|
|
|
عمل الخلاص الذي أتى المسيح ليُتمِّمه (22)
ثانياً: المسيح الكاهن الأعظم (15) تقديم المسيح نفسه ذبيحة من أجل حياة العالم (10) المرحلة الأخيرة من اتضاع ابن الله المتجسِّد (تابع)
+ ويكتب القديـس أمبروسيوس: ”النـور الحقيقي للحكمة هـا هـو يشعُّ الآن هنا. لقد أضاء ابـن الله المتجسِّـد الجحيمَ، ولم يحجب الجحيمُ النـورَ الإلهي، لأنـه مكتوب: «لأنك لا تتركني في عالم الأموات، يا الله، لئلا يرى تقيُّكَ الفساد. عـرِّفني سُبُلَ الحياة، واملأني فرحاً بحضورك. فمِن يمينك دوام النِّعَم» (مز 16: 11،10)“(1).
توضيح رسالة القديس بطرس: على أساس كلمـات القديس بطرس في رسـالته الأولى (3: 18-20)، فـإنَّ نـزول المسـيح إلى الجحيـم يشهد بانتصار المسيح على قُوَى الشيطان.
تأمَّل في تتابُع كلام القديس بطرس: «فالمسيح نفسه مات مرةً واحدة من أجل الخطايا. مات، وهو البارُّ، مـن أجل الأشرار، ليُقرِّبنا إلى الله. مـات في الجسد، ولكـنَّ الله أحياه في الـروح. فانطلق بهـذا الروح يُبشِّر الأرواحَ السجينـة التي تمرَّدت فيما مضى، حـين تمهَّـل صـبرُ الله أيـام بَنَى نـوحٌ الفُلكَ، فنجـا فيه بالمـاء عـددٌ قليلٌ، أي ثمانيـة أشخاص» (1بط 3: 18-20 – الترجمـة العربية الجديدة).
النزول للجحيم للكرازة بالأخبار السارة: هناك سـببان يطرحهمـا التعليم الأرثـوذكسي لنزول المسيح إلى مَثْوَى الأموات:
1. البشارة بانتصار المسيح على الموت؛
2. وإنقاذ النفوس التي كـانت تنتظر بالرجاء مجيء ابن الله.
والتعليم الأرثـوذكسي يُزيـد هـذه الحقيقـة إيضاحاً: إنه بينما كـان جسد المسيح راقـداً في القبر متَّحداً بلاهوته، كانت نفسه البشرية المتَّحدة بلاهوته تنزل إلى الجحيم حـاملة معها البشارة للنفوس التي ماتـت، منذ زمانٍ، والمُقيَّدة هناك، منتظرة البشارة بالمُصالحة والخلاص.
لمَن كانت بشارة المسيح مُوجَّهة؟ تشرح ذلك الرسالة الأولى للقديس بطرس الرسول: «فانطلق بهـذا الروح يُبشِّر الأرواح السجينة التي تمرَّدت فيما مضى، حين تمهَّل صبرُ الله أيامَ بَنَى نوحٌ الفُلكَ، فنجا فيـه بالماء عـددٌ قليلٌ، أي ثمانيـةُ أشخـاصٍ» (1بط 3: 19-20). وفي تعليـم الكنيسة الأرثـوذكسية، فـإنَّ بشارة المسيح في الجحيم كـانت موجَّهة لقدِّيسي العهد القديم الذين كانوا ينتظرون مجيء المسيح(2).
+ ويقول القديس كيرلس أسقف أورشليم، إنَّ بشارة المسيح كان لها أثرٌ كبير، فقد نزل المسيح للجحيم وحيداً، لكنه صعد منه ومعه كثيرون: ”لقد نزل وحيداً إلى العالم السُّفْلي، لكنه صعد من هناك مصحوباً بجماعة كبيرة“(3).
كما يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: ”لقد نـزل إلى الجحيـم، لكنـه صعد مُجتذبـاً معـه النفوس“(4).
هل كـان الابن المتجسِّد غائباً عن الفردوس وهـو في الجحيم؟ يقـول القديس هيلاريـون، مُستخدمـاً الاتِّحاد الإلهي الإنساني في إجابتـه: ”حينما نـزل إلى الجحيم، لم يكـن غائباً عـن الفردوس (كما كـان دائماً في السماء، بينما كان يكـرز على الأرض)؛ هكـذا حينما نـزل إلى الجحيم، كان في الوقت نفسه في الفردوس“(5).
كذلك ما وَرَدَ عن قصة القديسة ماكرينا التي كتبها القديـس غريغوريـوس النيصي في نفس الموضوع باسم: ”النفس والقيامة“(6).
«اليوم تكـون معي في الفردوس»: لقد وَعَدَ الرب يسوع - وهـو مصلوبٌ على الصليب - اللص اليمـين أنـه: «اليـوم تكـون معي في الفردوس» (لو 23: 43). وهـذه الكلمات أوحت لبعض آبـاء الكنيسة أنَّ النفس الإنسـانية للرب يسوع نزلت في الحال، وبعد صَلْبه، نزلـت إلى الجحيم، حيث كانت نفوس الأموات كلهم(7).
+ ومن المعروف أنه في تعاليم العهد القديم المُبكِّرة، فإنَّ الأبرار والأشرار كليهما كانوا يذهبون إلى مـا يُسمَّى بالعبريـة sheol أي الجحيم، بعـد الموت؛ ولكن الأبرار منهم كانوا يذهبون إلى القسم الأعلى مـن الجحيم المُسـمَّى باليونانيـة hades، وبالطبع كل هذه التعبيرات هي مجرد استنتاجات!
”جسده لم يَرَ فساداً“: وقد اقتبس القديس لوقا البشير من سِفْر المزامير ما ذَكَرَه في سِفْر أعمال الرسل (13: 37): «لئلا يـرى تقيُّك فساداً» (مز 16: 10 - الترجمة العربية الجديـدة)، كنوعٍ من تحقيق النبوَّة في المسيح، بعد موته، ثم قيامته؛ كما ذَكَرَ القديس بطرس الرسول في خطابه بعد حلول الروح القدس على التلاميذ يوم الخمسين، بأنَّ داود مات ودُفِنَ، «وقبره هنا عندنـا إلى هذا اليوم. وكان نبيّاً، فعرف أنَّ الله حلف له يميناً أنَّ مـن صُلْبه حسب الجسد يُقيم المسيح على عرشه. وتكلَّم داود عن قيامة المسيح كما رآها من قَبْلُ، فقال: ما تَرَكَه الله في عالم الأموات، ولا نال مـن جسده الفساد» (أع 2: 29-31 الترجمة العربية الجديدة).
+ كما أنَّ هناك نصَّين آخرين للقديس بولس الرسول عن نزول المسيح للجحيم، يستحقَّان الدراسة:
”لقد تقدَّم أَسْرَى الرجاء في موكب نصرته“: إذا مـا عرفنا أنَّ كـلَّ مؤمـنٍ عضو في جسد المسيح، ينال النعمة كما قَسَمَ له المسيح، فإنَّ رسالة القديس بولس إلى مؤمني أفسس تقتبس من سِفْر المزامير (68: 18): «صعدتَ إلى العلاء، أيها الرب، تقود أسرى كثيرين، وأُعطي البشر عطايا». وما المقصود بقوله إنه ”صَعِدَ“ سوى أنه ”نزل“ إلى أعماق الأرض، إذ يقول بولس الرسول: «وما المقصود بقوله ”صعد“ سوى أنه نَزَلَ أولاً إلى أعمق أعماق الأرض» (أف 4: 9 - الترجمة العربية الجديدة). وهـذا النص يُشير - لدى كثير من المُفسِّرين - إلى أن ”النزول إلى الجحيم“ كان تقليداً شائعاً عند القديس بولس، وأنَّ هذا ”النزول“ كان يحمل معه ”عطايا“ للذين كانوا في العالم السُّفلي غير المنظور، ببركاتٍ مُقدَّسة.
تفسير القديس بولس عن النزول والصعود: لقد رَبَطَ القديـس بولس مـا بين النزول إلى الجحيم وبين ”الصعـود“ إلى الفردوس معاً في رسالته إلى مسيحيِّي روما (10: 7،6)، حيث أوضح لسامعيه: «وأمَّا التبرُّر بالإيمان، فقيل فيه: ”لا تَقُلْ في قلبك: مَـن يصعد إلى السماء؟ (أي ليجعل المسيح ينزل إلينا)، أو مَن يهبط إلى الهاوية؟ (أي ليجعل المسيح يصعد مـن بين الأموات)“»، ثم يُقدِّم هـذا التعليم: «فإذا شهدتّ بلسانك أن يسوعَ ربٌّ، وآمنتَ بقلبك أنَّ الله أقامه مـن بين الأموات، نِلْتَ الخلاص» (رو 10: 6-9 الترجمة العربية الجديدة).
+ من هذه الكلمات التي وَرَدَت في رسالة رومية، علينا أن نخرج منها بالإيمان بأنَّ المسيح نزل إلى مساكن الأموات، ثم صعد إلى الفردوس. وأنه بالإيمان أيضاً نزل المسيح للذين في الجحيم، وأنه حطَّم أبوابه مـن أجل كل المؤمنين ليصعدوا معه إلى الفردوس في السماء.
المسيح قام من بين الأموات
بالموت داس الموت، والذين في القبور أنعم لهم بالحياة الأبدية
وهكذا وَرَدَ في قانون الإيمان المسيحي: ”تألَّم، وقُبِرَ، وقام من بين الأموات في اليوم الثالث، كما في الكُتُب“ (مجمع نيقية المسكوني سنة 325م، وقد حضره 318 أسقفاً).
+ وهكذا فإنَّ الحقَّ الإلهي للرب يسوع المسيح قد استُعلِنَ بعد قيامته من بين الأموات، تلك القيامة التي صارت هي الخَتْم الإلهي والتأكيد الكامل لعمل المسيح الخلاصي الذي كَمل على الصليب.
+ الأنـاجيل الأربعة أعلنت، باختصارٍ، قيامـة الرب يسوع المسيح. والقيامة وحدهـا صارت هي التفسير والشرح الوافي للأناجيل الأربعة بكلِّ ما وَرَدَ فيهـا، ابتداءً مـن ميلاد المسيح وإلى موتـه على الصليب.
+ والقيمة الكاملة للفداء على الصليب، قد صارت فعَّالة للبشرية كلها بقيامة الرب من بين الأموات. فالقيامة هي السرُّ الذي استُعْلِنَ وكَشَف معنى وقيمة مـوت المسيح على الصليب، وصار مُتحقِّقاً لكـلِّ البشرية فـرداً فـرداً، لكلِّ مَـن آمـن واعتمد (مر 16: 16).
+ وهكـذا صارت قيامة المسيح هي التكميل والتحقيق النهائي لتجسُّد المسيح من الروح القدس ومن العذراء القديسة مريم.
المسيح قام.. بالحقيقة قام
إنَّ ما بَدَا للناس في الساعة الثانية عشرة من النهار أنه انهيارٌ وإخفاقٌ لتجسُّد ابن الله، قد تحوَّل إلى علامة الانتصار والتغلُّب على الشيطان.
+ إن خلاص الله وقف شامخاً وضدّاً لكلِّ تدبير بشـري وتوقُّع فاشل عند الصليب. وكـل الذكاء البشري لدى رجال الدِّين وقادة الحُكْم الروماني، قد انقلب إلى عكسه، بقيامة الرب من بين الأموات.
+ وكـل تعليم للمسيح الذي سبق وأن علَّم بـه وظهر وكأنـه ”كلام صعب“ (يو 6: 60)، استُعلِن الآن في نـور قيـامتـه، أنـه صـار مصـدراً للنور والفرح الحقيقيَّيْن!
القيامة استُعلِنَت: قيامة الرب يسوع مـن بين الأمـوات، هي الحَـدَث الواضح والحقيقي بـأنَّ ”المسيَّا قام حيّاً من بين الأموات، وقد أَظهَر نفسه لتلاميذه ليُعلِن لهم أنَّ عمل الفداء قد تمَّ“(8).
وموته مـن أجل البشرية قد صار فعَّالاً: إنَّ القيمة الخلاصية لموت المسيح مـن أجل خلاص البشـر هـا هي قـد اتَّضحت بقيامته. إن كلمة anastasis وكـذلك anestemi وأيضـاً egeiro باليونـانية، تعني ببساطة ”الإقامة“ و”القيامة“ من الموت. إنَّ قيامـة المسيح هي باختصار عـودة الحياة إليه من بعد موتٍ، أو عودة الحياة لجسده الميت، في ثالث يوم من موته.
+ قيامـة المسيح تُظهِـر جليّاً الانتصار على ”الموت“. الله أَرجـع للجسد اتِّحاد نفسه بالجسد؛ وهكـذا ظَهَرَ المسيح حيّاً أمـام تلاميذه، وعلامات الموت بالصَّلْب ظلَّت ظاهرة في جسده، وقـد رآها تلاميذه (القديس هيلاريون)(9).
+ وفيما بعد، بَدَأ المسيحيون يعرفون المسيح: «فأعـرف المسيح وأعـرف القوَّة التي تجلَّت في قيامته، وأُشاركه في آلامـه، وأَتشبَّه به في موته، على رجـاء قيامتي مـن بين الأمـوات» (في 3: 11،10 - الترجمة العربية الجديدة).
(يتبع)
(1) Incarn. of Our Lord 5,41; FC, 44, p. 234.
(2) Irenaeus, Ag. Heg. V.31; ANF I, p. 560; Eusebius, NPNF 2,I, p. 102.
(3) Cyril of Jerusalem, Catech. Lect. XIV; FC 64, p. 44.
(4) Gregory Nazianzen, On the Son, Orat. XXIX; NPNF 2, VII, p. 309.
(5) Hilary, Trin. X.34; NPNF 2, I, p. 190.
(6) On the Soul and Resurrection 1; NPNF 2, V, pp. 430-35.
(7) Gregory Nazianzen, Orat. XXIX, On the Son 20; NPNF 2, VII, p. 309.
(8) Augustine, CG; FC 24, pp. 68-71, 423-32.
(9) NPNF 2, IX, pp. 158-60.