من تعاليم الآباء


الفرح الموعود به
للقديس كيرلس الكبير
(375-444م)



+ «بعد قليل لا تُبصرونني، ثم بعد قليل أيضاً تَرَوْنَني، لأني ذاهبٌ إلى الآب» (يو 16: 16).

ما هو هذا القليل(1)؟

منذ قليل قال المسيح لتلاميذه إنه سيكشف لهم بروحه القدوس كـل الأمور الضرورية والمُفيدة لهم. والآن ها هوذا يُخبرهم أيضاً عن آلامه، ثم يأتي بعد ذلك صعوده إلى السماء الذي سيتبعه ذلك الحلول الضروري للروح القدس. وإذ يرجع إلى الآب، فلـن يكـون هناك أيُّ حديث مُتبادَل - بالجسد - بينه وبين تلاميذه القدِّيسين.

إنـه يستخدم كلماتٍ قليلة لكي يُقلِّل مـن شدَّة حُزنهم، لأنـه عَلِمَ أنَّ تلاميذه سيُواجهون مخاوف ليست هيِّنة، وأنهم كانوا على وشك أن يُمتَحَنوا بأقسى أنواع الحزن النافذ إلى الأعماق: بقاؤه في قبرٍ مُخيف، وشرور غير مُحتَمَلة ستُحْدِق بهم، ثم صعود المُخلِّص إلى أبيه في السماء تاركاً إيَّاهم منفردين.

وعلى ما أعتقد هذا هو سبب أنه لم يَقُل لهم علانيةً إنه على وشك أن يموت، وإنَّ غضب اليهود الشديد كان موشِكاً أن يُنهي على حياته. ولكنه بكلِّ لُطفٍ مَزَجَ كلماته بكثير من الرقَّة، وأَظْهَر لهم أنَّ مُعاناته الآلام سيتبعها سريعاً الفرح بقيامته، لذلك قال لهم: «بعـد قليل لا تُبصرنني، ثم بعـد قليل أيضاً تَرَوْنَني»، لأن وقت موته كان حينئذ قد اقترب. وهكذا – بحسب نبوَّة الرب – سيؤخذ الرب من أمام عيون تلاميذه، ولكن لوقتٍ قليل بالتأكيد، أي إلى أن يُحطِّم قوَّة الجحيم، ويفتح أبواب الظُّلمة ليُخْرِج الذيـن سكنوا هنـاك، ثم يُقيم هيكله (أي جسده) مرَّةً ثانية (يو 2: 19).

وهذا ما تمَّ بالفعل، ولمَّا ظهر لتلاميذه مرَّةً أخرى، وَعَدَهم أنـه سيبقى معهم كل أيام هـذا الدهر كما هو مكتوبٌ في (مت 28: 20).

لأنه رغم أنه سيكون غائباً بالجسد، إلاَّ أنَّ وجوده أمام الآب من أجلنا وجلوسه عن يمين أبيه، معناه أنه يسكن في الأبرار من خلال روحه القدوس، ويظلُّ هكذا واحداً مع قدِّيسيه إلى الأبد، لأنه وَعَدَ أنه لن يتركهم يتامَى (يو 14: 18).

لقد تبقَّى القليل حتى يحين وقت آلامـه. إنـه يقـول: «بعد قليل لا تُبصرونني»، لأنـه سوف يختفي لوقتٍ قليل بالموت. ثم يقول: «ثم بعد قليل أيضاً تَرَوْنَني»، لأنه سيقوم خلال ثلاثة أيام فيها «كَرَز للأرواح التي في السجن» (1بط 3: 19). لأنه بهذه الطريقة جسَّدَ كمال حُبِّه للبشر، إذ أنه خلَّص ليس فقط الساكنين على الأرض، ولكنـه نزل ليُبشِّر بالحريـة للذيـن عَبَروا هـذه الحياة وكـانوا جالسين في الظلمة وفي أعماق الجحيم (انظر لو 1: 79).

«حزنكم سيتحوَّل إلى فرح»:

لاحِظ أيضاً بأيَّة طريقة يتكلَّم عن آلامه وعن قيامته: «بعد قليل لا تُبصرونني، ثم بعد قليل أيضاً تَرَونَني»، ولكنه يُضيف: «لأني ذاهبٌ إلى الآب». لقد صَمَتَ بخصوص الباقي كله، لأنه لا يُشير إلى طول الوقت الذي سيبقى فيه هناك، أو متى سيرجع، أو لأيِّ سـبب؟ لأنـه - طبقاً لكلمـات المخلِّص نفسـه - ليس لنا أن نعـرف «الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سُلطانه» (أع 1: 7).

+ «فقال قومٌ مـن تـلاميذه، بعضهم لبعض: ”ما هـو هـذا الذي يقولـه لنا: بعد قليل لا تُبصرونني، ثم بعـد قليل أيضاً تَرَوْنَني، ولأني ذاهبٌ إلى الآب؟“. فقالوا: ”ما هـو هذا القليل الذي يقول عنه؟ لسنا نَعْلَم بماذا يتكلَّم!“» (يو 16: 18،17).

( إنَّ الرسـل المُختاريـن بطريقـةٍٍ إلهية، يتساءلون فيما بينهم عن معاني هذه الكلمات، ثم ها هم يشكُّون في كلامه. ولكن المسيح سبق تلهُّفهم على سؤاله بأن أَظْهَرَ لهم مرَّة أخرى أنه كإله يعرف قلوبهم وما يحدث فيها؛ بل وحتى مـا في أعمـاق نفوسهم وكـأنهم عـبَّروا عنه بألسنتهم. لأني أسأل ما الذي يمكن أن يُخْفَى عن ذاك الذي كل شيء عُريان ومكشوف أمامه (عب 4: 13)؟ كما يقول أيضاً على فم واحدٍ من قدِّيسيه: «فمَن ذا الذي يُخْفي القصد عنك؟ أو مَن الذي يكتم كلماته ويظنُّ أنه يُخفيها عنك؟ ومَن يُخبرني بما لا أعرفه، بأمور عظيمة وعجيبة لا أفهمها؟» (أي 42: 3 - حسـب الترجمـة السبعينية). حقّاً إنه يُساعدهم بكلِّ وسيلة، ويضع أمامهم الفرصة جاعلاً نفسه المؤسِّس لإيمانٍ ثابت لا يتذبذب.

+ «فعَلِمَ يسوعُ أنهم كانوا يُريدون أن يسألوه، فقال لهم: ”أَعَـنْ هـذا تتساءلون فيما بينكم، لأني قُلتُ: بعد قليل لا تُبصرونني، ثم بعد قليل أيضاً تَرَوْنَني؟ الحقَّ الحقَّ أقول لكم: إنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح. أنتم ستحزنون، ولكن حُزنكم يتحوَّل إلى فرحٍ“» (يو 16: 20،19).

( استجابةً لشغفهم أن يعرفوا ما تعنيه كلمات المُخلِّص، فهو يتكلَّم بأكثر علانية عن آلامه وعمَّا هو مزمع أن يتحمَّله، ويَهَب لهم أن يعرفوا كل هذا مُسْبقاً وبطريقةٍ نافعة لنفوسهم. ولم يكن هذا لكي يُصيبهم بأسى سابق لأوانه، ولكن لكي بهذه المعرفة يُعِدَّهم ويُشدِّدهم ضد الخوف الذي لابـد أنه سيُهاجمهم، لأن حلول التجربة المتوقَّع أهون في قسوته بكثير مِمَّا لو كان غير متوقَّع بالكلِّية.

( وعلى ذلك فعندما تَـرَوْنَ أيها التلاميذ الحقيقيون الأحبَّاء سيِّدكم وربكم صابـراً على الضربـات والشتائم مـن اليهـود القساة القلوب، فستبكـون وتنوحـون، ولكـن العالـم سـيفرح. والمقصود بالعالم أولئك الذين لا تعنيهم الأمور التي تُرضي الله، بل التي تُشبِع رغبات هذا العالم.

( هنا أيضاً يُلفت الرب نظرنا إلى أنَّ عامة اليهود، وجماعة الرؤساء غير الأتقياء وهم الكهنة والفرِّيسيون، إذ يشتعلون بالحقد على المُخلِّص سيسخرون منه قائلين: «يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خَلِّص نفسك! إنْ كنتَ ابـن الله فانزِلْ عن الصليب!» (مت 27: 40)، لأن هـذه كانت تعبيرات قاسية آتية من أفواه اليهود.

( ولكن بينما سيفعل الدنيويون ويقولون مثل هذا، (كأنَّ) الرب يقول لتلاميذه: ”إنكم ستحزنون، ولكنكم لن تقاسوا هكذا طويلاً، لأن حزنكم سيتحوَّل إلى فرح. إنني سأنهض ثانيةً وسأنزع كـل سبب للحزن، وسأضع حـدّاً لدموعكم، وأدعوكم لفرحٍ لانهائي في داخل النفس، لأن فرح المُطوَّبين هو بلا نهاية“. ولأن المسيح يحيا إلى الأبد، ففي المسيح فَقَدَ الموت فاعليته لكلِّ الناس.

( ولكن جيِّد أن نحفظ في فكرنا أنَّ الناس الدنيويين بدورهم سيظلُّون في عذابٍ إلى الأبد، لأنه إن كان بسبب المسيح المائت بالجسد قد امتلأ تلاميذه بالحزن، فإنَّ ما سبَّب حزنهم هـو نفسه مـا سبَّب فرح العالم؛ بـل منذ أن غُلِبَ الموت والفساد ونهض مُخلِّصنا من الموت، فقد صار الأمر كذلك: فإنَّ نَوْحَ الأبرار يتحوَّل إلى فرح، أما فرح الدنيويين فيتحوَّل إلى حزن.

«لا ينزع أحدٌ فرحكم منكم»:

+ «المرأة وهي تلد تحزن لأن سـاعتها قـد جاءت، ولكن متى وَلَدَت الطفل لا تعود تذكُر الشدَّة لسبب الفرح، لأنه قـد وُلِدَ إنسانٌ في العالم. فأنتم كذلك، عندكم الآن حزن. ولكني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحـدٌ فرحكم منكم» (يو 16: 22،21).

( إنَّ الرب يفيض على تلاميذه تعزيةً، ويُشبعهم بأحاديثه المتعدِّدة بوسائل تحُدُّ مـن شدَّة حـزنهم. فانظر هنا كيف يُشجِّعهم بمثالٍ طبيعي جداً (ساعة ولادة المرأة) أن يتحمَّلوا كل شيء بشجاعة، وأن لا يخوروا من الآلام أو الأحزان، لأن هذه كلها ستتحوَّل إلى فرح. لأنه – كما يقول – فإنَّ الثمرة التي ستتولَّد عـن غُصَّة الآلام الحادة المُفاجئة هي طفلٌ مولودٌ جديد. وبدون آلام الولادة لا يمكن للأُمهات أن يحصُلْنَ على أطفال؛ وإذا رفضن تحمُّل هذه المُنغِّصات، فلن يصِرْنَ أُمهات إطلاقاً. فالجُبن يؤدِّي إلى خسارة أيَّة ملكية مُشتهاة.

( لأجل هـذا السبب عينه، فإنَّ آلامكم لن تكون بدون مكافأة، لأنكم ستفرحون عندما تَرَوْنَ الضيف العجيب يُولد كطفلٍ في العالم، غير قابلٍ للفساد أو الهلاك. إنه طبعاً يتكلَّم عن نفسه، لأنه يقول إنَّ الأبديـة وعدم القابلية للهلاك ستكونان هما فرحنا فيه، لأنه حسب صوت بولس الرسول أو حسب صوت الحق ذاتـه: «لا يسـود عليه الموت بعد. لأن الموت الذي ماتـه قـد ماتـه للخطية مرَّةً واحدة» (رو 6: 10،9).

( حسب كلمات مُخلِّصنا: لن ينتَزِع أيُّ إنسانٍ الفرح من الإنسان القدِّيس، ولكن انتُزِع بشدَّة من الذين سمَّروه على الصليب. وفي حين أنَّ آلامه قـد انتهت، فهُم ينبغي حتماً أن يُقاسوا من حزن لانهائي، هؤلاء الذيـن اعتقدوا أنهم بسبب آلام المسيح سيكونون سُعداء.

( ولكن الفرح الذي يأتي إلينا مـن الرب سيدوم معنا بلا نهاية؛ لأنه إذا كان موت المسيح قد جلب لنا الحزن، فمَن ينزع فرحنا منَّا نحن الذين نَعْلَم أنه الآن حيٌّ وسيظلُّ إلى الأبد رئيساً وواهباً لأمورنا الروحية السامية!

(1) من تفسير القديس كيرلس الكبير على إنجيل يوحنا 16: 16-22.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis