، ليس فقط في مخـدع الصلاة والكنيسـة، ولكنه شريك الحياة الدائم في كـلِّ مكان: فهـو ربُّ العائلة، ضيفنا على المائـدة، ورفيقنا في العمل والطريق وكل أنشطتنا اليومية الكبيرة والصغيرة.

ونحن نلتقيه في كلِّ خليقته: في كلِّ مُحتاج ومُتألِّـم ومُضطهَد. وهو رأس الكنيسـة، وأمين الخدمة، ومُخلِّص الجميع.

فلا نسمح بدوَّامة الحياة أو آلية العبادة أن تُخفي عنَّا حضوره؛ بل لنختبر عمله فينا مع كلِّ صلاة، وكل قراءة أو سماع للكلمة، وكل اشتراك في مائدة الرب، وكل احتفال بأعياده، وكل عُرْس ومعمودية ورسامة، وكـل عمل، وكـل تجربة وضيقة.

فحضوره الدائم، هـو سـرُّ قداستنا وتقوانا، ودوام توبتنا، ونَبْع قوَّتنا، وباعث فرحنا، ومُحرِّك أشواقنا نحو الوطن الأبدي.

دكتور جميل نجيب سليمان

(1) في القـرون الأُولى، كـانت الكنيسة بعد صلاة الصُّلْح، إذ يخرج الموعوظون، تُغلق أبواب‍ها، فلا يدخل أو يخرج أحدٌ إلاَّ بعد أن ينتهي القدَّاس.
(2) عدم الخشوع بالفعل يعوق الصلاة التي تتطلَّب الهدوء وحدّاً أدنى من المساحة لكلِّ شخص كي يُصلِّي. والكنائس الصغيرة، مهما كان الازدحام، قليلة العدد (مثل كنائس مصر القديمة)، تُتيح اقتراباً أكثر من الله، وسلوكاً يمتلئ بالخشوع.
(3) ثم حضور الحفل الصاخب فيما بعد، حيث تتوارى الحشمة أكثر، ويُـباح ما لا يليق.
(4) إنَّ القول:”ساعة لقلبك، وساعة لربك“، ليس هو قانون المسيحي. فكلُّ الساعات لله، والله حاضرٌ كل الحياة: وقت الصلاة، ووقت العمل، ووقت المرح.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis