الكنيسة هذا الشهر



من شهداء العصر الفاطمي
”يوحنا أبو نجاح“ و”فهد بن إبراهيم“
(19 برمودة سنة 719ش / 14 أبريل سنة 1003م)

مُقدَّم الأراخنة القبط:

كـان الشهيد يوحنا أبـو نجاح الكبير مـن عظماء القبط في القرنَيْن العاشر والحـادي عشر للميلاد. وكان كبير الكُتَّاب المُباشرين في عصره، كما كان مُقدَّم الأراخنة القبط في عهد الحاكم بأَمر الله الخليفـة الفاطمي. وكـان هذا الشيخ الجليل مُعاصراً للبابا فيلوثاؤس البطريرك الـ 63.

استشهاده:

كان يوحنا أبو نجاح مسيحياً تقيّاً وباراً مُحسِناً ومُحبّاً للكنيسة، وكـان غيـوراً على الإيمـان الأرثوذكسي. ولمَّا انتهى الحاكم بأَمر الله الخليفة الفاطمي (996-1020م)، الذي اتَّسمت تصرُّفاته بالجنون والتطرُّف، مـن إهلاك خاصته ومُقدَّمي جيشه؛ عاد إلى الأراخنة ورؤساء الكُتَّاب وانتخب منهم عشرة، وعَرَضَ عليهم إنكار دينهم. وكـان على رأسهم ”يـوحنا أبـو نجـاح الكبير“ رئيس المُقدَّمين.

وقد طلب منه الحاكم بأمر الله أن يترك دينه ليجعله وزيراً. وحينئذ طلب ”يوحنا أبو نجاح“ من الخليفة أن يُمهِله يوماً يُفكِّر فيه. ولم يكن طلبه هذه المُهلة للتفكير، بل للاتِّصال بإخوتـه وحثِّهم على الثبات في الإيمان إلى النَّفَس الأخير والموت على اسم الرب يسوع المسيح.

وحينما اجتمع بهم، قال لهم: ”الآن، يا إخوتي، لا تطلبوا هـذا المجـد الفاني، فتُضيِّعوا محبـة المسيح الدائم الباقي. فقد أشبع نفوسنا من خيرات الأرض، وهوذا برحمته قـد دعانـا إلى ملكوت السموات. فقوُّوا قلوبكم“.

وقد كان من أَثَر كلامه العميق المملوء حكمة أن تقوَّت قلوب سامعيه أجمعين، وأقـرُّوا أنهم مستعدِّيـن للموت على اسم المسيح. ثم صنع لهم وليمةً عظيمة، وأقاموا عنده إلى عشية ذلك اليوم الموعود، ثم مضوا إلى منازلهم.

وفي صباح ذلك اليوم المُتَّفَق عليـه مـع الخليفة، مضى ”يوحنا أبو نجاح“ إلى الحاكم بأَمر الله، الذي ابتدر يوحنا قائلاً: ”يا نجاح، أتُرَى هل طابت نفسك؟“. أجابـه يوحنا قائلاً: ”نعم“. فسأله الخليفة: ”على أيَّة قضية“؟ فأجاب يوحنا بشجاعةٍ وثبات: ”بقائي على ديني“!

حينئذ اجتهد الحاكم بأَمر الله أن يُحوِّل يوحنا عـن الإيمـان المسيحي بكـلِّ أنـواع الترغيب والترهيب. ولكن ذهبت كل هذه المحاولات أدراج الريح.

فكان يوحنا كالصخرة التي لا تتزعزع، وثَبَتَ مُتمسِّكاً بإيمانـه المسيحي. ولم يقـوَ الخليفة بكلِّ ما أوتِيَ من قوة أن يزعزعه عن دين آبائه.

ولمَّا فشل الخليفة في محاولاته زعزعة يوحنا عن إيمانه، أَمَر بنزع ثيابه وأن يُشدَّ في الهنبازين ويُضـرب بقسـوة. فضربـوه خمسمائـة جَلْدَة بـالسَّوْط، حتى انتـثر لحمـه وسـالت دماؤه على الأرض مثل الماء. وكانت السياط المُستعملة في الضـرب مصنوعـة مـن عـروق البقر، لا يَقْوَى الجبابـرة على احتمال ضربـاتها، فكم بالحـري يكون حال هذا العود الرطب.

ثم أَمر الخليفة بأن يُضرَب يوحنا إلى تمام الألف ضربـة بالسَّوْط. فلما ضُرِبَ ثلاثمائـة ضربةً أخرى، قـال مثل سيِّده: ”أنـا عطشان“. فأوقفوا عنه الضرب، وأعلموا الحاكم بأَمـر الله بذلك، فقال: ”اسقوه بعد أن تقولوا له أن يرجع عن دينه“. فلما جاءوا إليه بالماء وقالوا له ما أَمَرَ به الخليفة، أجابهم يوحنا بكل إباءٍ وشمم: ”أعيدوا له ماءه، فإني غير مُحتاج إليه، لأن سيِّدي يسوع المسيح قد سقاني وأطفأ ظمأي“.

وذَكَـرَ شهود عيان أنهم أبصروا ماءً يتساقط من لحيته، ولما قال هذا، أسلم روحه الطاهرة في يدَي الرب. وعندمـا أَعلموا الخليفة القاسي بوفاة ”يـوحنا أبـو نجاح“، أَمَـرَ أن يُضرَب وهـو جثة هامدة، إلى تمام الألف سوط(1). وهكذا تمَّت شهادتـه ونال الإكليل المُعدَّ له من الرب يسوع ملك الملوك ورب الأرباب.

بركة صلاته تكون معنا، آمين.

استشهاد الرؤساء المُقدَّمين العشرة:

لم يذكر كتاب: ”تاريخ البطاركة“ اليوم الذي استُشهِدَ فيه ”يوحنا أبو نجاح“، إلاَّ أنَّ المؤرِّخ المقريزي في خُططه يقول: ”إن الرئيس "فهد بن إبراهيم"، وهـو أحـد العشرة وزميل "يوحنا أبو نجـاح"، قُتِـلَ في 8 جمـادي الآخر سنة 393 هجريـة الموافـق 19 برمـودة سنة 719ش/ 14 أبريل سنة 1003م“.

وقد جاء خبر استشهاد السعيد الذِّكْر ”يوحنا أبو نجاح“ في كتاب: ”تاريخ البطاركة“، قبل ذِكْر استشهاد ”الرئيس فهد بن إبراهيم“. كما أنَّ يوحنا عندما صنع وليمة لأصدقائه وأهله الذين كان من بينهم التسعة المُختارون الآخـرون، لم يَذكُر خبر استشهاد ”الرئيس فهد“ في كلامـه أثناء الوليمة. وعلى ذلك يكون استشهاد هـذا القديس في نفس اليوم الذي استُشهِدَ فيه ”الرئيس فهد“.

وتحتفل الكنيسة القبطية أيضاً بباقي رؤساء المُقدَّمين العشرة، الذين لمَّا طالبهم الخليفة بترك دينهم ولم يفعلوا ذلك ولم يُطيعوه، أَمَرَ بتعذيبهم: فضُربوا بالسياط، ولما تزايَد عليهم الضرب، أسلم الروح منهم أربعة. وقد استُشهِدَ أحدهم في نفس ليلة استشهاد ”يوحنا أبو نجاح“. أمَّا الباقون فقد استُشهِدوا تحت تـأثير العذاب المريـر، ولبسوا جميعاً أكاليل الشهادة، ونالـوا الحياة الدائمة في حضرة الرب يسوع، الذي له المجد الدائم مع أبيه الصالح وروحه القدوس. آمين.

الشهيد ”فهد بن إبراهيم“

كاتم سرِّ الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي:

كان ”فهد بن إبراهيم“ من بين أراخنة الأقباط في عهد الحاكم بأَمـر الله الخليفة الفاطمي. وقد عيَّنه الخليفة كاتباً له وكاتم سرِّه ومَنَحَه ثقته. كان ذلك وسـط جـوٍّ غـير مستقر ومشحون بكثرة حوادث القتل.

فلما اغتيـل ”برجـوان الصِّقِلِّي“، الذي كان مستأثِـراً بالسُّلطة بتدبير الخليفـة نفسه، أرسل الحاكم بأَمر الله في طلب ”فهد بن إبراهيم“، وخلع عليه أفخر الحُلل، وقـال له: ”لا تقلق أبـداً لِمَا حدث“! وعيَّنه وزيـراً، وأوصى كُتَّاب الدواوين والأعمال بطاعته.

وفي حضرة جميع الكُتَّاب، قال الحاكم بأمر الله لفهد بن إبراهيم: ”أنا حامدٌ لك وراضٍ عنك، وهؤلاء الكُتَّاب خَدَمي؛ فاعْرَف حقوقهم، وأَحسِن معاملتهم، واحْفَظ حُرمتهم، وزِدْ في واجب مَن يستحق الزيـادة بكفايته وأمانته“. ولذلك اشتهر باسم: ”الرئيس أبو العلا فهد بن إبراهيم“.

استشهاده:

عندمـا وصل فهد القبطي إلى هـذه المكانة السامية، وحاز ثقة الخليفـة الفاطمي الحاكم بأَمر الله، صـار هدفـاً للدسـائس مِمَّـن يُبغضون المسيحيين. فبَدَأَت الوشايات ضده، حتى يُضعِفوا ثقة الخليفة فيه.

والعجيب أنَّ الحـاكم بأمـر الله، رغم فهمه مَغْزَى الشكاوى المُقدَّمـة ضد ”فهد بن إبراهيم“، إلاَّ أنه تمشياً مـع التيار الجارف، سمح باغتيال فهد بعد أن استمرَّ في خدمته لمدة ست سنوات.

وقـد أَفْهَم الخليفة الفاطمي حاشيته بأنـه إنما أصدر أَمره باغتيال ”فهد بن إبراهيم“ تحت ضغطٍ شديد! ولتغطية الموقف، أرسل الحاكم بأَمـر الله في طلب أولاد فهـد الذي اغتالـه، وأَنْعَم عليهم، وأَمَرَ ألاَّ يمسَّهم أحدٌ بسوء.

لم تكن هذه الشكاوى والاحتجاجات باغتيال فهد إلاَّ ذَرّاً للرمـاد في العيون. فيُذكَر أنَّ سبب اغتيال الحاكم بأَمر الله لفهد، هو أنَّ الخليفة طلب من فهد إنكار دينه؛ فلما لم يوافقه على هذا، أَمَرَ بقَطْع رأسه وحَرْق جسده لمدَّة ثلاثة أيام.

وقـد دُفِنَ الشهيد ”فهد بن إبراهيم“ بدير الأنبا رويس. وتُعيِّد له الكنيسة القبطية في اليوم التاسع عشر من شهر برمودة.

بركة صلاته تكون معنا، آمين.

(1) وهو مَنْ ضُرِبَ فيه المَثَل القائل: ”الضرب في الميِّت حرام“.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis