دراسة الكتاب المقدس


مقدِّمات الأسفار
- 35 -

ثانياً: الأسفار التاريخية

9 - سِفْر أخبار الأيام الثاني (3)

أقوال آبائية عن السِّفْر:

1. موضوع ”الله“ أصعب من أن يُقتَرَب إليه: [الحق، والكلمة بكماله، هو أَمْرٌ مملوءٌ صعوبةً وغموضاً، وكما لو كانت المحاولة بآلة صغيرة نأخذ على عاتقنا القيام بمهمةٍ ضخمة؛ هكذا بمجرد حكمة بشرية نتابع التعرُّف على الكائن بذاته، وبمعاونة الحواس أو بغير معاونتها، التي ب‍ها وُلدنا، نُساق للخطأ إلى هنا وهناك، ونضع أنفسنا في مجال البحث عن أشياء لا يمكن استيعاب‍ها ولا بالعقل، ولا نستطيع مقابلة حقائق مُجرَّدة بفكرٍ عارٍ أو نُقرِّب‍ها بعض الشيء لتكون أكثر اقتراباً للحقِّ لتجعلها مُستساغة للعقل بمفاهيمه.

والآن، فإنَّ موضوع الله هو أصعب من فهمه بالعقل، بمقدار ما هو أكثر كمالاً من أيِّ شيء آخر، وعُرْضة لاعتراضاتٍ أكثر، وحلولُها إنما تقتضي جُهداً وكدحاً. وكل اعتراض مهما كان ضئيلاً، يقف عائقاً عن استمرار مناقشتنا، ويُعطِّل تقدُّمنا؛ تماماً مثل قومٍ يكبحون فجأة باللجام جماح خيلٍ تجري بأقصى سرعتها لتُديرها يميناً عكس مسارها بواسطة صدمة غير مُتوقَّعة.

هكذا سليمان، الذي كان أحكم من جميع الناس، سواءً الذين سبقوه أو الذين كانوا في أيامه، الذي أعطاه الله اتِّساعاً في القلب وفيضاً من التأمُّل، أكثر جداً من الرمل، حتى أنه كلَّما تعمَّق إلى العمق، كلما ازداد أكثر تشويشاً في الذهن، وأُعلن أنَّ أقصى درجات الحكمة أن يكتشف كيف أن‍ها صارت أكثر بُعداً (بقوله: «كل هذا امتحنتُه بالحكمة. قلتُ أكون حكيماً، أمَّا هي فبعيدة عني» - جا 7: 23)](1) - القديس غريغوريوس الن‍زين‍زي.

2. قوَّة الصلاة: [صلَّى آسا وأَظهرت صلاته قوَّةً عظيمة: عندما خرج زارح الكوشي بجيشٍ مُكوَّن من مليون جندي ضدَّه. فصلَّى آسا قائلاً: «يا ربنا، ب‍هذا تُعرف قوَّتك، عندما تقضي على شعبٍ غفير بواسطة شعبٍ قليل» (2أي 14: 10-15). وسمع الله صلاته وأرسل ملاكه فأبادهم. وهكذا هذا الجيش الغفير قد قُهِرَ بقوَّة صلاة آسا](2) - القديس أفراهات (270-350م).

3. ينبغي أن نُثابر على الإيمان: [ينبغي أن نتمسَّك بالإيمان ونُثابر عليه وعلى الفضيلة وعلى تكميل متطلبات النعمة السماوية والروحية، للوصول إلى النصر والإكليل. ففي سِفْر أخبار الأيام الثاني نقرأ: «الرب معكم ما كنتم معه، وإن طلبتموه يوجد لكم، وإن تركتموه يترككم» (2أي 15: 2)](3) - القديس كبريانوس.

4. يهوشافاط خليفة داود في العدل والمجد: [كُتِبَ عن يهوشافاط ملك يهوذا: «وكان الرب مع يهوشافاط لأنه سار في طُرُق داود أبيه الأولى» (2أي 17: 3). ومِن هنا يتضح أنَّ يهوشافاط اقتنى العدل والبر الذي اقتناه داود أولاً، وأنه لم يقترف الآثام التي اقترفها داود مؤخراً، فقد قيل عنه: «ولم يطلب البعليم (إله الوثنيين)» (2أي 17: 3)، «ولكنه طلب إله أبيه وسـار في وصاياه، لا حسب أعمال إسرائيل. فثبَّت الله المملكة في يـده وقـدَّم كـل يهوذا هدايا ليهوشافاط، وكـان له غِنًى وكرامةً بكثرة» (2أي 17: 5،4). ولَمَّا «تقوَّى قلبه في طُرُق الرب... نزع أيضاً المرتفعات والسواري من يهوذا» (2أي 17: 6)](4) - القديس جيروم.

5. روح كذب في أفواه الأنبياء: [في حالة أخآب، قال الله: «مَن يغوي أخآب لي؟» (2أي 18: 9). وبالإضافة إلى ذلك أيضاً، فهو في الحقيقة دائماً ما يجعل نفسه عُرضةً للمقارنة مع آلهة البعل، وفي كلِّ هذا تقليلاً من كرامة الله. ومن جهةٍ أخرى، إذا نظرنا إلى الأَمر بطريقةٍ مختلفة، فإنَّ هذا ما يستحقه. وإني أقول هذا لأن الله رحيمٌ للغاية لأجل خلاصنا فيتكلَّم بأسلوب يليق بكرامته](5) - القديس يوحنا ذهبي الفم.

6. إنَّ الله لا يُحاسبنا حسب جزء من حياتنا: [إذا رأيتَ قريبك يقترف خطية، فلا تتمعَّن بحصرٍ في خطيته، ولكن فكِّر في كلِّ الأشياء التي عملها والتي ما زال مستمرّاً في عملها حسناً. ففي مرَّاتٍ كثيرة، حينما تختبر الكلَّ ولا تأخذ بالجزئيات فقط في الاعتبار، فإنك تجد أنه أفضل منك. فإنَّ الله لا يُحاسب البشر حسب جزء من حياتنا، لأنه يقول: «أنا أُجازي‍هم جامعاً أعمالهم وأفكارهم» (إش 66: 18 سبعينية). وعلاوة على ذلك، فإنه عندما وبَّخ يهوشافاط على خطية اقترفها في لحظةٍ بغير حذر، ذَكَرَ أيضاً الأعمال الحسنة التي فعلها قائلاً: «غير أنه وُجِدَ فيك أمور صالحة (لأنك نزعتَ السواري من الأرض وهيَّأتَ قلبك لطلب الله) (2أي 19: 3)»](6) - القديس باسيليوس الكبير.

7. عدالة الرب: [مجرَّد أن تقرأ كُتب أخبار الأيام، فهذا هو ما تجده مكتوباً في سِفْر أخبار الأيام الثاني: «وأهاج الربُّ على يهورام روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب الكوشيِّين، فصعدوا إلى يهوذا وافتتحوها وسَبَوا كل الأموال الموجودة في بيت الملك» (2أي 21: 17،16). هنا دليلٌ واضح عن كيف يُهيِّج الله الأعداء لينهبوا تلك الأُمم التي يقضي الله أن‍ها تستحقُّ هذا العقاب؛ بل وأَلم تكن هذه هي إرادت‍هم الخاصة أن يقوم الفلسطينيون والعرب لنهب بلاد يهوذا؟ أو هل جاءوا من تلقاء أنفسهم حتى يكذب الكتاب ويقول لنا إنَّ الرب أهاج أرواحهم ليفعلوا هذا؟ كلاَّ، بل بالعكس: فكِلاَ التقريرين صحيحان، لأن‍هم قد اقتحموا من تلقاء أنفسهم والله هو الذي أهاج أرواحهم... لأن القدير الذي لا يمكنه أن يفعل شيئاً غير عادل، يستطيع أن يُحرِّك ميولهم الإرادية الكائنة في رغبات قلوب‍هم لكي يُتمِّم من خلال هؤلاء القوم كل ما يُريد تحقيقه بواسطتهم](7) - القديس أوغسطينوس.

8. ابن يهوشافاط: [ثبَّت الرب المملكة في يـد يهوشافاط، وقدَّم له كـل اليهود الهدايا. واكتسب غِنًى وفيراً وثروة وكرامة بكثرة... وخشية أن نفترض أنَّ الاستقامة التي كانت له في الماضي قد فُقِدَت بسبب كونه قد اقترف هذه الخطية التي وبَّخه عليها النبي (2أي 19: 3،2)، إلاَّ أنه قد كُتِبَ بعد ذلك عن أخزيا خليفته (ابن يهوشافاط)، أنَّ ياهو وجده مُختبئاً في السامرة، وعندما أتوا به إليه قتله، «ودفنوه لأن‍هم قالوا: إنه ابن يهوشافاط الذي طلب الرب بكلِّ قلبه» (2أي 22: 9،8)](8) - القديس جيروم.

9. عُزِّيا عرف سخط الله: [عندما حمل عُزِّيا مجمرة، واضطلع بنفسه لتقديم ذبيحة بالاغتصاب مُخالفاً ناموس الله، ورَفَضَ أن يرضخ أو أن يُعطي مكاناً لعزريا الكاهن رغم مُعارضته له؛ دحضه الله بسخطه وتدنَّس بظهور علامـات البرص في جبهته، كسمة عارٍ تُبيِّن غضب الرب واضحة على هذا الجزء من الجسم (2أي 26: 11-19) الذي يُختم عليه علامة رضا الرب للذين يستحقُّونه](9) - القديس كبريانوس.

10. الله يردُّ قلب يهوذا إليه: [نقرأ في أسفار أخبار الأيام: «وكانت يد الله في يهوذا أيضاً، فأعطاهم قلباً واحداً ليعملوا بأَمر الملك والرؤساء حسب قول الرب» (2أي 30: 12)... هل رجال الله الذين كتبوا هذه الأشياء - بإرشاد روح الله نفسه - كتبوها مُغايرة لإرادة البشر الحُرَّة، بعيداً عن فكرهم وانطباعهم؟! كلاَّ، بل الله قـد أودع (البشر) كلاًّ من الأحكام الصالحة وأسمى المعونات المملوءة رحمةً للكُليِّ القدرة في كـلِّ الأحوال. لأنـه يكفي لبني البشر أن يعرفوا أنه لا يوجد مع الله شيء غير صالح.

لكن، كيف يوزِّع الله هـذه الخيرات، جاعلاً البعض مستأهلين أن يكونوا آنية للَّعنة، وآخرين مستحقِّين أن يكونوا آنية للرحمة، الذين عرفوا فكر الله أو صاروا له مُبشِّرين باسمه؟ فإذا حظينا بفضل نعمته، ليتنا لا نكون غير شاكرين فننسب لأنفسنا ما قد حصلنا عليه: «لأنه أي شيء لنا ولم نأخذه؟» (انظر 1كو 4: 7)](10) - القديس أوغسطينوس.

11. البار يحوز على هذا اللقب: [مكتوبٌ في سِفْر أخبار الأيام: «(سقط حزقيَّا) لأن قلبه ارتفع» (2أي 32: 25). بالتأكيد، فإنه لا يُنكر أحدٌ أنَّ حزقيَّا كان رجلاً بارّاً إلاَّ إذا كان المدَّعي عليه رجل شرير. قد تقول: ”لقد أخطأ في أمور مُعيَّنة، لذلك فلم يَعُدْ بارّاً“. ولكن السِّفْر لم يَقُلْ هذا. فهو لم يفقد لقب البار لأنه اقترف ذنوباً صغيرة، ولكنه حاز على هذا اللقب لأنه قام بأعمالٍ حسنة كثيرة. قُلْ كل هذا لتُبرهن، بشهادات الكتاب المقدَّس، أنَّ الأبرار ليسوا خُطاة لمجرَّد كون‍هم قد أخطأوا في بعض الظروف، ولكنهم ظلُّوا أبراراً لأن‍هم أفلحوا في فضائل كثيرة.

أمَّا يوشيَّا فقد كُتِبَ عنه: «وعمل المستقيم في عينَي الرب وسار في طريق داود أبيه ولم يَحِدْ يميناً ولا شمالاً» (2أي 34: 2). ومع ذلك، فإنه بالرغم من كونه كان رجلاً بارّاً إلاَّ أنه في زمن الحاجة وعند الضرورة ال‍مُلحَّة، أرسل حِلْقيا إلى خَلْدَة النبيَّة امرأة شلُّوم بن تُوقَهَة بن حَسْرَة حارس الثياب، وقال: «هي ساكنة في أُورشليم في القسم الثاني... فقالت لهم: ”هكذا قال الرب إله إسرائيل: قولوا للرجل الذي أرسلكم إليَّ...“» (2أي 34: 23،22). وكانت هذه الكلمات تتضمن توبيخاً خفيّاً للملك والكهنة وكل الشعب، لأنه لا يمكن أن يوجد أي قديس في وسط الشعب يستطيع أن يتنبَّأ عن المستقبل](11) - القديس جيروم.

(يتبع)

(1) St Gregory of Nazianzus: On Theology, Theological Oration 2 (28) 21 (NPNF 27: 296).
(2) St. Aphrahat: Demonstration 4.8 (CS 101: 12).
(3) St. Cyprian: Exhortation to Martyrdom (FC 36: 326).
(4) St. Jerome: Against the Pelagians 2: 21 (FC 53: 329).
(5) St. John Chrysostom: Homilies on the Gospel of St. John 64.2 (FC 41: 195).
(6) St. Basil the Great: On Humility (FC 9: 483).
(7) St. Augustine: On Grace & Free Will 21.42 (FC 59: 301).
(8) St. Jerome: Against the Pelagians 2.21 (FC 53: 329-30).
(9) St. Cyprian: The Unity of the Church 18 (LCC 5: 136-37).
(10) St. Augustine: Two Letters of the Pelagians 37-38 (NPNF 15: 389-90).
(11) St. Jerome: Against the Pelagians 2.22 (FC 53: 332).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis