بمناسبة تذكار الصليب المقدس
10 برمهات / 19 مارس عظة آبائية


مجد الصليب وفخره
للقديس يوحنا ذهبي الفم
(354-407م)

القديس يوحنا ذهبي الفم

نص العظة:

اليوم، يا أحبائي، نُعيِّد ونحتفل بالصليب، إذ أنَّ السيِّد صُلِبَ على الصليب والشمس مُتَوارية. ولا تتعجَّب من أنَّ الأمور التي تُسبِّب التَّجَهُّم والعُبوس، هي نفسها التي نحتفل بها، إذ أنَّ كل الأمور الروحية تختلف عن الأمور الجسدية المُعتادة. ولْتَعْلَم هذا بالتمام.

كان الصليب في السابق اسماً للقَصَاص والعقاب؛ أما الآن، فهو اسمٌ للفخر والاحترام.

كان الصليب في السابق موضع عارٍ وعذاب؛ أما الآن، فأصبح سببَ مجدٍ وشَرَفٍ.

وكَوْن الصليب هو مجدٌ، يؤكِّده قول المسيح: «أيها الآب، مجِّدني بالمجد الذي كان لي عندك قبل تأسيس العالم» (يو 17: 5).

فالصليب هو قمة خلاصنا.

الصليب هـو مصـدر عشرات الآلاف مـن الخيرات.

فبواسطة الصليب صار المنبوذون والساقطون مقبولين في عداد الأبناء.

به لم نَعُدْ بعد مُضلَّلين، بل للحقِّ عارفين.

بالصليب أصبح الذين كانوا - فيما مضى - يعبدون الأخشاب والأحجار، صاروا يعرفون خالق الكلِّ.

بالصليب نال عبيد الخطية عِتْقَ الحرية بالبرِّ.

به صارت الأرض سماءً، فهكذا (بالصليب) تحرَّرنا من الضلال، وهكذا نلنا الإرشاد إلى الحقِّ.

هكذا تَمَّم الله أَمراً يليق به تجاه البشر.

هكذا أقامنا من عُمْق الخطية، ورَفَعَنا إلى قمة الفضيلة.

هكذا أباد (الله) ضلال الشياطين، وهكذا كَشَفَ الخداع بالصليب.

لم يَعُدْ هناك دخان، ولا دماء حيوانات مُهْرَقة؛ بـل في كـلِّ مكانٍ نجـد الاحتفالات الروحية والتسابيح والصلوات.

بالصليب هَرَبَت قوَّات الشرِّ، وفَرَّ الشيطانُ.

بالصليب تتسابق الطبيعةُ البشرية لتنضمَّ إلى مَحْفَل الملائكة.

بـالصليب صـارت البتولية مُسْتَوطَنة على الأرض.

فحيث أتى المسيح من عذراء، فقد فَتَحَ طريق هذه الفضيلة أمام طبيعة البشر.

بالصليب أنارنا نحن الجلوسَ في الظلمة.

بالصليب تحرَّرنـا مـن الأَسْر، وبعد أن كُنَّا بعيدين، صرنا منه قريبين.

هكذا بالصليب خلُصْنا، وصار لنا هذا الفداء بالفعل.

هكذا، بالصليب، بعد أن كُنَّا غُرباءَ، صرنا مُواطنين سمائيين.

هكذا، بالصليب، بعد أن كُنَّا نُحارب، صار لنا السلام والأَمْن.

وبالصليب، لم نَعُدْ نخاف سهام الشيطان، فقد وَجَدنا نَبْعَ الحياة.

بواسطة الصليب لا نحتاج، فيما بعد، للزينة الخارجية، لأننا نتمتَّع بالعريس.

وبه، لم نَعُدْ نخاف الذئب، فقد عرفنا الراعي الصالح: «أنـا هـو الراعي الصالح» (يو 10: 11). وبه لن نَرْهَب الطاغية؛ إذ صرنا في جانب الملك.

أرأيتَ كم هي الخيرات التي قدَّمها الصليب لنا؟ إذن، يحقُّ لنا أن نُقيم عيداً له.

ولهـذا أوصانا بولس الرسول أن نُعيِّد قائلين: «فلْنُعيِّد، لا بالخمير العتيق، بـل بفطير الإخلاص والحقِّ» (1كو 5: 8).

ولماذا توصينا، أيها الرسول المغبوط بولس، أن نحتفل بـالصليب؟ لقـد أوضح السبب: «إن فصحنا المسيح قد ذُبِحَ لأجلنا» (1كو 5: 7).

أرأيتَ كيف يكون الصليب عيداً للمسيح؟

أعرفتَ أنه يجب أن نُعيِّد للصليب!

لقد ذُبِحَ المسيح على الصليب. وحيث تكون الذبيحة، هناك العِتْق من الخطايا، هناك مُصالحة مع الرب، هناك عيدٌ وفَرَحٌ.

لقد قيل: «إنَّ فصحنا المسيح قد ذُبِحَ لأجلنا». فَقُل لي: أين ذُبِحَ؟

لقد ذُبِحَ مرفوعاً على الصليب؛ المذبح الجديد والمُختلف عـن أيِّ مذبـحٍ، لأن الذبيحة جديـدة ومختلفة عن أيَّة ذبيحة.

فهو نفسه (أي المسيح) الذبيحة والكاهن.

أمَّا كونه ذبيحةً، فبحسب الجسد. أمَّا كونه كاهناً، فبحسب الروح. وهو نفسه المُقدِّم والمُقدَّم.

فـاسمع أيضاً مـا يقوله بولس الرسول: ”إنَّ رئيس الكهنة الذي يؤخذ من بين الناس، إنما يُقام مـن أجل الناس، ليُقدِّم عنهم (ذبائح) لله“، ”أما المسيح فلم تكن له حاجة إلى ذلك، إذ قرَّب ذاته“ (انظر عب 7: 27).

ويقول بولس الرسول في موضعٍ آخر: «إنَّ المسيح قُدِّم مـرَّةً واحدة ليحمل خطايا كثيرين» (عب 9: 28).

لقد قُدِّم ههنا، أمَّا هناك فقد قدَّم ذاته!

أرأيتَ كيف صار ذبيحةً وكاهناً معاً! وكيف كان الصليب مذبحاً له!

ومن الضروري أن نَعْلَم لأيِّ سببٍ لم تُقدَّم الذبيحـة داخـل الهيكل اليهودي، ولكـن خارج المدينة، خارج الأسوار.

لقـد صُلِبَ خارج المدينـة، مُـرتفعاً على الصليب، وليس تحت سقفٍ ما! لكي يُطهِّر طبيعة الهواء.

فهناك، وهو مرفوعٌ على الصليب، لم يكن يُظلِّله سَقْفٌ بل سماء، لكي يُطهِّر الأرض مرَّةً بذَبْح الخروف هناك عالياً على الصليب.

وكما تطهَّـرت السماء، فإنـه طهَّر الأرض أيضاً. فعندما سـال الدمُ مـن جَنْبه، تطهَّرت الأرض من كلِّ دنس.

ولماذا لم تُقـدَّم ذبيحة الصليب تحت سقفٍ أو في هيكلٍ يهودي؟

اعْلَمْ أن هذا أيضاً ليس أمراً بسيطاً، فقد حدث ذلك لكي لا يَدَّعي اليهود أنَّ الذبيحـة تخُصُّهم وحدهم، أو يُظَنُّ أنها قُدِّمت عن هذا الشعب فقط. ولهذا قُدِّمت خارج المدينة والأسوار، لكي تُعلِّمهم أنَّ الذبيحـة هي مَسْكونيـة (أي للعالم أجمع)، وأيضاً أنها قُدِّمت عن الكلِّ، وأنَّ تطهير الطبيعة شاملٌ لكلِّ الأرض. بعكس اليهود الذين أَمَرَهُم الله أن يتركـوا الأرض كلها، ويُبْقوا لأنفسهم مكانـاً واحداً للصلاة وتقديم الذبائح، بسبب أنَّ الأرض كلَّها كانت مُدَنَّسة بدُخـان وماء ذبائـح الوثنيين وأدناس اليونانيين.

أمَّا بالنسبة لنا، فقد جاء المسيح وتألَّم خارج المدينة، وطهَّر كل المسكونة، وجَعَلَ كل موضع مكاناً للصلاة.

أَتريـد أن تعـرف كيف أنَّ الأرض كلهـا أصبحت هيكلاً، وأنَّ كـلَّ مكانٍ أصبح مكانـاً للصلاة؟

اسمع أيضاً ما يقوله المُطوَّب بولس: «فأريد أن يُصلِّي الرجال في كلِّ مكان، رافعين أيـاديَ طاهرة بدون غضبٍ أو جدال» (1تي 2: 8).

أرأيتَ كيف أنَّ المسكونـة كلها تطهَّرت. إننا نستطيع الآن أن نرفع أيـادي طاهرة في كـلِّ مكانٍ!

فلقـد صـارت الأرض، إذن - بأَسْرهـا - مُقدَّسة؛ بل بالحري أَقْدَس من قُدْس أقداس اليهود!

وكيف يكون هـذا؟ هناك في قُـدْس الأقداس يُقدَّم خروفٌ من الحيوانات غير العاقلة؛ أمّا هنا، فالخروف عاقلٌ (ناطقٌ).

وبمقدار ما تفوقُ الذبيحةُ العاقلة الذبيحةَ غير العاقلة؛ هكـذا يفـوق تقديس الأرض (بالصليب) على أقداس اليهود.

وبالتالي، فالصليب هو عيدٌ حقّاً!

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis