من تاريخ كنيستنا
- 156 -


الكنيسة القبطية في القرن التاسع عشر
البابا كيرلس الرابع
البطريرك العاشر بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1854 - 1861م)
- 5 -

«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

(تكملة) شراؤه أول مطبعة للكنيسة:

كـان هناك تعهُّد مـا بين البطريـركية وقَلَم المطبوعات الأميريـة لتجهيز الحـروف وطَبْع الكُتُب، وما زالت بالمكتبة البابوية بالقاهرة أربعة خطابات تؤيِّد هذا التعهُّد، وهي هكذا:

+ ناظر قَلَم الروضة والمطبوعات رفعتلو بك،

المائة واثنين وأربعون رطل حروف المُبيَّنين أعلاه، البالغ مقدارهم بالأُقة إحدى وخمسين وربع لازمـين لأشغال الكُتُب الجـاري طبعها بمطبعة الحـروف بالمدارس. وحيث إنَّ الأمـر كما ذُكِرَ، نؤمِّل تدارُك تلك الأصناف من محل وجودهم أفندم.

رئيس مطبعة الحروف

موسى شرف (ختم)

+ عمـوم مكاتب أهلية وكيل عزتلـو أفندم حضرتاري،

الأصناف المُوضَّحة يمينه، لزومها ضروري للمطبعة ومُقتضى الآن تدارُكها. فنؤمل صدور الأمر بما يقتضي أفندم.

(توقيع) ناظر مطبوعات الروضة

على فهمي (ختم)

+ 27 الحجة سنة 1292ه‍.

جناب ناظر بطريركخانة الأقباط الأرثوذكس،

كتعهُّـد جنابكم، يلـزم أن تـورِّدوا بمطبعة المدارس الخمسون أُقة رصاص السابق التحرير لجنابكم بتوريدهـا مـع الواحد والخمسين أُقـة وكسور الواردين في إفادة حضرة ناظرها، هذه الرقيمة 27 الحجة سنة 1292ه‍. وبموجب سند الاستلام تصير المحاسبة وفقاً للأصول الجارية.

ناظر معارف وأوقاف م.

+ 29 الحجة سنة 1292ه‍.

ولدنا الخواجا رزق جرجس،

اطِّـلاع حضرتكم على شرح سعادة ناظر المعارف والأوقاف باطنـه رقم 26 الحجة سنة 1292ه‍. نمرة 43 سايرة كاف، وبمعرفة جنابكم يجري المُقتَضَى لِمَا هو لازم ودُمتم.

بطريرك الأقباط(1)

+ وهـذه الخطابـات تـدلُّ على أنَّ البابـا الإسكندري وضع الخطة اللازمة لسَيْر المطبعة حالما تصل، وهي تدلُّ أيضاً على اهتمامه وشغفه بالعلم وبنَشْره.

+ ويـوم أن وصلت الباخـرة الحاملة للمطبعة إلى ميناء الإسكندرية، كـان أبـو الإصلاح في دير القديس أنبا أنطونيوس، فأرسل إلى وكيل البطريركية يطلب إليه استقبال المطبعة استقبالاً حافـلاً، حيث يلبس الكهنة والشمامسة ثيابهم الكهنوتية والشمَّاسية التي يرتدونها وقت تأدية الشعائر المقدَّسة، ويسيرون أمامها وهم يترنَّمون بالألحان(2).

+ ومـرَّة أخرى، ثـار عليه بعض أبنائـه، زاعمين أنَّ هـذا العمل ”بدعـة“! ولمَّا عاد من الدير، أعربوا له عن رأيهم هذا. فأجابهم للفور: ”لو كنتُ في الإسكندرية ساعة وصول المطبعة لرقصتُ أمامها، كما رقص داود النبي قديماً أمام تابوت العهد (2صم 6: 14)“. وإذ رأى الدهشة مُرتسمة على وجوههـم، قـال لهم: ”لستُ أُكرِّم آلة الحديـد، ولكني أُكرِّم المعرفـة التي ستُنشر بواسطتها“. فاقتنعوا واعتذروا له عمَّا بَدَر منهم.

بداية نَشْر الكُتُب،

وبَدَأَها بتنظيم المكتبة البابوية:

+ ولمَّا كـان البابا كيرلس الرابع يستهدف، من وراء المطبعة، نَشْر الكُتُب الكنسية والتعليمية، فقـد وجَّـه اهتمامه بعد ذلك إلى تنظيم المكتبة البابوية، التي كـان سَلَفَه العظيم (البابـا بطرس الجاولي) قـد أنشأهـا. فأصدر أَمـره بجَرْد كل الكُتُب التي كانت موجودة بها آنذاك، وإصلاح التالـف منها، ووَضْـع كـل نـوع منها مـع ما يُضاهيه، وإلصاق ورقة على كعب كـل كتاب يُكتَب عليها اسـم الكتاب واسـم مؤلِّفه. ثم اختار مكانـاً داخل القاعـة الكبرى بالقلايـة البابوية، ووضع بها دواليب مـن الخشب، مُـرتكنة نحو جهتيها القبلية والبحريـة، فرتَّب واحداً وعشرين دولاباً على هذا النحو(3).

منافسة الكاثوليك للبابـا كيرلس الرابع في نَشْر العلم: فإنـه على الرغم من نشاط البابا كيرلس الرابـع وهمَّتِهِ في نَشْـر العلم بمختلف الوسائل، فقد بـدأ الكاثوليك بفَتْح مدرسة خاضعة لرعاية الرهبان الفرنسيسكان(4).

وقـد كانت الإرساليات الكاثوليكية قد بَدَأَت في الظهور في مصر منذ عهد محمد علي الأب والجد الأكبر لحُكَّام مصر. ومنـذ أن افتُتِحَـت في مصر طائفة قبطية تتبع بابا روما في إيطاليا، فقد ازدادت الإرساليات الكاثوليكية في مصر. وسنرى في العهد الذي أتى بعد سعيد باشا وبعد الاحتـلال الإنجليزي لمصـر (1882م)، بـدء وصـول الإرسـاليات الإنجليزيـة البروتستانتية أيضاً إلى مصر، وتبعها بعد ذلك وصول الإرساليات الأمريكية البروتستانتية.

اهتمام البابا كيرلس الرابع بالرعاية الكنسية للأقباط: فقد أدرك البابا أبو الإصلاح، في نفس الوقت، أنَّ الكاهن الواعي لمسئوليته تجاه رعاية الشعب المسيحي، هـو دعامـة الحياة الروحية. فكان يعقد الاجتماعات الأسبوعية لكهنة القاهرة، ويستمع إلى اختباراتهم واقتراحـاتهم بخصوص الرعاية المسيحية للأقباط، لأنـه كان مؤمناً بأنَّ الرعايـة الروحية للعائلات والمؤمنين المسيحيين هي الأساس لنجاح رسالة الكنيسة.

وهذا هـو السبب أيضاً في اهتمامه بإحضار المطبعة، لتكـون المُعين للرعـاة في رعـايتهم الروحيـة للشعب، وذلك بإصدار الكُتُب التعليمية عن الإيمان المسيحي.

+ وكـان اهتمام البابا كيرلس الرابع بتعليم، ليس فقط الأولاد، بـل والبنات أيضاً، لأنـه كان يوقن بأنَّ ”الإصلاح الشامل ينبغي أن يبدأ برجل الدِّين وينتهي إلى الطفل؛ كما يبدأ بالطفل وينتهي إلى رجل الدِّين. فالإصلاح الحقيقي، إذن، يجب أن يسير في الاتِّجاهين معاً، لا في اتِّجـاهٍ واحد. لقـد انتصر أبـو الإصـلاح القبطي للعلم، العلم للولد والبنت، ثم العلم لرجـل الدِّين. فكان جميلاً ببطريرك روحاني أن يرفع من قَدْر العِلْم، ويُعلي منارته...“(5).

+ وكان البابا كيرلس الرابع يَعْهَد إلى القمص جرجس ضبيع(6) خـادم كنيسة ديـر الملاك البحري، الذي كـان مُتضلِّعاً في العلوم العقيدية، والذي كَتَبَ كتابـاً بعنـوان: ”المختصر في تعليم دين المسيح المنتصر“(7)، بشرح العقيدة للشعب.

علاقـة البابـا كيرلس الرابع بعلماء الأزهر وبالأستاذ الأكبر: كـان البابا كيرلس الرابع يعقد حلقات مُذاكـرة ومُناظرة علمية مع كبار العلماء في جوٍّ من الأُلفة والمحبة والسماحة، وكان السادة العلماء يُبادلونه حبّاً بحبٍّ(8).

البابـا كيرلس الرابع يهتم بالأوقـاف وإدارة البطريركية: فقـد أنشأ البابـا للأوقـاف وإدارة البطريركية ديوانـاً، وعَهَدَ إلى المسئولين عـن الأوقاف بمراجعة مـا يدخلها ومـا يخرج منها، وتقديم التقارير عنها. كما عيَّن لرئاسة هذا العمل ”إبـراهيم أفندي خليل“. وإلى جانب هـذا العمل الإداري، أنشـأ قسماً يختصُّ بـالأعمال الدينيـة والشرعية تحـت رعايـة أحـد الكهنة ورئاسة مطران القاهرة. كذلك أَمَرَ بإنشاء سِجِلاَّت لحَصْر جميـع الأوقـاف مـن واقـع الحُجج الشرعية الموجودة، وأَشرَفَ هو عليها بنفسه.

قيام نزاع بين حكومة مصر

وحكومة الحبشة (إثيوبيا):

+ فقد حدث هذا النزاع بين الحكومتين حول الحدود الفاصلة بين الدولتين، إذ كان سلطان مصر آنذاك يشمل القطر السوداني بأكمله. فـرأى محمد سعيد باشـا أن يوفِد البابـا كيرلس ليتفاهم مع ”النجاشي“ (ملك إثيوبيا) لِمَا له مـن دالَّة، بوصفه الأب الروحي للأحباش (الإثيوبيين). وبالطبع لبَّى البابا كيرلس طلب الوالي، رغم إدراكه لوعورة السَّفَر إلى إثيوبيا التي اختبرهـا حين سافـر قبل رسامته البابوية. وجـاء سَفَره مُفاجأةً لأبنائه، إذ لم يعلموا بـه إلاَّ عند قيامه. وقـد جهَّز الوالي سفينة وأوفد مع البابا اثنين مـن ”الأغوات“ الأتراك (جمع ”أغـا“، وهـو لقب عسكري في الدولة العثمانيـة قديماً للقادة العسكريين). فكانت فرصة انتهزهـا أبو الإصلاح المُتطلِّع دومـاً إلى المعرفة ليتعلَّم مـن الأغوات اللغة التركية خلال السَّفَر.

+ وكان لجوء الوالي سعيد باشا إلى البابـا كيرلس الرابع مـن أجـل إحـلال الصداقة بين الحكومتين المصريـة والإثيوبيـة محل العداء، وتجنُّباً لنشوب حرب بينهما؛ أَمراً طبيعياً يتمشَّى تماماً مـع السياسة التقليديـة التي جَرَت عليها الحكومات المصرية مـن قبل، كما يتوافق أيضاً مـع الدور الذي قامت بـه الكنيسة القبطية في العلاقات بين مصر والحبشة (إثيوبيا)(9).

تداخلات الإنجليز للوقيعة بين

البابا كيرلس الرابع وبين سعيد باشا:

+ فقد كـان الإنجليز حاقدين على البابا كيرلس الرابـع لانتصاره في سَفَره الأول إلى الحبشة، إذ رأوا أن ينتهزوا الفرصـة ليُوقعوا بالبابـا كيرلس الرابع. فأوعزوا إلى سعيد باشا أن يذهب على رأس جيشه إلى الخرطـوم، لأن البابـا قد ينضمُّ إلى النجاشي في مَطْلَبه، لكونه من نفس دِينه! وفي نفس الوقت، قالوا لثيئودورس إمبراطور الحبشة بأنَّ البابا القبطي إنما جـاء ليُخدِّر أعصابـه ويُهيِّئ الفرصة لسعيد باشا لأن يحتل ما يريد احتلاله من الحدود الحبشية! وكـان ثيئودورس فعلاً رجلاً عنيفاً مُندفعاً لا يعـرف الاعتـدال في أيِّ شيء. فحين سمع باقتراب البابا كيرلس الرابع من حدود دولته، خرج لاستقباله في موكبٍ حافل على مسيرة ثلاثة أيام من العاصمة. ثم دخل البابا إلى مملكة الحبشة في هذا الموكب الوجيه. ولم يكدْ البابا يُفاتح الإمبراطور في المهمَّة التي جـاء مـن أجلها، وهي وقف اعتداء الأحباش على الأمـلاك المصريـة وتعيين الحدود بصفةٍ نهائيـة؛ حتى أبـدى الإمبراطـور استعداده للاستجابة، وحرَّر مشروع اتِّفاق بالصُّلْح لتوقيعه، وزاد على ذلك، بـأن طَلَبَ خبراء مصريين لصُنْع الأسلحة لجيشه(10)! (يتبع)

(1) توفيق اسكاروس، جزء 2، ص 156-157؛ عن: ”قصة الكنيسة القبطية“، إيريس حبيب المصري، الكتاب الرابع، ص 324.
(2) علَّقت مجلة ”الهلال“ الشهرية على هذا الحَدَث بقولها: ”والاحتفال بالمطابع الجديدة دليلٌ على احترام العلم والرغبة في تعميمه بين سائر طوائف الشعب. وأول احتفال جرى من هذا النوع وفي الديار المصرية، كان احتفال الأنبا كيرلس الرابع بطريـرك الأقباط الأرثـوذكس المتوفِّي سنة 1861م، وهو من أكبر رجال الإصلاح من الطريق القويم. فإنه أول مَن أنشأ مدرسة قبطية، ومطبعة وطنية، ولم يكن في مصر آنذاك غير المطبعة الأميرية (الحكومية). فبعث إلى أوروبـا واستحضر مطبعة. فلما عَلِمَ بوصـولها إلى ميناء الإسكندرية - وكان هو في الدير بالجبل - بَعَث إلى وكيل البطريركخانة بالإسكندرية يأمره باستقبال تلك الأدوات عند وصولها إلى القاهرة باحتفالٍ رسمي، يقوم فيه الشمامسة - وهم بالملابس الرسمية المختصَّة بالخدمة الكنسية - بإنشاد التراتيـل الروحية. وكان لاستقبال تلك المطبعة احتفالٌ تحدَّث الناس بـه زمناً، لغرابته“. عـن: توفيق اسكاروس، جـزء 2، هامش ص 89-90؛ عـن: ”قصة الكنيسة القبطية“، المرجـع السابق، ص 89-90.
(3) توفيق اسكاروس، جزء 2، ص 144-145.
(4) جرجس سلامة، ص 43.
(5) من خطاب دكتور وهيب عطا الله (المتنيِّح نيافة الأنبا غريغوريوس) في حفل الذكرى المئويـة الأولى لأبي الإصلاح - ص 20؛ عن: ”قصة الكنيسة القبطية“، نفس المرجع السابق، ص 326-327.
(6) هذا القمص هو والد الأَرخن المعروف ”حنا بك جرجس ضبيع“ مـن رؤساء حسابات المالية؛ عـن: توفيق اسكاروس، جزء 2، ص 138.
(7) نرى من عنوان هذا الكتاب أنَّ القمص كان من بين كهنة الكنيسة القبطية الذين كانوا يهتمون بتوضيح العقيدة لشعبهم.
(8) من خطاب الأستاذ ”عبد الحليم إلياس نصير“، من أراخنة الأقباط في القـرن العشرين، الذي ألقـاه في حفل الذكرى المئوية الأولى للبابا كيرلس الرابع؛ عـن: ”قصة الكنيسة القبطية“، المرجع السابق، ص327.
(9) كما حدثت هذه الوساطة سابقاً، عند إيفاد الخليفة المستعلي للأنبا ميخائيل الرابع إلى النجاشي لمفاوضته في أَمْر مياه النيل في الربع الأخير من القرن الحادي عشر (”تاريخ الكنيسة القبطية“، جزء 3، تحت الطبع).
(10) من خطاب ”زاهر رياض“ في حفل الذكرى المئوية الأولى للبابا كيرلس الرابع، ص 41. راجع هامش (5).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis