في خميس العهد



خميس العهد
أو الخميس الكبير



وسط أسبوع آلام الرب يقف خميس العهد(1) كواحدٍ مـن الأيـام الكبيرة في إرسالية الرب الخلاصيـة، ويرتبط عضويـاً بتوقيته وأحداثـه بذبيحـة الصليب اليـوم التالي، يـوم الخـلاص العظيم، الذي جلس فيه الملك على عرشه الدامي.

ويتميَّز هـذا اليوم بأن أسَّس فيه الرب سر الشكر أو الإفخارستيا، حيث قدَّم المسيح نفسه إلى تلاميذه ذبيحاً ينزف دمه، قبل ساعات من ارتفاعه على الصليب ليموت من أجل خلاص العالم. وقد سبق تقديم الرب جسده ودمه لتلاميذه، أنْ انحنى وغَسَـل أرجـل تلاميذه(2). ونعرض هنا لمُلابسات هـذا السر وانعكاساتـه في حيـاة الكنيسة والمؤمنين.

اختار الرب، بتدبيرٍ مقصود غايـة في الدقة، ليلة عيد الفصح القديـم لكي يرسـم لنا الفصح الجديد: «أمـا يسوع، قبل عيد الفصح، وهو عالمٌ أنَّ ساعته قـد جاءت لينتقل من هذا العالم» (يو 13: 1)، أَخَذَ في تأسيس سـرِّ الأسرار. كـان الفصح القديم باباً للخروج من العبودية، والعبور إلى الحريـة، والنجاة مـن الموت، حيث تمَّ رش دم الخروف على القائمتَيْن والعَتَبة العُليا (في مثل تلك الليلة قبل ألف وخمسمائـة عـام)؛ حتى إذا رأى المـلاكُ الدمَ يعبُر على بيـوت العبرانيين (خـر 12: 13) فينجون مـن الموت. أمَّـا في غيرهـا، فكـان الموت يخطف الأبكـار. وظـلَّ الاحتفال بالفصح على مدى القرون تذكاراً لخلاص الرب القادر على كلِّ شيء. وقـد جـاء الوقت ليكون المسيح في اليـوم التالي ”فصحنا الجديـد“ الذي يُذبَـح لأجلنا (1كو 5: 7)، لينتهي الرمـز وتـأتي الحقيقة، ويكون الخلاص، لا لشعبٍ بعينه، وإنما لكلِّ الشعوب والأُمم إلى آخر الأيام.

ولكي يُمهِّد الرب من قبل لِمَا رسمه في هذه الليلة، صنع خلال خدمته معجزتين لتكثير الخبز وإشباع الجموع. وبعد المعجزة الأولى، أَخَذَ الرب ينقل ذهن الناس إلى الطعام الباقي للحياة الأبدية، وأنه إذا كان المَنُّ هو طعام العبرانيين في البريَّة في سنوات التيه، فـإنَّ الذين أكلوه ماتوا أيضاً. ولكن هـا هـو المسيح ”الخبز الحقيقي“، ”خبز الله“، ”خبز الحياة“، ”الخبز الحي الذي نزل من السماء“، الذي مَن يأكل منه لا يموت بل ”يحيا إلى الأبـد“. وأوضح الأَمـر أكثر في قـوله: «... والخبز الذي أنـا أُعطي هـو جسدي الذي أبذله مـن أجـل حياة العالم... مَن يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياةٌ أبدية، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير... مَن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبُت فيَّ وأنا فيه» (يو 6: 33،32، 48-58).

وإذ نأتي إلى احتفال الـرب بالفصح القديم للمرة الثالثة والأخيرة، وبعد أن غَسَـل أرجل تلاميذه، يستبق الرب أحداث الصليب التي تختم على المشهد، والتي تحلُّ بعد ساعاتٍ، لكي يُقدِّم جسده المكسور (قبل أن يُكسَر) ودمـه المسفوك (قبل أن يُسفَك) كالفصح الجديد، الذي كـل مَن يأكله يحيا إلى الأبد. فأَخَذَ يسوع خبزاً وبارَك وكسَّر وأعطى التلاميذ قائلاً: «”خذوا كُلُوا. هذا هو جسدي“. وأَخَذَ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: ”اشربوا منها كُلُّكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفَك مـن أجـل كثيرين لمغفرة الخطايا... اصنعوا هـذا لذكري“»(3) (مت 26: 26-28؛ مر 14: 22-24؛ لو 22: 17-22).

هـا هـو الرب في ذات ليلة الفصح القديم يطوي صفحته كرمـز، ويحـلُّ محله كخروف الفصح الجديـد، فصح الدهور وحَمَل الله (يو 1: 36،29) الذي بلا عيب ولا دنس (1بط 1: 19)، مذبوحـاً بالنيَّة، استحضاراً مُبكِّـراً للصليب(4): «لأن فِصْحَنَا أيضاً المسيح قد ذُبِحَ لأجلنا» (1كو 5: 7)، ويصير دمـه علامـةً أمـام الله للنجاة من الموت، ويُتمِّم خروجاً جديداً عابراً مـن هذا العالـم مُنتقِـلاً إلى ملكوت الآب (مت 26: 9؛ يو 13: 1).

وفي رؤيا يوحنا، يتكرَّر مشهد وذِكْر الخروف الذي ذُبِحَ ولكنه قام حاملاً جراحات الصليب: «خروف قائمٌ كـأنه مذبـوح» (رؤ 5: 6)، والكنيسـة بـالتالي هي امـرأة الخروف (رؤ 21: 9)، وسيكـون مجيء الرب هـو «عُرْس الخـروف وامرأته هيَّأت نفسها» (رؤ 19: 7)، وفي المدينة المقدَّسة يكون الخروف هو هيكلها وسراجها (رؤ 21: 23،22).

وكما قام الرب في أول الأسبوع، هكذا صار يوم الأحد في الكنيسة موعد الفصح الأسبوعي، قدَّاس الأحد، طاعةً لكلمات الرب: «اصنعوا هذا لذِكْري... اصنعوا هذا كُلَّما شربتُم لذِكْري(5)» (لو 22: 19؛ 1كو 11: 25،24). وهكذا صار ”يوم الـرب“ (رؤ 1: 10) عيداً أسبوعياً تُقدِّس فيه الكنيسة الفصح الجديد، حيث تشترك جماعة المؤمنين في تناول الجسد والدم الإلهيَّيْن (أع 2: 46،42؛ 20: 7) من يـد الرب، كما جرى يوم خميس العهد، يتوحَّـدون معه، ويثبتـون فيه، ويُبشِّـرون بخلاصـه، وينتظرون مجيئه بحسب وعده.

فيما بعد صارت الكنيسة تحتفل بـ ”الفصح الجديد“ أيضاً في أيـام الصوم حتى صـارت القدَّاسات اليومية، وصار الأسبوع كله أحداً واحداً ممتدّاً يحتفي بالصليب والقيامة، ويُوجِّـه الأنظار نحو ”الفصح الأخير“ بمجيء الرب الثاني (مت 26: 29؛ مر 14: 15؛ لو 22: 16).

والرب عندمـا قدَّم جسده ودمه لتلاميذه ليلة آلامه (حيث عُلِّق ظهر اليوم التالي على الصليب باعتباره ”الفصح الحقيقي“ الذي يختم على حَمَل الفصح الذي كان يُذبَح في نفس التوقيت وللمرة الأخيرة)، كـان يرسم ”هذا السر العظيم“ لحياة كلِّ المؤمنين.

ونحن في التناول لا نأكل لحماً وعظاماً تحت أعراض الخبز، ولا نشرب دمـاً بشريـاً تحت أعراض الخمر [وقـد حَـرَّم الله أَكله (تك 9: 4؛ لا 17: 14،12؛ تـث 12: 23)]. فجسـد المسيح(6) هو لغذاء الروح: «الروح هو الذي يُحيي. أمَّا الجسد (وحده) فلا يُفيد شيئاً. الكلام الذي أُكلِّمكم به هـو روحٌ وحياةٌ» (يو 6: 63). كما أنَّ الدم هـو تعبيرٌ عـن الحياة: «لأن نفس الجسد هي في الدم... لأن نفس كل جسد دمه هو بنفسه» (لا 17: 14،11).

والكنيسـة تصـف الإفخارسـتيا: ”الصعيدة المقدَّسة الناطقة الروحانية غير الدموية“ (صلاة الصُّلْح - القدَّاس الكيرلسي). ويقـول القديـس يوحنا في رسالته الأولى: «ودم يسوع المسيح ابنه يُطهِّرنا من كلِّ خطية» (1يو 1: 7)، وليس لصحة الجسد. وكلام الرب لم يكُن عن الجسد المادي وأَكْله، وإنما على «الطعـام الباقي للحياة الأبدية». هذا هـو المأكل الحق للجسد والمشرب الحق للدم. وهذا أمرٌ سرِّيٌّ لا ندري كُنْهه، ولا نستطيع أن نَسْبُر غوره، ولا نعرف كيف يتمُّ(7)!

وعمل الإفخارستيا فينا هو عملٌ روحي وليس عملاً ماديـاً. فـدم المسيح يُطهِّر الضمائر من أعمالٍ ميِّتـة (عب 9: 4)، ويُعطَى لغفـران الخطايـا (1يو 1: 7).

والجسد والدم المُقدَّسـان لا يصيران جـزءاً مـن خلايانـا وأنسجتنا ودمنا - كمـا يقول البعض - وإلاَّ فإنه مع تحلُّل أجسادنا بالموت ينسحب هذا ضمناً على ما أخذناه فينا من جسد الرب ودمه، وهذا لا يمكن أن يكون، وحاشا لمَن يَهَب الحياة وانتصر على الموت أن يسود عليه الموت.

النظرة الروحيـة لا العقلية، تعفينا مـن التفكير جسدياً في مصير ما نأكله وما نشربه في التناول. ما ينبغي أن ننشغل به، هو اتِّحادنا بالمسيح، وطهارة ضمائرنا، وممارسة حياتنا الأبدية من الآن.

(+( (

الإفخارستيا هي عطية المسيح العُظمى التي تتصل مباشرةً بفدائه ودم صليبه، وهي تقتضي استعداداً روحياً وقلبياً بالتوبة والاعتراف والتوسُّل والمخافة. ونحن نتقدَّم للمائدة المقدَّسة، فالمسيح حاضرٌ على المذبح، وهو الذي يُناول كما فَعَلَ في العليَّة قبل زمان.

ومُعلِّمنا بولس الرسول يُنبِّهنا قائلاً: «كأس البركـة التي نُبارِكُها، أليست هي شركة دم المسيح؟ الخبز الذي نكْسِرُه، أليس هـو شركة جسد المسيح؟» (1كو 10: 16).

والكنيسة تُنبِّهنا إلى رهبة هذه اللحظة فتقول: ”فلنقف حسناً. لنقف بتقـوى. لنقف بـاتِّصال. لنقـف بسـلام، لنقـف بخـوف الله ورعـدة وخشوع“.

وحول الرب تقف الملائكة ورؤساء الملائكة، والسيرافيم والشاروبيم يسترون وجوههم من بهاء عظمة مجده غير المنظور ولا المنطوق به.

وبـولس الرسول يوصينا: «ليمتحِن الإنسان نفسه، وهكذا يأكـل مـن الخبز ويشرب مـن الكأس» (1كو 11: 28).

فبركات الإفخارستيا لا ننالها آليّاً، وإنما يلزم أن نؤمـن بالمسيح مُخلِّصاً، لأنـه «بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه» (عب 10: 6).

دكتور جميل نجيب سليمان

(1) القراءات: باكـر: أع 1: 15-20؛ مز 55: 21،12؛ لو 22: 7-13. اللقَّان: 1تي 4: 9-5: 10؛ مز 51: 7-10؛ يو 13: 1-17. القدَّاس: 1كو 11: 23-34؛ مز 23: 5؛ 41: 9؛ مت 26: 20-29.
(2) الكنيسة تُمارِس طقس غسل الأرجل يوم الاحتفال بخميس العهد. فتُصلِّي قدَّاس الماء أو اللقَّان (الذي تُمارِسه أيضاً في عيدَي الغطاس والرسل. و”اللقَّان“ كلمة يونانية تعني: ”المرحضة التي تُستخدَم في غسل الأرجل“). وينحني الأسقف أو الكاهن ليغسل أقدام كل الخُدَّام والشعب. وفي بعض الكنائس الغربية يُختار فقط اثنا عشر شخصاً (من الرجال أو الرجال والنساء)، ولا يُشتَرَط أن يكونوا من المؤمنين. وقد يؤتَى بعضهم من السجون، ويتولَّى الأسقف أو رئيس الأساقفة غَسْل القدمَيْن جيِّداً وتقبيلهما كمُمارسة للاتِّضاع تمثُّلاً بالسيِّد الرب.
(3) كانت أول إشارة إلى رَسْم سرِّ الإفخارستيا في رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل كورنثوس، وذلك قبل أن تُكتَب في إنجيل مرقس أقدم الأناجيل، فكَتَبَ: «لأنني تسلَّمتُ من الرب ما سلَّمتُكم أيضاً: إنَّ الرب يسوع في الليلة التي أُسْلِمَ فيها، أَخَـذَ خُبزاً وشـكر فكسَّـر، وقـال: ”خُذُوا كُلُـوا هـذا هـو جسدي المكسور = = لأجلكم. اصنعوا هـذا لذِكْري“. كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشَّوْا، قائلاً: ”هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا كُلَّما شربتُم لذِكْري“. فإنكم كُلَّما أكلتُم هذا الخبز وشربتُم هذه الكأس، تُخبرون بموت الرب إلى أن يجيء. إذاً أيُّ مَن أَكل هذا الخبز، أو شَرِبَ كأس الرب، بدون استحقاقٍ، يكون مُجرماً في جسد الرب ودمه» (1كو 11: 23-27).
(4) لارتباط سرِّ الشكر الذي رسمه الرب يوم الخميس بالصليب الذي ارتفع عليه يوم الجمعة وقيامة الرب مُعطي الحياة فجر الأحد، فإنَّ قسمة خميس العهد هي عن ذَبْح إسحق الذي شَرَعَ فيه أبونا إبراهيم، ولكن الله إذ رأى محبته له مَنَعَه من ذَبْح ابنه الوحيد، الذي بعودته حيّاً صار رمزاً لموت الرب وقيامته حيّاً في اليوم الثالث.
(5) ”لذِكْري“ لا تعني مجرَّد التذكُّر أو إحياء ذِكْر حَدَث مضى، ولكنها تقصد استحضاراً حيّاً لعشاء الرب ليلة آلامه، لأن «يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد» (عب 13: 8).
(6) المقابل اليوناني لكلمة ”جسد“ التي استخدمها الرب في قوله: «خُذوا كُلُوا هذا هو جسدي» (مت 26: 26؛ مر 14: 22؛ لو 22: 19) هو Soma، ومفهومه في الأرامية هو كل الكيان المتَّحد باللاهوت، وحيث يُعبِّر الدم عن الحياة: «لأن نفس الجسد هي في الدم» (لا 17: 11)، «كما أرسلني الآبُ الحيُّ، وأنـا حيٌّ بالآب، فمَن يأكلني فهو يحيا بي» (يو 6: 57).
(7) بحسب الإيمان الأرثوذكسي بكنيستنا القبطية، لا نستخدم تعبير ”التحوُّل المادي للخبز والخمر إلى جسـد الرب ودمـه“. وإنما نقول إنَّ الخبز ”ينتقل“ ليحوي فيه = = جسد الرب، وأنَّ الخمر ”ينتقل“ ليحوي فيه دم الرب. وفي ”سر حلول الروح القدس“ يقول الكاهن سِرّاً: ”ليحلَّ روحك القدوس علينا وعلى هذه القرابين الموضوعة، ويُطهِّرهـا وينقلها ويُظهِرها قُدْساً لقدِّيسيك“ (القدَّاس الباسيلي)، ”ليحلَّ روح قُدْسك على هذا الخبز وهذه الكأس لكي يتطهَّرا وينتقِلا“ (القدَّاس الكي‍رلسي).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis