الافتتاحية



الطريق إلى ملكوت الله
- 23 -

«وأنتم، مَنْ تقولون إني أنا؟»(1)

إنجيل يوم الثلاثاء من الأسبوع السادس من الصوم المقدس

المزمـور: «1كَمَـا يَشْتَاقُ الإِيَّـلُ إِلَى جَـدَاوِلِ الْمِيَاهِ، هكَـذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْـكَ يَـا اَللهُ» (مـز 42: 1).

الإنجيل: «18وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي عَلَى انْفِرَادٍ كَانَ التَّلاَمِيذُ مَعَهُ. فَسَأَلَهُمْ قَائِلاً: ”مَنْ تَقُولُ الْجُمُوعُ إِنِّي أَنَا؟“. 19فَأَجَابُوا وَقَالوا: ”يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ. وآخَرُونَ إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ: إِنَّ نَبِيًّا مِـنَ الْقُدَمَاءِ قَامَ“. 20فَقَالَ لَهُمْ: ”وَأَنْتُمْ، مَـنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَـا؟“ فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَـالَ: ”مَسِيحُ اللهِ!“. 21فَانْتَهَرَهُمْ وَأَوْصَى أَنْ لاَ يَقُولُوا ذلِكَ لأَحَدٍ، 22قَائِلاً: ”إِنَّـهُ يَنْبَغِي أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيراً، وَيُرْفَضُ مِـنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ“» (لو 9: 18-22).

للأب متى المسكين

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

إنجيل القدَّاس:

إنجيل قدَّاس هذا الصباح هو استفسار: «مَنْ تَقُولُ الْجُمُوعُ إِنِّي أَنَا؟». فبعد أن أَكمل الرب يسوع تعاليمَ كثيرة ومعجزاتٍ هذا عددها، أراد أن يتعرَّف على إيمان الشعب بشخصه، وأراد أيضاً أن يُقيِّم إيمان تلاميذه ويُوجِّه أنظارهم، لأنه يَعْلَم تماماً ما في الإنسان.

الأناجيل الثلاثة تتَّفق في التقرير أن‍هم يقولون: ”يوحنا المعمدان قام من الموت“، أو إنه ”إيليا“، أو ”أحد الأنبياء القدامى بُعِثَ حيّاً“؛ ولكن إنجيل القديس متى يُزيد أنـه: ”إرميا النبي“. وسنرى لماذا تقول الجموع عن الرب يسوع إنه أحد هؤلاء؟

أولاً: يوحنا المعمدان:

في الحقيقة أول مَن قال هذا هو هيرودس الملك، لأنه صنع بيوحنا المعمدان شرّاً وقتله ظُلماً. فابتدأ يشعر بما اقترفه مـن جُرْمٍ. فلما سمع هيرودس عـن الرب يسوع، قال عنه: «إِنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانَ قَامَ مِـنَ الأَمْوَاتِ وَلِذلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّاتُ» (مر 6: 14)، ولذلك قام لينتقم منه! فشاع هذا القول بين الشعب.

ثانياً: إيليا النبي:

تذكرون أنَّ إيليا النبي صنع معجزةً ذات اعتبارٍ كبير مع أرملة صرفة صيدون: «وَكَانَ لَهُ (لإيليا النبي) كَلاَمُ الرَّبِّ قَائِلاً: ”قُمِ اذْهَبْ إِلَى صِرْفَةَ الَّتِي لِصِيدُونَ وَأَقِمْ هُنَاكَ. هُوَذَا قَدْ أَمَرْتُ هُنَاكَ امْـرَأَةً أَرْمَلَةً أَنْ تَعُولَكَ“. فَقَـامَ وَذَهَبَ إِلَى صِرْفَةَ. وَجَاءَ إِلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، وَإِذَا بِامْرَأَةٍ أَرْمَلَةٍ هُنَاكَ تَقُشُّ عِيدَاناً، فَنَادَاهَا وَقَـالَ: ”هَاتِي لِي قَلِيلَ مَاءٍ فِي إِنَـاءٍ فَأَشْرَبَ“. وَفِيمَا هِيَ ذَاهِبَـةٌ لِتَأْتِيَ بِهِ، نَادَاهَا وَقَالَ: ”هَاتِي لِي كِسْرَةَ خُبْزٍ فِي يَـدِكِ“. فَقَالَتْ: ”حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ إِلهُكَ، إِنَّهُ لَيْسَتْ عِنْدِي كَعْكَةٌ، وَلكِنْ مِلْءُ كَفٍّ مِنَ الدَّقِيقِ فِي الْكُوَّارِ، وَقَلِيلٌ مِـنَ الزَّيْتِ فِي الْكُوزِ، وَهَأَنَـذَا أَقُشُّ عُودَيْنِ لآتِيَ وَأَعْمَلَهُ لِي وَلاِبْنِي لِنَأْكُلَهُ ثُمَّ نَمُوتُ“. فَقَـالَ لَهَا إِيلِيَّا: ”لاَ تَخَافِي، ادْخُلِي وَاعْمَلِي كَقَوْلِكِ، وَلكِنِ اعْمَلِي لِي مِنْهَا كَعْكَةً صَغِيرَةً أَوَّلاً وَاخْرُجِي بِهَا إِلَيَّ، ثُمَّ اعْمَلِي لَكِ وَلاِبْنِكِ أَخِيراً. لأَنَّـهُ هكَذَا قَـالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: إِنَّ كُـوَّارَ الدَّقِيقِ لاَ يَفْرُغُ، وَكُوزَ الزَّيْتِ لاَ يَنْقُصُ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يُعْطِي الرَّبُّ مَطَراً عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ“. فَذَهَبَتْ وَفَعَلَتْ حَسَبَ قَوْلِ إِيلِيَّا، وَأَكَلَتْ هِيَ وَهُوَ وَبَيْتُهَا أَيَّاماً. كُوَّارُ الدَّقِيقِ لَمْ يَفْرُغْ، وَكُوزُ الزَّيْتِ لَمْ يَنْقُصْ، حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ عَنْ يَدِ إِيلِيَّا» (1مل 17: 8-16).

فعندما صنع الرب يسوع معجزة الخمس الخبزات والسمكتين التي أشبعت الخمسة آلاف ما عدا النساء والأطفال، تذكَّرت الجموع معجزة إيليا النبي مع الأرملة، ولذلك قالوا عن الرب يسوع إنه ”إيليا“!

ثالثاً: إرميا النبي:

معروفٌ في التقليد اليهودي، في ذاك الوقت، أنَّ إرميا النبي هو الذي خبَّأ تابوت العهد ومذبح البخور القديم، خبَّأهما في شرق الأردن في جبل نبو الذي دُفِنَ فيه موسى النبي. ولذلك رَبَطَ التقليد اليهودي ما بين العصر الماسيَّاني ومجيء إرميا النبي، لأن إرميا هو الذي سيكشف عن هذه المذَّخرات القديمة الثمينة، وحينئذ أيضاً - حسب نفس التقليد - سيرجع مجد إسرائيل القديم ويعود عزُّهم إليهم.

ولكن الشعب عَمِيَت عيون‍هم وانطمست أذهان‍هم وأصاب الصمم آذان‍هم، فلم يستطيعوا أن يُميِّزوا ما بين صوت الأنبياء وصوت الرب، ما بين نور الشمس وضوء مصباح!

«وأنتم، مَن تقولون إني أنا»؟

وعندما سأل الرب يسوع تلاميذه: «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟»، أجاب بطرس: «مَسِيحُ اللهِ!». ويزيد إنجيل القديس متى على ما قاله بطرس، أنه قال: «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ» (مت 16: 16). وحتى إذا أضفنا كلام بطرس الذي وَرَدَ في إنجيل القديس متى: ”ابن الله الحي“، فهذا الكلام ليس من تفكير بطرس الرسول، وإنما كما قال له الرب: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ» (مت 16: 17). كما أنه من المعروف في التقليد اليهودي أنَّ المسيَّا ال‍مُنتَظَر سيُدعى: ”ابن الله“، وكان هذا على مستوى الاسم فقط، ولكن دون إدراك حقيقي منهم لمعنى ”ابن الله“!

لذلك عندما أجاب بطرس الرسول: إنَّ الرب هو «مَسِيحُ اللهِ»، انتهر الرب يسوع تلاميذه ون‍هاهم «أَنْ لاَ يَقُولُوا ذلِكَ لأَحَدٍ»، قائلاً: «إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيراً، وَيُرْفَضُ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ».

لقد كان مفهوم المسيَّا عند التلاميذ، هو نفسه المفهوم السائد عند بقية اليهود، أنه ”مسيَّا السياسة“، الملك الآتي العظيم الذي سيُعيد المجد والسلطان لإسرائيل، والذي سيجعل اليهود يطأون بأرجلهم بقية الأُمم. هذا هو مفهوم ”المسيَّا“ في نظر التلاميذ واليهود.

ولا ننسى كيف تشاجر التلاميذ فيما بينهم: ”مَن هو الأعظم“؟! فلماذا تشاجر التلاميذ في ذلك الوقت وهم في هذه الحالة من الفاقة والعَوَز؟ هم يتعاركون على ما سيأتي به المسيَّا فيما بعد، عندما يُعلِن مُلكه - السياسي في نظرهم - ويبتدئ يملك على إسرائيل، فمَن سيكون عن يمينه، ومَن سيكون عن يساره، في مُلْكه؟! هنا بدأ الرب يسوع يُصحِّح هذا المفهوم الخاطئ الذي ترسَّب في أذهان التلاميذ، بل وجميع اليهود: فالمسيح ليس ”مسيَّا السياسة“، بل هـو ”مسيَّا الصليب“. ولذلك قال لهم: «إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيراً، وَيُرْفَضُ... وَيُقْتَلُ...».

فإذا كان المسيح سيُرفض «مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ»، ويتعرَّض للآلام والمهانة والفضيحة والمذلَّة، فهل هـذا هو ”المسيَّا“ الذي رسموا صورته في مُخيلتهم، أي ”مسيَّا السياسة“، الملك الأرضي! وإذا كان ”سيُقتل“، فأيُّ مسيَّا هذا؟ هم يعلمون أن المسيَّا سيبقى إلى الأبد، ولم يضعوا في اعتبارهم قط أنه ”سيُقتل“. فإذا كان المسيَّا سيتعرَّض للآلام والرفض، وفي ن‍هاية المطاف ”سيُقتل“، فـ ”مَن تقولون إني أنا“؟ وماذا نقول نحن عنه؟

هنـا تحيَّرتُ كثيراً في نفسي، وبكيتُ كثيراً، وقمـتُ لأُصلِّي، لكي يفتح الـرب ذهني ويُساعدني لكي ينطق لساني بحقيقة الرب ولاهوتـه. وابتدأتُ أتصوَّركم أمامي، آخُذ منكم وأُعطيكم، وابتدأتُ أنظر بعيونكم وأُفكِّر بوعيكم، وأتكلَّم بكلامكم، وقلتُ له:

يا ربنا يسوع المسيح:

+ أنت أعلنتَ لنا الله في ذاتك، فأنت هو الله المنظور والمسموع لنا.

+ أنت ابن الله ونحن تحقَّقنا من ذلك، لأن كل صفات الله التي سمعناها بسمع الأُذن، رأيناها فيك.

+ وكل ما كانت البشرية تشتهي أن تعرفه عن طبيعة الله، أعلنته لنا في ذاتك.

+ كُنَّا نتحرَّق شوقاً بين أنفسنا أن نعرف ما هي أفكار الله عنَّا، عن كل إنسانٍ في وضعه، سواء أكان مريضاً أو متألِّماً أو مظلوماً أو خاطئاً؛ عرفنا هذه الأفكار ولمسناها في كلامك مع السامرية، والكنعانية، والأطفال الصغار الذين أخذت‍هم في حضنك ووضعتَ يدك الطاهرة على رؤوسهم؛ وكذلك لمسنا عطفك وحنانك الفائض على الأبرص والمشلول والأصم والأعمى، ففرحنا بالله إنْ كان الله هو أنت!

+ كل إنسان منَّا يسأل: ما هو شعور الله الخاص من جهة إنسانٍ مولود أعمى؟ فعرفنا ولمسنا شعور الله في كلمات حبِّك ولمسات يدك (على عينَي الأعمى)!

+ كُنَّا نسأل - في خجلٍ حَذِر كخجل الأطفال - هل لك سلطان على هذه الرياح العاتية، وأمواج البحر الهائجة؟ فلما انتهرتَ الرياح وقلتَ للبحر: ”اسكُتْ، ابْكَمْ“ بكلمة سلطانك، فهَدَأَتْ الرياح وصمت البحر؛ ففرحنا بسلطان الله المنحاز ل‍جُبلتنا فيك!

+ كُنَّا نسأل: هل الله يعتني بإنسانٍ تائه في البريَّة، جائعاً عطشاناً؟ فلما أشبعتَ الجموع في البريَّة من خبزات الشعير الخمس والسمكتين الصغيرتين، وأَكَلَت الجموع وفاض عنها؛ وثقنا بحنان الله في حنانك، وتمثَّلتْ في مشيئتك كل مشيئة الله من نحونا!

+ كُنَّا نسأل: هل موازين الله كموازين البشر؟ وهل الخاطئ المنبوذ عند الناس، يكون كذلك عند الله؟ فلما قُلتَ للزانية: ”أنا لا أدينك، اذهبي بسلام“، تأكَّدنا أنك أنت هو الله ولستَ إنساناً عادياً مثلنا، وإلاَّ كنتَ قد حكمتَ عليها مثل حُكْم كل إنسان. أنت ترى ما لا نراه نحن، وتحكُم بما يفوق أحكامنا، ففرحنا أنَّ لنا عند الله رحمة غير موجودة عند بني جلدتنا!

+ سلطان الموت علينا كان يُنازِع سُلطان الله في إيماننا، وكان يُرعبنا! فلما أقمتَ الميت من القبر بعد أن أَنْتَن؛ عزَّزتَ إيماننا بسلطان الله، وآمنَّا أنه هو سلطانك أنت، فتراجَع الموت بسلطانه من قلوبنا!

ولكـن:

+ إن كان بعد أن أَخْلَيْتَ ذاتك من مجد لاهوتك، قد عجزنا أن نُلاحق صفات الله فيك، وهي كثيرة وواضحة: في الحب والحنان والوداعة والاتضاع، بل والقوة والسلطان والمعرفة الفاحصة لِمَا وراء الزمان، وما خَفِيَ في أعماق الإنسان؛ فماذا نحن عاملون إنْ أردنا أن نَصفك قبل أن تُخلي ذاتك من مجد لاهوتك! أو بعد أن أكملتَ رسالة تجسُّدك من أجلنا وجلستَ على عرش مجدك؟

+ شيءٌ واحد يتراءى أمامنا، عن يقين، إنْ كان الله الذي لم يَرَه أحدٌ قط مثلك، فهو إلهٌ صالح يجدر بنا أن نحبَّه ونعبده فيك، من كل الفكر والقلب والنفس والقدرة.

+ وإن كان الله هو وحده الذي له أن يغفر خطايا العالم كله ويمسح الذنوب والآثام عن بني الإنسان، ويرفعها بكل ثِقَلها من القلب ومن الضمير، بأن يدفع ثمنها بكل غرامات‍ها الفادحة، بل ويغرس عِوَضاً عنها القداسة والكمال؛ فالذي عملتَه يُثبت أنك أنت أنت هو الله!

ياسيِّدي يسوع المسيح:

+ أنت وحدك الذي قدَّمتَ، بذاتك، أعظم تعبير عن الله! وحملتَ أصدق وأكمل صفاته، وعملتَ أَجلَّ أعماله، ومارستَ حبَّه من نحونا، وأكمَلْتَ سلطانه.

+ قولٌ واحد وأخير أقوله لك، يا سيِّدي يسوع المسيح، نحن وجدنا الله فيك. وأنت وحدك الجدير أن تمتلك، ليس قلبنا نحن فقط، بل قلب العالم كله!

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.


(1) هذه العظة هي عن إنجيل قداس يوم الثلاثاء من الأسبوع السادس من الصوم الأربعيني المقدس عام 1990. وهي رقم (23) من سلسلة العظات التي تُسمَّى ”الطريق إلى ملكوت الله“.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis