طعام الأقوياء
- 82 -



الماء الحي

+ «اللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يو 4: 24).

«كان لابد له أن يجتاز السامرة»:

لقد جـاء الرب يسوع إلى العالم أجمع، لأنه هو رب العالم كله، ولكنه بدأ خدمته أولاً لليهود خاصته الذين جاء مـن نسلهم حسب الجسد. فقد كان مُلتزماً في بدايـة خدمته بهـذا المبدأ: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ» (مت 15: 24). ولكنـه لمَّـا رأى صـدود اليهـود والفرِّيسيين ورَفْضهم الصادم له، لم يَرَ بُدّاً من أن يفتح صدره للغرباء عـن رعوية إسرائيل، فلم يمنع معونته وعطفه عـن قائد المائة الروماني (مت 8: 5-10)، أو المرأة الفينيقية التي صَدَّها أولاً بقوله لها: «لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ» (مـت 15: 26)، ولكنه عـاد وقال لها: «يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ» (مت 15: 28).

وأمَّا الآن، فنحن نتحدَّث عـن زيـارة الرب للسامرة التي كان يسكنها السامريون الذيـن لا يتعاملون مع اليهود، وكانت الزيارة اضطراريـة لكونـه كـان في اليهودية وأراد السَّفَر للجليل: «وَكَانَ لاَبُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ السَّامِرَةَ» (يو 4: 4).

ولكن الرب ليس عنده ما هو مُجْبَرٌ على فعله، فهو ضابط الكل، وكل ما شاء فَعَلَ، فهو الذي قال: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَـا أَعْمَلُ» (يـو 5: 17). فهل للنار الإلهية أن تكفَّ عن فعل الإحراق الكامن في طبيعتها؟ لذلك نجد أنه من المستحيل تماماً أن تتوقَّف المحبة الإلهية التي «لَهِيبُهَا لَهِيبُ نَـارِ لَظَى الرَّبِّ. مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ الْمَحَبَّةَ» (نش 8: 6،7). فنار الحب الإلهي لم يكن مُمكناً أن يحدَّ نفسه عندما وجد الفرصة سانحةً لإنقاذ نفوسٍ غارقة في بحر الشهوات.

«جلس هكذا على البئر»:

عَبَر الرب حـدود اليهودية وصار الآن وسط بلاد الغرباء، وكان قد تعب من عناء السَّفَر تحت لَظَى أشعة الشمس الحارقة، شمس الظهيرة. فمع إنه هو ابن الله، فقد اتَّحد ببشريتنا، يتعب ويشقى ويتألَّم ويعطش ويجوع، لأنه أراد أن يُشاركنا في كلِّ شيء ما خـلا الخطية وحدها. وإذ وجد بئراً استراح عنده: هـو بئر يعقوب في الضيعة التي وهبها يعقوب ليوسف ابنه المحبوب.

ولم يكن جلوس الرب على البئر في هذا التوقيت صُدفةً، فليس عند الرب صُدَف. فقد كان يَعْلَم أنَّ هناك مَن هو في انتظاره. لأنه، إذ كـان الوقت ظهراً: «نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ» من النهار، كان الحرُّ شديداً، فلا يخرج إلاَّ المُضطر والهارب من مُلاقاة الناس لأيَّة عِلَّةٍ مـن العلل. وفجأة جـاءت امرأة سامرية لتستقي ماءً من البئر، ومعها جرَّتها ودلوها الذي تُنزله في البئر لتملأ به جرَّتها. وأمَّا الرب فجاء ليشفي المُنكسري القلوب.

فبادرهـا الرب بقولـه: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ». فذُهِلَت المرأة السامرية من حديثه معها، وأجابته قائلة: «”كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَـا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّـةٌ؟“ لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ» (يو 4: 9،7). لقد كانت تَعْلَم أفكار اليهود من جهة السامريين، وكيف أنهم يعتبرونهم أنجاساً! فكيف يطلب منها ماءً ليشرب؟!

لقـد عـرفت السامريـة أنـه يهودي مـن لهجة كلامه أو ملبسه المُختلف عـن السامريين. وما شَغَلَ قلبها ليس أن تُعطيه طلبه أو لا تُعطيه، وإنما حيَّرهـا لهجة حديثه التي لم تحمل عداءً، مـع إن السامـريين كانـوا خصومـاً لليهـود (عزرا 4: 1). كما دُهِشَتْ لسؤال الرب لها أن تُعطيه ليشرب، فإنه ما كـان يمكن ليهودي أن يطلب شيئاً من سامري مهما كان احتياجه.

«أعطيني لأشرب»:

لقد تقدَّم الرب إليها كمحتاج وعطشان، وهذا هو أسلوبه دائماً مع كل مَن يتقابل معه ويريد أن يجذبه إليه. فهو لا يقتحم أحداً قط، ولا يطلب شيئاً من أحدٍ ليس في استطاعته أن يُعطيه. ولكنه يسأل بكـلِّ تواضع ووداعة وينتظر استجابتك، ولسان حـاله دائمـاً: «هنَذَا وَاقِـفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَـدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤ 3: 20).

هكذا فَعَلَ الرب عندما أراد أن يدعو سمعان بطرس لاتِّباعه، فدخل سفينته وسأله أن يبعد قليلاً عـن البَرِّ، وأن يسمح له بـأن يجلس في السفينة ويجعلها منبراً يُعلِّم منـه الجموع الواقفـة على البَرِّ: «وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ قَـالَ لِسِمْعَانَ: ”ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ“. فَأَجَابَ سِمْعَانُ وَقَالَ لَهُ: ”يَا مُعَلِّمُ، قَـدْ تَعِبْنَا الَّليْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئاً. وَلكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ“. وَلَمَّا فَعَلُوا ذلِكَ أَمْسَكُوا سَمَكَاً كَثِيراً جِدًّا» (لو 5: 4-6). ثم دعاه الرب ليصير صيَّاداً للناس.

وهنا في تقابُل الرب مع السامرية، أراد أن يسكب عليها مـن نعمتـه، فتقـدَّم إليها كمحتاج إلى مساعدتها. ولمَّا وَجَدَهـا غير مُدركة لقصده، وأظهرتْ تخوُّفها مـن الاستجابة لطلبه، بادرهـا بهذا القول: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا» (يو 4: 10).

الماء الحي:

لقـد ظنَّت المرأة السامرية لأول وَهْلَةٍ، بفكرها المريض المُعتلِّ بعلل المجتمع وحياة الدعارة التي عاشتهـا زمانـاً، أنَّ الـرب القدوس يتقرَّبُ إليها بـالسؤال، ولكنهـا فوجئت الآن أنَّ المُحتاج يُلوِّح بالعطـاء؛ وبـدلاً مـن قولـه لها فقط: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ»، إذا به يقول لها: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَـنْ هُوَ الَّـذِي يَقُولُ لَـكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا» (يو 4: 10).

+ ويُعلِّق على ذلك القديس كيرلس الكبير قائلاً:

[إذاً، فقد أثار هو فيها بذلك الرغبة الجادة جداً في التعلُّم. تأمَّلوا الآن كيف يُدير (الرب) دَفَّة الحديث بمهارة ودونما أي تفاخُر، فهو يقول إنه الله؛ لكن رغم هذا كانت المرأة بطيئةً في الفهم، ولكي يجعلها تتعجَّب لعطية الله، قـدَّم نفسه لها بأنه الواهب للنعمة. لأنـه إنْ كـان يقول: «لو كنتِ تعلمين عطية الله، ومَن هـو هذا الذي يُكلِّمك»، أردف قائلاً: «لطلبتِ أنتٍ منه». فلِمَنْ يليق بنا أن نُقدِّم ما يُناسب الله؟ أليس للذي هو بالطبيعة الله!](1).

وفعلاً نجح الرب يسوع في استدراج المرأة السامرية للطلب، وإن جاء الطلب ناقصاً في تقديرها له حسب نقص إدراكها لعطية الله الفائقة، إذ قالت المرأة: «يَا سَيِّدُ، لاَ دَلْوَ لَكَ وَالْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟» (يـو 4: 11). وهكـذا نُلاحِظ تطوُّراً في لهجة المرأة في حديثها مع المسيح. فبدلاً من قولها: ”أنت يهودي“، قالت له: ”يـا سيِّد“، لأن هيبة الرب بَدَأَتْ تلمس قلبها. ولكن ما زال الأَمر عارضاً في نظرها. فكيف يصل إلى الماء الحيِّ، وليس له دَلْو ليستقي به مـن البئر؟ فقد كان الماء الحي في فهمها القاصر، هو الماء الجاري!

واستمرَّت المرأة السامرية تضع العراقيل بسبب عجزها عـن إدراك عظمة الواقف أمامها وقدرته على إعطائها ما يفوق كل تصوُّرها، حسب قول بولس الرسول: «وَالْقَادِرُ أَن يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تعْمَلُ فِينَا» (أف 3: 20)، لذلك تساءلت: «أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، الَّذِي أَعْطَانَا الْبئِرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟» (يو 4: 12).

«مَن يشرب من الماء الذي أُعطيه أنا

فلن يعطش إلى الأبد»:

أجابها الرب على تساؤلها إجابةً مُباشرة يُشير فيها إلى مصدر الماء الحي، بدون أيِّ لَبْسٍ، قائلاً لها: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِـنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَـلِ الْمَاءُ الَّـذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيـهِ يَنْبُوعَ مَـاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَـاةٍ أَبَدِيَّـةٍ» (يـو 4: 14،13).

تجاهَل الربُّ سؤالها، عمَّن يكون هو! وإن كـان أعظم - بما لا يُقاس - مـن يعقوب أبي الآباء الذي أعطاهم البئر، وارتوى منه هو وبنوه ومواشيه، إذ أنَّ الرب هو خالق يعقوب!

وكلَّم الربُّ المرأة السامرية عن ”الماء الحي“ الذي يُعطيه هـو بنفسه، وأنَّ مَن يشرب منه لن يعطش إلى الأبد، بخلاف هذا الماء الذي تستقيه من البئر أو أيِّ ماءٍ آخـر، فـ «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً».

وهنا وصل اشتياق المرأة إلى أقصاه، وطلبت أن يُعطيها الرب مـن هـذا المـاء الحي، لكي لا تعطش أيضاً ولا تأتي إلى هذا البئر لتستقي!

+ ويُعلِّق على ذلك القديس كيرلس الكبير قائلاً:

[للمرَّة الثانية، لا تزال (المرأة السامرية) تتكلَّم وتتخيَّل أموراً عادية فقط، ولم تُدرِك شيئاً مِمَّا قيـل؛ لكنها تفترض أنَّ التحرُّر مـن متاعب ومشقَّة (الاستقاء بالقدور وآنية الماء) يُشكِّل كلَّ قصد مُخلِّصنا، وأنها لـن تعطش أبـداً. وهكذا تصوَّرت حـدود إمكانيـات نعمة الله، دون أن ترتفع بالفكر لتنال أموراً هي فوق العالم](2).

«قال لها يسوع: ”اذهبي وادْعي زوجكِ

وتعالي إلى ههنا“»:

+ ويُعلِّق الأب متى المسكين على ذلك، قائلاً:

[لقد استهوتها فكرة الماء الذي كل مَن يشرب منه لا يعطش، وأضافت بالضرورة أنها لـن تعود تتعب وتجيء لتستقي... وفيـه معنى الاستغناء، ليس لِمَا هو لذاتها فحسب، بـل للذين تخدمهم أيضاً... وهنا يلتقط الرب الخيط من فمها، ويطلب أن يرى مَـن تخدمهم. نعم، يجب أن يأتي مَن تخدمه، وهو بالتقدير المبدئي زوجها...

ولكـن الرب الذي قرأ فكرها، وَضَعَ هذا الطلب مَحَكّاً لصـدق قبولها العَرْض بأَخْـذ العطية، وبالأكثر اختباراً لمدى صحة إيمانها بالكلام ومستوى يقظة ضميرها.

الرب هنا يُركِّـز على السامريـة نفسها، وليس على زوجهـا أو أهلهـا، لأن بتوبتها وإيمانها هي، سيُقبِل الجميع. فهو هنا مستمرٌّ في إعدادها هي للعطية، لأنه يستطيع أن يغفر الخطية، فهو يستطيع أن يراهـا ويُحاصرها بالضرورة.

والآن، وقـد صـارت خطيَّتها هي العقبة الوحيدة في وجـه نـوال العطية؛ لذلك كان يتحتَّم كشفها والاعتراف بها تمهيداً لرفعها، لتصبح على مستوى العطية...

المسيح هنا يعرف الجواب مُسْبقاً: «ليس لي زوج»، لذلك يضع إصبعه على الجرح، ومِشْرَطَه على الورم، ولكن برقَّةٍ فائقة كمَن يستخدم المُخدِّر حتى لا يشعر المريض بالألم. لقد تدرَّج معها وهو يسندها حتى تَقْوَى على نُطق ما لا يُنطَق. وهكذا بلغ بها إلى نقطة اليقظة العُظمى للضمير](3).

(يتبع)

(1) ”شـرح إنجيل القديس يـوحنا“، أصحاح 4، مؤسَّسة القديس أنطونيوس.
(2) ”شـرح إنجيل القديس يـوحنا“، أصحاح 4، مؤسَّسة القديس أنطونيوس.
(3) ”شرح إنجيل القديس يوحنا“، الجـزء الأول، ص 287-288.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis