عظات وكلمات روحية


حياتنا في المسيح
تأثير ظهور الرب لبولس الرسول
على كرازته وتعليمه

القديس بولس الرسول

+ لنيافة أنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار.

نقرأ من سِفْر أعمال الرسل (22: 1-14):

+ «”أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ وَالآبَاءُ، اسْمَعُوا احْتِجَاجِي الآنَ لَدَيْكُمْ“. فَلَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُ يُنَادِي لَهُمْ بِاللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ أَعْطَوْا سُكُوتاً أَحْرَى. فَقَالَ: ”أَنَا رَجُلٌ يَهُودِيٌّ وُلِدْتُ فِي طَرْسُوسَ كِيلِيكِيَّةَ، وَلكِنْ رَبَيْتُ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ مُؤَدَّباً عِنْدَ رِجْلَيْ غَمَالاَئِيلَ عَلَى تَحْقِيقِ النَّامُوسِ الأَبَوِيِّ. وَكُنْتُ غَيُوراً للهِ كَمَا أَنْتُمْ جَمِيعُكُمُ الْيَوْمَ. وَاضْطَهَدْتُ هذَا الطَّرِيقَ حَتَّى الْمَوْتِ، مُقَيِّداً وَمُسَلِّماً إِلَى السُّجُونِ رِجَالاً وَنِسَاءً، كَمَا يَشْهَدُ لِي أَيْضاً رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَجَمِيعُ الْمَشْيَخَةِ، الَّذِينَ إِذْ أَخَذْتُ أَيْضاً مِنْهُمْ رَسَائِلَ لِلإِخْوَةِ إِلَى دِمَشْقَ، ذَهَبتُ لآتِيَ بِالَّذِيـنَ هُنَاكَ إِلَى أُورُشَلِيمَ مُقَيَّدِينَ لِكَيْ يُعَاقَبُوا. فَحَدَثَ لِي وَأَنَـا ذَاهِبٌ وَمُتَقَرِّبٌ إِلَى دِمَشْقَ أَنَّـهُ نَحْـوَ نِصْفِ النَّهَارِ، بَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلِي مِـنَ السَّمَاءِ نُـورٌ عَظِيمٌ ++++++++++++ +++ ++++++ ++++ +++. فَسَقَطْـتُ عَلَى الأَرْضِ، وَسَمِعْتُ صَوْتـاً قَائِـلاً لِي: شَاوُلُ، شَاوُلُ! لِمَاذَا تَضْطَهِـدُنِي؟ فَأَجَبْتُ: مِـنْ أَنْتَ يَـا سَيِّدُ +++++؟ فَقَالَ لِي: أَنَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. وَالَّذِينَ كَانُوا مَعِي نَظَرُوا النُّورَ وَارْتَعَبُوا، وَلكِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا صَوْتَ الَّذِي كَلَّمَنِي. فَقُلْتُ: مَاذَا أَفْعَلُ يَا رَبُّ؟ فَقَالَ لِي الرَّبُّ: قُمْ وَاذْهَبْ إِلَى دِمَشْقَ، وَهُنَاكَ يُقَالُ لَكَ عَنْ جَمِيعِ مَـا تَرَتَّبَ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ. وَإِذْ كُنْتُ لاَ أُبْصِرُ مِـنْ أَجْلِ بَهَاءِ ذلِكَ النُّورِ، اقْتَادَنِي بِيَدِي الَّذِينَ كَانُوا مَعِي، فَجِئْتُ إِلَى دِمَشْقَ. ثُمَّ إِنَّ حَنَانِيَّا رَجُلاً تَقِيًّا حَسَبَ النَّامُوسِ، وَمَشْهُوداً لَهُ مِـنْ جَمِيعِ الْيَهُودِ السُّكَّانِ أَتَى إِلَيَّ وَوَقَفَ وَقَالَ لِي: أَيُّهَا الأَخُ شَاوُلُ، أَبْصِرْ! فَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ نَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِلَهُ آبَائِنَا (الله الآب) انْتَخَبَكَ («وَلكِنْ لَمَّا سَرَّ اللهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِـهِ بَيْنَ الأُمَمِ، لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْماً وَدَماً» - غل 1: 16،15) لِتَعْلَمَ مَشِيئَتَهُ، وَتُبْصِرَ الْبَارَّ +++ +++++++، وَتَسْمَعَ صَوْتاً مِنْ فَمِهِ (الله الابن) («وَتَمْتَلِئَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» - أع 9: 17)».

وبعد أن تمَّ رَجْم القديس استفانوس، كان الشاب شاول الطرسوسي حارساً لثياب الذين يقومون بالرَّجْم. ويقول سِفْر الأعمال: «وَكَانَ شَاوُلُ رَاضِياً بِقَتْلِهِ... وَحَمَلَ رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ +سْتِفَانُوسَ وَعَمِلُوا عَلَيْهِ مَنَاحَةً عَظِيمَةً. وَأَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ يَسْطُو عَلَى الْكَنِيسَةِ، وَهُوَ يَدْخُلُ الْبُيُوتَ وَيَجُرُّ رِجَالاً وَنِسَاءً وَيُسَلِّمُهُمْ إِلَى السِّجْنِ» (8: 1-3).

بعد ذلك يذكُر سِفْر الأعمال: «أَمَّا شَاُولُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّداً وَقَتْلاً عَلَى تَلاَمِيذِ الرَّبِّ، فَتَقَدَّمَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ وَطَلَبَ مِنْهُ رَسَائِلَ إِلَى دِمَشْقَ، إِلَى الْجَمَاعَاتِ، حَتَّى إِذَا وَجَدَ أُنَاساً مِنَ الطَّرِيقِ، رِجَالاَ أَوْ نِسَاءً، يَسُوقُهُمْ مُوثَقِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ» (أع 9: 2،1).

وفي طريق دمشق ظَهَر الرب لبولس الرسول في هذه الرؤيا:

كانت هذه هي الخبرة الأولى والأساسية في حياته، ولم يكفَّ بعد ذلك عن التعمُّق في معناها واستعلان مضمون‍ها. وقد بدأ هذا الاستعلان بقوَّةٍ فائقة منذ أول خبرة روحية أَخذها وهو سائرٌ على طريق دمشق، وتَظْهَر شدَّة تأثُّره ب‍هذه الحادثة في كونه يُكرِّرها في كلِّ مناسبة. فالقصة تتكرَّر بكلِّ تفاصيلها ثلاث مرَّات في سِفْر أعمال الرسل (أصحاحات: 26،22،9).

من هذا الظهور هناك عبارتان هامتان يجب الالتفات إليهما، وكانتا بداية الإلهام الذي استقاه بولس الرسول من الرب عن كياننا ووجودنا الجديد في المسيح، وعن الكنيسة التي هي جسده:

العبارة الأولى: والتي يُكرِّرها القديس بولس في كلِّ مرَّة يذكُر هذه الحادثة هي: «أَبْرَقَ حَوْلِي» أو ”أَضَاءَ حَوْلي“(1). فقد أحسَّ القديس بولس أنَّ النور الإلهي يُحيط به من كلِّ جانب، وليس مجرَّد ضوء يظهر أمامه، وأنه أصبح مغموراً في هذا النور.

أمَّا العبارة الثانية: فهي تأتيه ومـن وسط هـذا النور: «شَاوُلُ، شَاوُلُ! لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي»؟ وبالرغم من أنه كان يضطهد رجالاً ونساءً مسيحيين، لكنه أَدرك للتوِّ من هذه العبارة أنَّ كل ما يفعله ب‍هؤلاء القوم إنما يقع على الرب يسوع الذي يُكلِّمه. فَفَهِمَ تماماً أن هؤلاء القوم متَّحدون أو متواجدون داخل هذا الرب مثلما هو مغمورٌ بكلِّيته في هذا النور الإلهي.

كان هذا أول استعلان له عن سرِّ وجودنا في الربِّ يسوع، وبعد ذلك عندما أدرك أننا نغتذي على جسد الرب ودمه، فَهِمَ سر تواجُد الرب داخلنا، وأن أيَّ اضطهادٍ يقع علينا، إنما يقع على الربِّ يسوع نفسه: «أَنَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ».

هكذا بدأ يُدرِك سرَّ الجسد الإلهي، الذي فيه غِنَى المسيح الذي لا يُسْتَقْصَى، سرُّ الكنيسة التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكلَّ في الكلِّ!

من هذه اللحظة بدأ بولس الرسول يستوعب حقيقة المسيح وحقيقة وجودنا فيه، وزاده الروح فهماً وإعلاناً ودرايةً لهذا السر، حتى صار هذا السر يمتلك كل كيانه ويملأ فكره وقلبه ويُهيمن على كلِّ كتاباته على مدى رسائله كلها. نحن في المسيح، والمسيح فينا.

عندما يذكُر أيٌّ من التلاميذ هذه الحقيقة، فسنقول إن‍هم سمعوها من الربِّ يسوع نفسه عندما كان في وسطهم يكشف لهم أسرار ملكوت الله (أع 1: 3). وعلى نفس المستوى جاءت معرفة بولس الرسول بإعلان شخصي من الربِّ يسوع.

لقد أعلن الرب يسوع هـذه الحقيقة لتلاميذه عدَّة مرَّات، ويذكرها أولاً في علاقته بالله الآب، عندما سأله فيلبُّس الرسول قائلاً: «يَا سَيِّدُ، أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا» (يو 14: 8):

+ «أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ» (يو 14: 8).

ثم يُطبِّق هذا الكلام على علاقتنا نحن به:

+ «فِي ذلِكَ الْيَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا فِيكُمْ» (يو 14: 20).

وفي صلاة الرب يسوع لله الآب، يُخاطبه قائلاً:

+ «أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي» (يو 17: 23).

+ «وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكَونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ» (يو 17: 26).

هذا الكلام استوعبه التلاميذ تماماً، فنجد القديس يوحنا يُكرِّره في رسائله، فيقول:

+ «مَنِ اعْتَرَفَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ابْنُ اللهِ، فَاللهُ يَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِي اللهِ. وَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا وَصَدَّقْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِي للهِ فِينَا. اَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ» (1يو 4: 16،15).

+ «أَمَّا أَنْتُمْ فَمَا سَمِعْتُمُوهُ مِنَ الْبَدْءِ فَلْيَثْبُتْ إِذاً فِيكُمْ. إِنْ ثَبَتَ فِيكُمْ مَا سَمِعْتُمُوهُ مِنَ الْبَدْءِ، فَأَنْتُمْ أَيْضاً تَثْبُتُونَ فِي الاِبْنِ وَفِي الآبِ» (1يو 2: 24).

+ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَالْمَسْحَةُ الَّتِي أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ، وَلاَ حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ، بَلْ كَمَا تُعَلِّمُكُمْ هذِهِ الْمَسْحَةُ عَيْنُهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهِيَ حَقٌّ وَلَيْسَتْ كَذِباً. كَمَا عَلَّمَتْكُمْ تَثْبُتُونَ فِيهِ» (1يو 2: 27).

هذا هو ما كَشَفَه الرب يسوع لتلاميذه، وما أَعلنه تلاميذه ورُسُله لنا. وهذا هو ما أَعلنه الرب يسوع لبولس الرسول بالرؤيا العملية على طريق دمشق، ثم علَّمه إيَّاه فيما بعد ذلك في ظهوراته الكثيرة له: «... أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ. كَمَا سَبَقْتُ فَكَتَبْتُ بِالإِيجَازِ. الَّذِي بِحَسَبِهِ حِينَمَا تَقْرَأُونَهُ، تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْهَمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ الْمَسِيحِ» (أف 3: 4،3)، «لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (غل 1: 12).

وما هو السر الذي استُعلِنَ للقديس بولس الرسول، ثم أَعلنه لنا؟ ويذكُر القديس بولس هذا السر عدَّة مرَّات في رسالته لأهل أفسس ورسالته لأهل كولوسي:

+ «إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ فِي ذَاكَ» (أف 1: 10،9).

+ «... أَنَّـهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ. كَمَا سَبَقْتُ فَكَتَبْتُ بِالإِيجَازِ. الَّذِي بِحَسَبِهِ حِينَمَا تَقْرَأُونَـهُ، تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْهَمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ الْمَسِيحِ. الَّذِي فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو الْبَشَرِ، كَمَا قَـدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ الْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِالرُّوحِ: أَنَّ الأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي الْمَسِيحِ بِالإِنْجِيلِ» (أف 3: 3-6).

+ «... السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ وَمُنْذُ الأَجْيَالِ، لكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ لِقِدِّيسِيهِ، الَّذِينَ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هذَا السِّرِّ فِي الأُمَمِ، الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْد» (كو 1: 27،26).

واضحٌ أنَّ القديس بولس عندما أحاط به النور من كلِّ ناحية، أحسَّ معنى أن يكون داخل النور الإلهي، وعندها فَهِمَ معنى عبارة: «لماذا تضطهدني». فأيُّ كرامة أو هوان يقع علينا، هو في الحقيقة يقع على المسيح شخصيّاً. وهذا ما عبَّر عنه القديس بولس في رسالة أفسس:

+ «لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ. مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاِثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً. هذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ» (أف 5: 30-32).

وقد طبَّق القديس بولس هذا المفهوم في وصاياه العملية التي كان يكتبها للمؤمنين، فطاعة الأولاد لوالديهم هي طاعة في الربِّ، وخضوع الزوجة لزوجها هو خضوع في الربِّ، فالاثنان متَّحدان بالربِّ. وهنا الأعضاء تخضع لبعضها في الجسد الواحد، من داخل مفهوم الشركة والوحدة في جسد المسيح، دون أيِّ إحساس بالدُّونيَّة أو بتعاظُم عضو على عضو:

+ «أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ فِي الرَّبِّ لأَنَّ هذَا حَقٌّ» (أف 6: 1).

+ «أَيَّتُهَا النِّسَاءُ، اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا يَلِيقُ فِي الرَّبِّ» (كو 3: 18).

+ اسمعوا ما يقوله القديس كيرلس الكبير عن اتِّحادنا ووجودنا في المسيح (الكن‍ز في الثالوث 12):

[كيف ينبغي أن نفهم القول القائل: «كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ... لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا... أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ» (يو 17: 23،21،22)؟

لَمَّا أراد كلمة الله أن يُقدِّم لجنس البشر عطية عُظمى وفائقة الطبيعة، أَخَذَ يجتذب الجميع إلى نوعٍ من الاتِّحاد بنفسه؛ فقد لَبِسَ الجسد البشري، وبذلك صار داخلنا. ومن جهةٍ أخرى، فهو له الآب في ذاته لكونه كلمته الخاص وشعاعه.

فكأنه يقول: ”كما أني أنا فيهم بسبب لِبْسي نفس الجسد الذي لهم، وأنت أيها الآب فيَّ بسبب كوني من جوهرك الخاص؛ هكذا أُريد أن‍هم هم أيضاً يرتبطون بنوعٍ من الاتِّحاد، حتى يصيروا مُتداخلين بعضهم في بعض، وكأن‍هم صاروا جسداً واحداً، فيكونون جميعاً فيَّ، وكأني أحملهم جميعاً في هيكل (جسدي) الوحيد الذي اتَّخذتُـه لنفسي. وهكذا يكونـون ويظهرون مُكمَّلين، لأني أنا الكامل وقد صرتُ إنساناً“].

+ ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم عن مفهوم الجسد الواحد:

[«الْخُبْزُ الَّذِي نَكْسِرُهُ، أَلَيْسَ هُوَ شَرِكَةَ جَسَدِ الْمَسِيحِ؟» (1كو 10: 16)، بعد أن قال (بولس الرسول): «شَرِكَةَ جَسَدِ...»، أراد أن يُبيِّن ما هو أوثق. لذلك أردف: «فَإِنَّنَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ خُبْزٌ وَاحِدٌ، جَسَدٌ وَاحِدٌ» (1كو 10: 17). وكأنـه يقول: ”لماذا أتكلَّم بعد عن "شركة الجسد"، بينما نحن ذلك الجسد عينه“؟ لأنـه ما هـو الخبز؟ ”جسد المسيح“. ومـاذا يصير المتناولون؟ ”جسد المسيح“. فليس هناك أجسادٌ عديدة بعد، بل جسدٌ واحدٌ.

فكما أنَّ الخبز يصير واحداً من حبَّاتٍ كثيرة مُجتمعة حتى أنَّ الحبَّات لا تكون ظاهرة مع أن‍ها موجودة، لأن الفرق بينها غير واضح بسبب الاتِّحاد؛ هكذا نحـن أيضاً نتَّحد بعضنا مع بعض ومع المسيح. لأنك لا تأكل أنت من جسدٍ وغيرك من جسدٍ آخر، بل الجميع يأكلون من الواحد بعينه. ولذلك أضاف (بولس الرسول): «لأَنَّنَا جَمِيعَنَا نَشْتَرِكُ فِي الْخُبْزِ الْوَاحِدِ». فإن كُنَّا جميعاً نشترك في الواحد، بل ونصير هذا الواحد عينه، فلماذا لا نُظْهِر أيضاً المحبة الواحدة، فنصير بذلك أيضاً واحداً؟ لأنه هكذا كان قديماً في زمن آبائنا الأوائل، إذ يقول (سِفْر الأعمال): «وَكَانَ لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ» (أع 4: 32)] (عظة على شرح 1كو 10: 17).

(1) في (أع 9: 3) جاءت ++++++++++++ من ++++- = حول، و +++++++ = برق. وفي (أع 26: 13) جاءت ++++++++++ من ++++- = حول، و +++++ = يُضيء. وفي (أع 22: 6) وهي أقواهم، تكرَّرت ++++- مرتين: ++++ +++ و ++++++++++++.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis