طعام الأقوياء
- 83 -


الماء الحي
- 2 -

+ «اللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يو 4: 24).

اعتراف السامرية بماضيها:

حينما طلبت المرأة السامرية من الرب يسوع أن يُعطيها هذا الماء الحي، الذي كل مَـن يشرب منه لن يعطش إلى الأبـد، بل الماء الذي يُعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياةٍ أبدية؛ لم تنتبه جيِّداً إلى أبعاد هـذه العطية وقـوَّة فاعليتها في الإنسان، ولم تُدرك شيئاً مما قيل، بـل توقَّفت في تفكيرها عند حـدود التخلُّص مـن عناء العطش والاضطرار للمجيء إلى البئر لتستقي.

لقد هدَّهـا مشوار كلِّ يوم وهي حاملة جرَّتها فارغة ثم ملآنة مـن أجل أن تستقي هي ومَن معها. وهنا بادرهـا الـرب بقوله: «اذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى ههُنَا». فأجابت المرأة: «لَيْسَ لِي زَوْجٌ». فقال لها الرب يسوع: «حَسَناً قُلْتِ لَيْسَ لِي زَوْجٌ، لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هـذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ» (يو 4: 16-18).

لقد طلب منها الرب أن تذهب وتدعو زوجها وتأتي به إليه، لعدَّة أسباب حسب ظنِّي:

أوَّلها: إنه كان يَعْلَمُ كلَّ ما خَفِيَ عـن حياتها، لأنه الرب العارف بخفايا القلوب، وكان يُريد أن يستدرجها لتكشف عن خبايا قلبها حتى تستحق أن تنال عطية الله وتشرب من الماء الحي الذي كل مَن يشرب منه لن يعطش إلى الأبد؛ بل ويصير هو ذاته ينبوع ماء ينبع إلى حياةٍ أبدية.

ثانياً: أراد الـرب أيضاً أن يكشف لها حقيقة ذاته، وأنه ليس إنساناً عادياً كباقي البشر، بل هو المسيَّا المنتَظَر.

ثالثاً: أراد الرب أن يُعلِّمها أن لا تطلب عطية الله الفائقـة هـذه لنفسها وحدهـا، بل لكلِّ مَـن تعرفهم، لأن طبيعـة عطيـة الله تغمـر الجميع وتزداد كلما ازداد عطاؤها إلى كلِّ الملء.

رابعاً: رأى الـرب مُسْبقاً إمكانيـات حُبِّهـا وعطائها واستعدادها لأن تكرز للمدينة كلها عمَّا عمله معها المسيح.

ورغم أنَّ اعتراف السامرية كان مقتضباً للغاية؛ لكن الرب المتحنِّن على الخطاة كان ردُّه العجيب هو قبول الاعتراف بصيغة مُشجِّعة للغاية، إذ قال لها: «حَسَناً قُلْتِ لَيْسَ لِي زَوْجٌ». بـل وأراها أنـه ليس العمل الذي وراء اعترافها هو الحسن، بـل الحسن حقّاً هـو أن تعترف بـه، ثم لكي يرفـع عنها صعوبة استكمال اعترافها بالكامل، كَشَفَ الرب عن شخصيته قليلاً وأراها أنه يعرف كل سيرة حياتها، وأنـه كـان لها خمسة أزواج، والذي لها الآن ليس زوجاً لها. وفي الحال أعلنت المرأة قائلة: «يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ!» (يو 4: 19).

+ ويُعلِّق على ذلك الأب متى المسكين قائلاً:

[حينما أفرغت المرأة خطيَّتها (وقد ساعدها الرب يسوع في ذلك)، استضاءت عيناها، وتأهَّلت لترى المسيح الرؤية الأولى على صحة، وإنما في غير اكتمالها... هـذه أول مفاعيل عطية الماء الحي التي استقرَّت في أعماقهـا، وهي أول حركـة للإيمان يتحرَّك به قلبها](1).

سؤال السامرية عن السجود لله:

أليس عجباً أن تنقلب هـذه النفس الزانية بهذه السرعة إلى نفسٍ تائبة تبحث عن مكان السجود لله؟! وتستفسر بدقةٍ عن الموضع المقبول عند الله إنْ كان في جبل جِرِزِّيم أو في أورشليم قائلة: «آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هـذَا الْجَبَـلِ، وَأَنْتُـمْ تَقُولُـونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ» (يو 4: 20).

هذا الجبل هو جبل جِرِزِّيم الذي يقع بئر يعقوب تحت سَفْحه مباشرة. وتقول التقاليد إنَّ إبراهيم أبـا الآبـاء قـد أَصلح مذبحاً هناك بِنيَّة تقديم إسحق ابنه حسب أَمْر الرب. وعلى هـذا الجبل تقابَل إبراهيم مع ملكيصادق الذي باركه هناك. كما أنَّ هـذا الجبل هو الذي أَمَر موسى أن يقف عليه ستة من أهم الأسباط لمنح البركـات على مَـن يعمل بالناموس (تث 27: 12). وفي توراة السامريين مكتوبٌ أنَّ المذبح الذي أُقيم للعبادة الأولى كان على جبل جرزيم وليس على جبـل عيبـال (تـث 27: 4-8). والسامريـة الآن تتساءل: إن كان هذا التقليد السامري هـو الأصح، أم التقليد اليهودي؟!

حينئذ ابتدرها الرب يسوع بالقول: «يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُـونَ، أَمَّـا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ. لأَنَّ الْخَلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ» (يو 4: 22،21).

«تأتي ساعة»:

هنا يُعرِّفها الـرب يسوع عـن ساعة تأتي يقيناً - وهي قد حان مجيئها بمجيء مَن يُكلِّمها - فيها تبطـل العبـادة المُرتبطة بـالمكان المُحدَّد للعبادة. فالسجود لله الآب لن يكون في هذا الجبل ولا في أورشليم، بـل في القلب في كـلِّ مكان: «وَأَمَّـا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَـادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَـكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُـوكَ الَّذِي يَـرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً» (مـت 6: 6). فبمجيء المسيح وصَلْبه وقيامته، أُلْغِيَتْ الذبائح الدموية وأُلغِيَتْ المذابـح، إذ صار هو الذبيحة الوحيدة للخلاص على المذبح الناطق السماوي في هيكل الله غير المصنوع بالأيـادي حينما تكون العبادة والسجود للآب بالروح والحق (انظر عب 9: 11-14، 23-28).

«أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن

فنسجد لما نَعْلَم، لأن الخلاص هو من اليهود»:

بعد أن عرَّفها الرب يسوع أنـه لا في جبل جرزيم ولا في أورشليم ينبغي أن يُسجَد للآب فيما بعد، استدرك القول، مُوضِّحاً عدم تساوي العبادة في أورشليم بجرزيم، رغم قُرْب انتهاء عصرهما معاً بحلول الساعـة. فليس هـذا معناه أن عبادة اليهود كانت خاطئة، ولكن المسيَّا الذي من نسل داود من سـلالة إبـراهيم وإسحق ويعقوب، هـو مصـدر الخلاص الآتي بل الحاضر، الذي عرَّف نفسه بها. فالمسيح هنا لا يُدافع عن اليهود، ولكنه يُدافع عن الحقِّ والخلاص، لكي يُعلِن لها أنه هو المسيَّا الذي تنتظره، والحق والخلاص الذي تتوقَّعه.

«وَلكِـنْ تَأْتِي سَاعَـةٌ، وَهِـيَ الآنَ، حِـينَ السَّاجِـدُونَ الْحَقِيقِيُّـونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ» (يـو 4: 23). المسيح يُعلِن صراحـةً للسامرية أنَّ الساعة قد أتت الآن.

+ ويُعلِّق على ذلك القديس كيرلس الكبير قائلاً:

[هو الآن يتحدَّث عن زمان حضوره الشخصي، ويقول إنَّ المثال قد تحوَّل إلى الحقِّ، وإن ظِلَّ الناموس قـد انتقل إلى العبادة الروحية. ويخبرنا أنه من خلال تعليم الإنجيل فإنَّ الساجد الحقيقي، أي الإنسان الروحاني، سـوف ينقاد إلى رعيَّة تسرُّ قلب الآب (الطالب مثل هؤلاء الساجدين له)، لأن الله يُعرَف بأنـه روحٌ بـالمقارنة بالطبيعة الجسدية. لهذا هو يقبل الساجد له بالروح والحقِّ، الذي لا يحمل في الشكل أو المثال صورة التقوى اليهودية، لكنه بطريقة الإنجيل يُضيء بممارسات الفضيلة وباستقامـة التعاليـم الإلهيـة («فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَـذَا قُـدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَـرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ» - مت 5: 16). وهكذا يُتمِّم العبادة الحقَّة الصادقة](2).

متى جاء المسيَّا يُخبرنا بكلِّ شيء!

لقد كان كلام المسيح للسامريـة بقوله: «وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَـةٌ، وَهِيَ الآنَ»، بمثابة إلهام للسامريـة جعلها تُحلِّق بفكرها فوق كل ما اعتادت عليه، إلى الرجـاء الذي سمعت عنه مـن اليهود ومن توراة موسى الذي يؤمن بـه السامريون، بأنَّ ”المسيَّا“ يأتي ويُخبرنا بكـلِّ شيء، إذ قالت للـرب: «أَنَـا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَـالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَـاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ» (يو 4: 25).

+ وهنا يُعلِّق الأب متى المسكين قائلاً:

[وهكذا تدخل السامرية، دون أن تدري، في المجال الروحي للمسيح، وهـذا هـو العنصر الأول الذي جعلها تلقائياً تمتدُّ بفكرها نحو النبي الموعود الذي سجَّلته توراتهم في سِفْر التثنية الذي وعد به موسى (انظـر تث 18: 15-22). أمَّـا العنصر الثاني فهـو تسلسُل الحديث، فقـد انتهت السامريـة إلى القول بأن اليهودي الواقف أمامها، وهو السيِّد، هو نبيٌّ، ولكن تصريحه الأخير عـن العبادة بالروح والحقِّ التي ستكون لا في أورشليم ولا في جرزيم، جعلها تنطلق في تفكيرها من نحوه، إنه أبعد من إمكانيات نبي... فمَن يكون؟... أيمكن أن يكون هذا هـو مسيَّا الذي طالما سمعوا عنه وانتظروه؟ لم تستطع أن تقطع بالأمـر، فـألقت سؤالها أمامه، وهو ليس سؤالاً بل تساؤل!](3).

وردَّ الرب يسوع على تساؤلها هـذا قائلاً: «أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ» (يو 4: 26). وهذا هـو ما توقَّعته هذه المرأة، وهو ما دفع المسيح لإعلان حقيقته لها، بعد أن ساعدهـا على اجتياز عوائق كثيرة مرَّت بها. فقد رأته أولاً يهودياً، وهي امرأة سامرية، واليهود لا يُعاملون السامريين؛ ثم إنساناً مُتعباً عطشاناً، والمسيح في تجسُّـده يظهـرُ ضعفه - الذي يُخفي قدرتـه الإلهية - عائقاً للإيمان بـه، الذي إذا تخطَّاه الإنسان أدرك حقيقـة ألوهية المسيح؛ ثم رأتـه نبيّاً يعرف الأسرار الخفية. وأخيراً، اكتشفت أنه هو المسيَّا.

ردُّ المسيح على السامريـة: «أنا هو»، هو اسم الله الذي أعلنـه لموسى النبي في حديثه معه مـن العُلَّيقـة: ”يهـوه“ الذي تفسيره: ”أنا هو الكائن بذاتي“. وهذه هي المرَّة الأولى والوحيدة التي يُعلِن فيها الـرب يسـوع عـن شخصيته المسيَّانية قبل مُحاكمته. لقد طلبت السامرية أن تشرب الماء الحي بشغفٍ ونَهَمٍ واشتياقٍ؛ فـاستُعلِنَ لهـا المسيَّا وآمنت به، وتتلمذت له، وتركـتْ جرَّتها وماضيها، وعادت إلى أهل مدينتها بشخصها الجديـد الملتحف بالنور لتكرز لهم قائلةً: «هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟» (يو 4: 29). لقد ملأ المسيح قلب السامريـة وفكرها، ودخلت مياهه الحيَّة أعماقها، ففاضت أنهـار مـاء حي، وصارت أول كارزة من الأُمم عن المسيح الحي.

+ وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير:

[بَدَت المرأة (السامريـة) الآن وقـد ارتفعت فـوق اهتمامـات الجسد... فتمهَّـل (الرب) حتى العطش والشُّـرب، وأعـاد تشكيلها إلى حالةٍ أخرى بواسطة الإيمان. وفي الحال، إذ قـد مارست المحبة أبهى كـل الفضائل، وإذ كـانت لها عاطفة مُحِبَّة للقريب؛ ذهبت بكلِّ اجتهادها واشتياقها للآخرين أيضاً لتكرز لهم بالصلاح الذي ظهر لها](4).

(يتبع)

**************************************************************************************************

(بقية المنشور صفحة 8 - قيامة المسيح قوة لتجديد الحياة)

«وكان منظره كالبرق» (مت 28: 3):

أليس ضياء البرق كافياً للملاك؟ فما الذي يُضيفه اللباس إلى الطبيعة السماوية؟ إلاَّ أنه بمثل هذا البهاء قد دلَّ على جمال ونموذج قيامتنا، لأن الذين يقومون في المسيح سوف يتغيَّرون إلى مجد المسيح!

ولماذا ارتعد الحُرَّاس؟

«فَمِـنْ خَوْفِهِ ارْتَعَدَ الْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ» (مت 28: 4). يـا لبؤس البشر! لقد صدمهم خوف الموت في نفس الوقـت الذي بُعِثَ فيه يقين الحياة. لكن، خُدَّام القساوة هؤلاء، ومُنفِّذو حُكْم شخص خائن (بيلاطس)، كيف يمكنهم أن يربحـوا إيمانـاً بأُمورٍ سماويـة؟ إنهم يحرسون القبر واضعين معوِّقات للقيامة، وجُـلُّ همهم أن يمنعوا الحياة مـن أن تجـد لها مدخـلاً إلى القبر بأيِّ حـالٍ، أو أن يحفظوا الموت مـن أن يُهلك، فصدمهم وصول الملاك بحـقٍّ، حتى انطرحوا على الأرض.

يـا لبؤس البشـر المائتين! إنهم دائماً أعداء لأنفسهم! إنهم يحزنون لأنهم لابد أن يموتوا، ومع ذلك فهُم يُصارعـون لكي يحرموا أنفسهم مـن القيامـة! وكـان أَحْـرَى بهم أن يفتحـوا القبرَ ويُجهِّـزوه بـأيِّ شيء ممكـن، ليُمهِّدوا السبيل للقيامة، لكي تنبعث معجزة من الجريمة، وينبثق رجاء من هذه العِبْرة، ويقين كامل بخصوص ذاك الذي عاد، مع إيمانٍ بالحياة العتيدة.

إنـه حقّاً لجنون مُطبق أَلاَّ يرغب الإنسان في الإيمان بما يشتهيه لنفسه!

(1) ”شرح إنجيل القديس يـوحنا“، الجـزء الأول، الأصحاح الرابع، ص 289.
(2) ”شـرح إنجـيـل القـديـس يـوحنـا“، 4: 23-24، مؤسَّسة القديس أنطونيوس.
(3) ”شـرح إنجيل القديس يـوحنا“، الجزء الأول، 4: 25، ص 297.
(4) ”شـرح إنجيـل القديس يـوحنا“، الأصحاح الرابع، مؤسَّسة القديس أنطونيوس.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis