|
|
|
عمل الخلاص الذي أتى المسيح ليُتمِّمه (13)
ثانياً: المسيح الكاهن الأعظم (6) تقديم المسيح نفسه ذبيحة من أجل حياة العالم
لقد كان معنى الموت عنده أنه يتألَّم ويموت من أجلنا نحن البشر كثمنٍ باهظ، فقد كان موته حقيقياً بكل ما في كلمة ”الموت“ من معنى، وكان سيؤول إلى الحياة الأبدية للبشر، كل مَن يؤمن ويعتمد (مر 16: 16).
تألَّم
إنَّ تألُّمه لم يكن مجرَّد ألم جسدي، بالرغم من أنه كان هكذا فعلياً، فقد استوعب الرب يسوع كل عنف الغضب البشري العارم والوحشي الذي لم يسبقه موت مثله؛ هذا حوَّله المسيح إلى مجال الحب الإلهي للبشرية بأكملها، من آدم إلى آخر الخليقة.
+ لقد تقبَّل المسيح بإرادته كل هذه الآلام التي عاناها في حياته، وعلى الأخص التي عاناها في أيامه الأخيرة، وتقبَّل بكامل إرادته آلامه المبرِّحة، جسدية كانت أم نفسية، الماضية أو الآتية، الشخصية منها أو المختصَّة بأشخاصٍ آخرين، النفسية الباطنية منها - وهي أصعبها - والخارجية في جسده أيضاً(1). ثم في خيانة تلميذه يهوذا، وفي إنكار بطرس أنه يعرف المسيح، ثم في محاكمته أمام السنهدريـم (المجمع الذي يضمُّ رؤسـاء الكهنة والفرِّيسيين)، ثم استهزاء الجنود الرومـان بـه، وشتائـم المارة المُتفرجـين واستهزائهم، إضافةً إلى الآلام المبرِّحـة التي احتملها والتي كانت مُغَلَّفة برفض اليهود له، وكراهيتهم، وشتائمهم، وأكاذيبهم؛ بـالإضافة إلى روح الانتقام التي عبَّروا بها عمَّا يعتمل في نفوسهم: «وكان المجتازون يُجدِّفون عليه وهم يَهُزُّون رؤوسهم، قائلين: ”... إن كنتَ ابن الله فانْزِلْ عن الصليب!“» (مت 27: 40،39).
الطريق إلى الجلجثة:
لماذا كُتِبَت الأنـاجيل الأربعـة؟ إنَّ السبب الرئيسي لكتابة الأناجيل الأربعة، هي لكي تشهد كيف أنَّ المسيح - وهو المسيَّا ابن الله - تألَّم ومات على الصليب.
وقبل موته، فقد كان كلُّ حَدَثٍ حدث للمسيح قبل موته يُشير - بلا تردُّد - إلى تاريخ يجب أن يُحفَظ، وأن موته كان الهدف من إرساليته للعالم، وكان لابد له من بلوغه، وساعةً لا شكَّ هي لابد آتية، وهـا هي الآن قد أتتْ: «قـد وجدنا مسيَّا (المسيح)» (يو 1: 39؛ 2: 4؛ 16: 14).
+ وحينما طلب تلاميذه منه أن يذهب معهم إلى ”عيد المظال“، أوضح لهم: «إن وقتي لم يحضر بعد، وأمَّا وقتكم ففي كلِّ حين حاضرٌ. لا يقدر العالم أن يُبغضكم، ولكنه يُبغضني أنا، لأني أشهد عليه أنَّ أعماله شريرة. اصعدوا أنتم إلى هذا العيد. أنا لستُ أَصعد بعد إلى هذا العيد، لأن وقتي لم يُكْمَـلْ بعـد» (يو 7: 6-8). إنَّ قراره بالذهاب إلى أورشليم سيكون هو القرار الأخير ولا رجعة فيه، لأنه سيكون مُحمَّلاً بآفاق وأشراك الموت.
”لابد أن يتألَّم“: وبناءً على ذلك، فإنَّ آلام المسيح كانت آلاماً ضرورية وحتمية لرسالته باعتباره المسيَّا المسيح: «ابن الإنسان ينبغي أن يتألَّم كثيراً... ويُقتل» (مر 8: 31)، ولا بديل! لقد كـان الرب يسوع يحاول أن يجذب انتباه تلاميذه إلى هـذه الحقيقة الكامنة وراء هـذه التضادَّة. لأن المُعضلة التي كانت عند التلاميذ، ليست في مجيء المسيَّا - المسيح؛ بـل في أنـه كان ”لابدَّ“ أن يتألَّم ويموت.
+ لقد بشَّر المسيح بأنَّ ملكوت الله لابد قادمٌ حالاً وعمَّا قريب مـن خـلال الأحداث التي ستتوالى وتنكشف من خلال خدمته، والتي سيبلغ أَوْجها في موته. لقد كان المسيح يرى في خدمته كما تنبَّأ بها أنبياء العهد القديم (إش 53؛ خر 32: 30-32)، وفي تحقيقها كما وَرَدَ في إنجيل مرقس (10: 45)؛ أنَّ «ابن الإنسان... لم يأتِ ليُخْدَم بل ليَخْدِم وليبذل نفسه فِدْيةً عن كثيرين» (مر 10: 45)، وأنَّ «هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يُسفَك من أجل كثيرين (أي ”الجميع“ - حسب قواعد اللغة العبرية)» (مر 14: 24). لقد كان الرب يسوع عارفاً بنبوَّات العهد القديم عنه وعن آلامه التي سوف تتحقَّق فيه.
+ ومن مدينة قيصرية فيلبُّس تحرَّك الرب يسوع، بـلا أدنى شفقة على نفسه، نحو «هـذه الساعة» التي كانت لابـد قادمة. وأخيراً وبينما كانت صورة الصليب مُرتسمةً أمام عينيه، صلَّى إلى الله أبيه: «أيها الآب، قـد أتت الساعة» (يو 17: 1). وحالما دخل إلى أورشليم مـن أجل البلوغ إلى أيامه الصعبة، صرَّح قائلاً: «لأجل هذا أتيتُ إلى هذه الساعة» (يو 12: 27).
+ وحينما حاول تلميذه بطرس أن يُدافع عنه، قـال له الرب يسوع: «اجعلْ سيفك في الغِمْد. الكأس التي أعطاني الآب أَلا أشربها؟» (يو 18: 11). في المسيحية ليس هناك سيفٌ بل صليب!
آلام المسيح: التنازُل المتواضع:
معنى آلام المسيح: آلام المسيح هي ما عاناه، وهي تتميَّز عن أعماله. وآلامه يمكن رؤيتها: إمَّا بالنظرة التقليدية فيما تُسمِّيه الكنيسة ”أسبوع الآلام“ فقط، وهي أيام الأسبوع الأخير من حياته؛ أو في معاناتـه منذ ولادتـه بالجسد التي انتهت على الصليب. وهـذا الأسـبوع الأخـير كـان مـليئاً بـالأحداث الكثيرة المتلاصقة التي أوضحت حقيقة شخصيته بأنـه ”المسيَّا - المسيح“، وبعمله العظيم للبشرية(2). لذلك ففي هـذه النظرة المُحدَّدة، فإنَّ كلمـة ”آلام“ تُستَخدَم كثـيراً ليتورجيـاً، أي في صلوات أسبوع الآلام والتي تـدور حـول خدمته الكهنوتية الذبائحية باعتباره ”حَمَل الله الذي يحمل على عاتقه خطايا العالم“ (يو 1: 29).
+ أمَّا في معناها المتَّسع: فإنَّ آلام الرب يسوع تتضمن كـل آلامه بالمعنى المتَّسع، أي بأحزانـه وآلامه اللتين عانـاهما طـوال فترة تجسُّده كلها: التجارب التي واجهها مثل تجربـة إبليس له في مستهل خدمته (مت 4: 1-11؛ مر 1: 13،12؛ لو 4: 1-13)، وحقد رؤساء اليهود له ورَفْض الكهنة ورؤساء الكهنة والفرِّيسيين وتوبيخهم له (مت 12: 24؛ يو 7: 1؛ 8: 6؛ 9: 16)، ثم آلامه ومعاناته الجسدية من جوع وعطش والسخرية منه وفقره المادي. ثم إنه تحمَّل المقاومة العدائية في بداية حياته كما وصفها القديس متى في مذبحة الأطفال في بيت لحم التي أَمَرَ بها هيرودس ملك اليهود ظنّاً منه أنَّ الطفل يسوع أحدهم، وكان مولوداً صغيراً بعد (مت 2: 16-18)؛ ثم في أنـه «ليس له أيـن يُسْنِد رأسه» (مت 8: 20)، وكما حدث في بكور حياته بهروبه إلى أرض مصر (مت 2: 13-18).
المتألِّم، هو ابن الله المتجسِّد: لقد تألَّم مثلما يتألَّم الآخرون، والتي آلامـه وقعت على جسده فقط (لأن اللاهوت لا يتألَّم)، وكانت تُفسَّر بطريقة مختلفة عن آلام الناس الآخرين، لأنه كان طاهراً وبلا خطية، بل هو الذي ”حَمَل خطايا العالم كله“ في بشريته التي اتَّخذها من أجلنا (يو 1: 29). فـالآخرون تألَّموا بسبب خطاياهم بـاعتبارهم بشراً واقعين تحت ضعف البشر؛ أمَّـا هـو ”الله المُتأنِّس theanthropos“، فهو لم يفعل خطية قط حسب قـوله: «مَـن منكم يُبكِّتني على خطيـة» (مت 8: 46).
+ وإذا كان آخرون قد تألَّموا بسبب مزيج من الذنب البشري أو لكونهم غير أطهار؛ إلاَّ أن المسيح تألَّم بلا ذنب اقترفه على الإطلاق! ولأن المسيح كان هو ابن الله الأزلي (أي الذي لا بداية له ولا نهاية)، فتكون آلامه لها معنًى آخر، وأن طبيعته طاهرة أبدياً.
الآلام التي وقعـت على جسـد المسيح: إنَّ الطريقة الفريدة التي تألَّم بها المسيح تجعلنا نفهمها على أنه ”ابن الله المتجسِّد“. فالمسيح لكونه لَبِسَ الجسد البشري فأصبح قابلاً للتألُّم بحسب طبيعة الأجساد البشرية؛ أمَّا من جهة لاهوته، فاللاهوت لا يتألَّم أبداً(3).
لقـد وصف القديس بـولس الرسول إجمالي خدمة المسيح على الأرض بأنه: «إذ وُجِدَ في الهيئة كإنسان، وَضَعَ نفسه (أي اتَّضع) وأطاع حتى الموت، موت الصليب» (في 2: 8). وقد ظهر تواضُعه الكامل في قبوله تنفيذ الحُكْم غير العادل عليه بالموت.
مراحل تواضُعه، ثم إعلان مجده:
- ولادته الجسديـة مـن العذراء القديسة مريم؛
- الشقاء الذي صادفه وعاناه في حياته على الأرض، ثم في موته ودفنه في قبر؛
- ثم في نزوله إلى مساكن الأرض السُّفلَى (الجحيم).
+ بحسب نظر الناس، فـإنَّ تنازُل الابـن المتجسِّد بلغ إلى دفنه في القبر، ثم بالنسبة لعالم الأرواح فإنَّ نزوله امتدَّ أيضاً إلى ”مواضع الأرض السُّفلَى“ (المُسمَّاة بـ ”الجحيم“). وكان ذلك هو آخر محطٍّ لتواضُعه ونزوله. ومِن هذا الوضع الأخير بدأ مجده يُستعلَن، حتى بلغ إلى القيامة من الموت، فالصعود إلى السماء والجلوس عن يمين الآب ومعه البشرية المُخلَّصة المُفتداة!
+ إنَّ نزولـه إلى مواضـع الأرض السُّفلَى، كـان بمثابـة تحقيـق أول انتصار لـه على الموت.
+ وبنفس الطريقة، كـان التجسُّد قـد جَمَعَ ما بين مجد التنازُل الإلهي لابـن الله الكلمة مع ولادتـه بالجسد، وفقره، ووقوعـه تحت حُكْم الشريعة، وفي يوم ولادته لم يكن له موضع في الفندق! ثم أخيراً أيام آلامه التي أدَّت إلى موته.
اندماجه مع الأدنياء (بحسب النظرة الدُّونيَّة لهم من جانب البشر): لقد اندمج الرب يسوع مع الخطاة المرذولين من المجتمع اليهودي المتعالي على الفئات المُهمَّشة من باقي الشعب اليهودي: «الله... جعـل الذي لـم يعرف خطيةً، خطيةً لأجلنا، لنصير نحـن بـرَّ الله فيه» (2كو 5: 21،20). وهكذا كانت الدعوة التي تولَّى القيام بها بأن قَبِلَ أولاً معموديته التي للخطاة على يد يوحنا المعمدان [الذي رَفَضَ أولاً قائلاً: «أنا أحتاج أن أتعمَّد على يدك. فكيف تجيء أنت إليَّ؟» (مـت 3: 14 - الترجمـة العربيـة الجديدة)]؛ ثم الدعوة التي استمرَّت طيلة حياته إلى أن نطق وهو على الصليب: «قد أُكْمل» (يو 19: 30)، أي أنه أَكمل في جسده موت الخطية التي للبشريـة كلها، وبهذا - وبقيامته - أَكمل عمله الأول كفادٍ للبشرية من حُكْم موتها.
غَسْل أقدام تلاميذه: هذا الحدث هو الوحيد الظاهر الذي مثَّل بصورةٍ مُصغَّرة عَظَمة المسيح في اتضاعه. فقد جلس على أرض الغرفة ليغسل أرجل تلاميذه (وهـو العمل الذي كـان يقوم به العبيد والخَـدَم في البيـوت ليغسلوا أرجـل ”أسيادهم“). وقد كان هذا العمل أروع نموذج أمام تلاميذه، بل والعالم أجمع وفي كل الأزمنة والعصور، رمزاً للتواضع الحقيقي. وهـذا هـو المرفوض مـن أصحاب مبدأ ”المساواة بـين البشريـة“ حديثاً! الـذي يُرحِّب بالمساواة بين البشر، ولكن يمتعض من خدمة وتواضع الأكبر للأصغر.
+ فإنه قبل عيد الفصح، وإذ عَلِمَ أنَّ زمانه قد اقترب، وأنه على وشك أن يُقبض عليه، «قام عن العشاء، وخلع ثيابه، وأَخَذَ مِنْشفة واتَّزَرَ بها، ثم صبَّ ماءً في مِغْسَلٍ، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويَمْسَحُها بالمنشفة التي كان مُتَّزراً بها» (يو 13: 5،4). وبهذه الطريقة كان يُظهِر رغبته في أن ينحني على الأرض ويخدم. وكان يُعلِّم تلاميذه وكل الذين سيأتون بعدهم أن تكون خدمتهم كاملة هكذا: «أَتفهمون ما قد صنعتُ بكم؟ أنتم تدعونني مُعلِّماً وسيِّداً، وحسناً تقولون، لأني أنا كذلك. فإن كنتُ وأنا السيِّد والمُعلِّم قد غسلتُ أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يَغسل بعضُكم أرجلَ بعض. لأني أعطيتُكم مِثَالاً، حتى كما صنعتُ بكم تصنعـون أنتم أيضاً» (يو 13: 12-15).
آلامه كانت مسبوقة بمعموديته من يوحنا: إنَّ نفس هـذا التنازُل مـع تلاميذه، والذي ظهر أخيراً على الصليب، كـان مسبوقـاً قبل ثلاث سنوات بمعمودية الرب يسوع بيد يوحنا المعمدان بـاعتباره المسيَّا - المسيح في نظـر النبوَّات القديمة: «أُحصي مع أَثَمَة» (إش 53: 11)، لأن معموديـة يوحنا كـانت للخطاة ليتوبوا والأَثَمَة ليسلكوا في طريـق البرِّ. فما حدث عند الصليب كان متوافقاً مع كـل ما حدث سابقاً في أسلوب حياته المتواضعة. وبـذلك، يمكن أن نعتَبِر بفهمٍ متَّسع أن آلام المسيح كانت تشمل كل حياته منذ تجسُّده من القديسة العذراء مريم.
آلام المسيح سبق التنبُّؤ بها من أنبياء العهد القديم: بالرغم من أن آلام المسيَّا - المسيح قد سبق التنبُّؤ بها في نبوَّات الأنبياء في العهد القديم، فإنها تستلزم الفعل الواقعي حتى يمكن فهم هذه النبوَّات على نحوٍ كـافٍ. والتحليل الذي يستعيد الحَدَث الواقعي مـن هـذه النبوَّات القديمة عـن المسيَّا - المسيح، يُشير إلى الآلام ما قبل وما بعد الصليب.
الدخول المنتصر إلى أورشليم كما ذكرته هذه النبوَّات: فقد تنبَّأ زكريـا النبي عـن مجيء ملك صهيون: «اهتفي يا بنت أورشليم، ها مَلِكُكِ يأتيكِ عـادلاً، مُخلِّصـاً، وديعـاً، راكبـاً على جحش ابـن أتـان» (زك 9: 29 – الترجمة العربيـة الجديدة). وقـد اعتُبِرَ دخول المسيح إلى أورشليم أنـه تحقيق لهذه النبوَّة. وفي حديث زكريا النبي عـن أعداء خراب أورشليم، أنه تنبَّأ عن نواح شعبٍ على شخصٍ طعنـوه: «فينظرون إليَّ الذي طعنوه ويندبونه كمَن يندبُ وحيداً له، ويتفجَّعون عليه كمَـن يتفجَّع على ابـن له بِكْر» (زك 12: 10 - الترجمة العربية الجديدة).
تطهير الهيكـل، سبق التنبُّـؤ عنـه: تطهير المسيح للهيكـل تمامـاً كما وَرَد في (مت 21: 12-17؛ مـر 11: 15-19؛ يو 2: 13-22)، سبق أن تنبَّأ عنـه إشعياء النبي (56: 7): «بيتي يُدعَى بيت صلاة لجميع الشعوب». وبذلك كـان الهيكل مُعَدّاً لمجيء ملكوت الله، ولاستخدام جميع الشعوب وليس الشعب اليهودي فقط.
(يتبع)
(1) John Chrysostom, Hom. on Matthew, LV; NPNF, 1, X, pp. 338-44.
(2) Lactantius, Div. Inst., FC 49, pp. 281-315.
(3) Hilarion, Trin., X, 23-49; NPNF, 2, IX, pp. 187-217.