تأملات في شخص المسيح الحي - 55 -



المسيح

عمل الخلاص الذي أتى المسيح ليُتمِّمه (23)

ثالثاً: المسيح الملك القائم من بين الأموات (1)

الـرب يسوع المسيح بَـذَلَ نفسه، ليس فقط ليكـون ”المُعلِّم“ - ”النبي“، وليس فقط ليكـون ”الملك“. ولم يكن فقط يُعلِّم ويتنبَّأ بمجيء ملكوت الله، حيث تتحقَّق الشركة في الاتِّحاد الكامل مـع الله من خلال وبتوسُّط شخصه المبارك؛

ولكنه حينما قدَّم نفسه لله أبيه، وبَذَلَ جسده الأقدس، ليبدأ شركته الشخصية للبشر، كلَّ مَن يؤمـن بالشركة في ذبيحة المسيح على الصليب، ليس ذلك فقط؛ بل ليقودهم أيضاً بسُلطانـه إلى الشركة الكاملة في ملكوت الله.

+ هـذه الكرامة الإلهية لم تكن وحدهـا هي التي أَنْعَم بها الله على خليقته في هذا العالم، أثناء حياة المسيح على الأرض؛ ولكنه مَنَح البشر هذه الكرامة الإلهية باتِّخاذ ابنه صورة الإنسان.

+ لقـد اعترف الرب أمـام الوالي الروماني بيلاطس البنطي: ”... إني ملك“ (يـو 18: 36؛ مت 27: 11؛ مر 15: 2؛ لو 23: 3). وطبعاً، بجانب هـذه الصفة ”ملك“، فهو أيضاً: ”مُعلِّم“ و”نبي“، وكذلك هو ”الكاهن الأعظم“.

+ إنَّ العبء الذي حَمَله المسيح لم يكن هيِّناً. ولقد أكمل العمل الخلاصي الذي كان مُقرَّراً أن يُتمِّمه، سـواء في تحمُّله الآلام، أو في انتصاره على الأرواح الشريـرة التي حاولت إغواءه: إما بالآلام، أو بالمسرَّات الكاذبـة، كما في تجربـة الشيطان له وهو صائمٌ على الجبل.

+ ثم نفس هـذا العبء الثقيل، ازداد ثِقَـلاً بقبوله الموت، كما أوضح القديس كيرلس الكبير:

[إنَّ مـلابس هـارون المُزخرفـة (التي كان يلبسهـا قيافـا رئيس الكهنة أثنـاء مُحاكمة المسيح)، ورفاهية رئيس الكهنة؛ كـانت تتنبَّأ بجمال وكرامة كهنوت المسيح](1).

الاستمرارية بين ذبيحة الصليب وبين قيامة المسيح: فالمسيح، لأنـه كـان قادراً على إتيان الأعمـال العظيمـة على الطبيعة، مثل: سُلطانه على هيجـان البحر (مـت 8: 23-27)، وعلى الأمراض بواسطة جسده، فإنَّ هذا كان أكبر دليل على طهارة جسـده؛ فـإنَّ سُلطانه اسْتَعْلَن عمله كمُعلِّمٍ ونبيٍّ، وككاهنٍ أعظم.

وحتى المـوت، فبالرغم مـن أنه عملٌ من أعمـال كهنوتـه، فهـو يخصُّ أيضاً سُلطـان ملوكيته، من خلال الآلام التي تألَّم بها، ثم القيامة التي انتصر بها على الموت.

+ ويُشير الإنجيل بالذات إلى سلطانه الذي لم يكن مثل الكَتَبَة والفرِّيسيين (مت 7: 29).

+ وواضح أيضاً، أنَّ الرب يسوع - كإنسان - كـان يملك سلطانـاً ملوكياً، قبل وعند قيامته مـن الموت.

+ إنَّ سلطانه تجلَّى قبل القيامة، ليس فقط كسلطان أحسَّ به التلاميذ في نفوسهم، ولا هو في الوصايـا التي أعطاهـا لهم بخصوص تأسيس الكنيسة، وحياة المؤمنين التي عليهم أن يعيشوها؛ بل وأيضاً سُلطانه فوق الطبيعة مـن خلال شفاء المرضى، وإقامة البعض من الموت.

وحينما انتهر الرب يسوع الرياح والبحر، فهدآ؛ فإنَّ تلاميذه تعجَّبوا وصرخوا: «أيُّ إنسانٍ هذا! فإنَّ الرياح والبحر جميعاً تُطيعه» (مت 8: 27).

+ وقد شرح الآبـاء القدِّيسون هذه ”الطاعة“ مـن الرياح والبحر، كـذلك الرُّعب الذي أصاب التلاميذ منذ موت الربِّ، الذي تملَّك على مُعلِّمهم وربِّهم وخالقهم الذي كان يُساندهم.

سلطان المحبـة التي كـانت في تناغُم مع إخلائه لذاته: على كلِّ حالٍ، فإنَّ سُلطان المسيح على النفوس لم يكن وحـده هـو سُلطان مجده الإلهي؛ بل وأيضاً سلطان محبته التي كانت في تناغُم مع إخلائه لذاته.

+ لقد بَذَل نفسه في نفس الوقت الذي كان فيه يُبشِّر بالحقِّ، مـن خلال بَذْله ذاته وتقديم نفسه ذبيحة مـن أجل حياة العالم. هـذه الذبيحة التي أَظهرت محبته للبشر.

+ وهـذا هـو السبب الذي بـه أَسَر المسيحُ القلوبَ، مـن خلال الفرح الذي به يشترك البشر في طريق المحبة، تحت قيادته وسُلطانه لهم!

+ ثم بإعلانه أمام بيلاطس الوالي الروماني أنـه ”ملك“، أعلـن الـرب يسوع أنَّ مملكته (ملكوته) ليست من هـذا العالم، ثم أكَّد على ذلك بقوله: «لهذا قـد وُلدتُ أنا، ولهذا قـد أتيتُ إلى العالم لأشهدَ للحقِّ» (يو 18: 37).

المسيح، بقيامته، ارتفع إلى السلطان الملكي الإلهي: لقـد استَعلَن الرب يسوع هـذا السلطان بصعوده إلى السموات، ثم جلوسـه عـن يمـين الآب، مُمَارِسـاً عمل الخلاص للبشر، ثم بمجيئه الثاني بمجدٍ عظيم ليدين الأحياء والأموات.

+ وهكـذا صرَّح المسيح بعد قيامتـه: «دُفِعَ إليَّ كلُّ سُلطان في السماء وعلى الأرض» (مت 28: 18).

+ أمَّـا القديس بولس الرسول فيقول: «فلذلك رَفَعَهُ الله ووهبه اسماً يفوق كلَّ اسمٍ. لكي تجثو باسم يسوع كلُّ رُكْبَةٍ مِمَّا في السموات وما على الأرض وما تحت الأرض. ويعترف كلُّ لسان أنَّ يسوع المسيح ربٌّ لمجد الله الآب» (في 2: 9-11 - ترجمة الروم الأرثوذكس).

+ المسيح لم يحتفظ بالمجد لنفسه فقط حينما قام من بين الأموات، بل امتدَّ به علينا، لأنه ناله أصلاً من أجلنا.

+ والسلطان الـذي وَهَبَه المسيح للبشريـة يتضمن، فوق كل شيء، مُقاومتهم للخطية؛ تماماً كما تضمَّن سُلطانه، أول كل شيء، ضبط الغرائز الطبيعيـة في الإنسـان والسيطرة عليهـا، حتى لا تتحوَّل إلى خطايا. وهذا هـو ما فعله المسيح بقبوله الموت من أجلنا.

+ يقول القديس كيرلس الكبير:

[وحينما ظَهَـر (المسيح)، اتَّخـذ لنفسه شكل العَبْد كإنسانٍ، بتكميله مطالب تدبير الخلاص من أجلنا، هو نفسه الذي – في نهاية الأَمر -صعد إلى الآب وعاد إلى حضنه؛ وهكذا فإنَّ الذي شابهنا في كلِّ شيء، فيما عدا الخطية فقط، نال التمجيد كإله؛ وهكذا تمجَّد الرب من الجميع كقدوس القدِّيسين؛ وهكـذا تمجَّد الذي مـلأ الخليقة كلها بتألُّقه، ومَنَح أرواح البشر القدرة على الجهاد ضد كل ما يُدنِّسهم](2).

+ والآن، فلنتأمَّـل في وصف الأعمال التي بها استعلَـن المسيح نفسـه ورَبح كـل سلطان ملوكيته كاملاً.

حقيقة قيامة المسيح:

+ يجمع القديس كيرلس الكبير ما بين الآب والابن في حقيقة حدوث القيامة، فيقول:

[إنه بسلطان الله الآب، فـإنَّ الابن نفسه جعل جسده حيّاً](3).

+ كما يقول أيضاً:

[لأن المسيح قام، مُبيداً الموت، ليُخلِّصنا من عَفَن الموت (تحلُّل الجسد بعد الموت)، وذلك بـإلغاء حُـزن الموت، ليتحـوَّل إلى الهُتاف المُفرِح: «لقد حوَّلتَ نَوْحي وأَلبستَني الفرح» (مز 30: 11)](4).

+ وإنَّ المسيح لم يَقُمْ وكأنه ”شيء مُتجرِّد من القوَّة الذاتية للقيام من الموت“. فقد أوضح آباء الكنيسـة حقيقـة أنَّ المسيح أَعلن سُلطانـه على الموت، حتى قبل قيامـة جسـده، وذلك بتكسيره أبواب الجحيم، وبتحرير الذين ماتوا على الرجاء في القيامة من الموت. ولهذا السبب، كان هو أَول نَفْس لم تخضع للجحيم؛ بل بإشعاع قدرته الإلهية، حرَّر وأطلق من الجحيم النفوس التي سبق وآمنت بوعوده بتحريـر النفوس حينما كانوا مـا زالوا أحياء بالجسد.

+ وعـن سلطان المسيح الذي أَظهره لنفوس المؤمنين الذين كانوا في الجحيم، يقـول القديس كيرلس الكبير:

[لأنـه بسبب هـذا، فـإنَّ المسيح مات وقام ثانيةً، حتى يَحكُم بإطلاق سـراح الموتى هم أيضاً](5).

+ وهناك بعض الإيحاءات المُتَضَمَّنة في هذه الكلمات. ففي اللحظة التي فيها نـزل المسيح إلى الجحيم، كـان في بدايـة شروعه في القيامة من الموت؛ وبالتالي فكان في بداية سُلطانه الملوكي: «مـات في الجسد، ولكـن الله أحياه في الروح» (1بط 3: 18 - الترجمة العربية الجديدة).

+ وألحان الكنيسة، منذ ليلة سبت النور، تُنبِّر على بداية قيامة نفوس الساكنين في الجحيم.

+ وهكـذا حـرَّر المسيح النفـوس التي في الجحيم، لأن سُلطان روح المسيح كان يشعُّ من نفس المسيح، تـابعاً لذبيحة جسـد المسيح على الصليب، وبموجب طاعته الكاملة للآب.

إنَّ سُلطان المسيح الذي ظَهَرَ في الجحيم، لم يكن مُنفصلاً عن ذبيحته على الصليب. وهكذا لم يكـن مُنفصلاً أيضاً عـن جسده، بالرغم من أنه لم يـأتِ إلى الجحيم لكي يتألَّم بالعذاب الأبـدي - مثل باقي النفوس - لأنه قـد صار قادراً على تخليصهم.

+ وهـذا يعني أنَّ المسيح، وهـو يتألَّم على الصليب، كان يُعاني من أجل هـذه النفوس التي تتعذَّب هناك في الجحيم.

+ ولأن آلام المسيح على الصليب كانت من أجل خلاص البشر، بل وستظلُّ هكذا حتى نهاية العالم؛ فـإنَّ المسيح يظلُّ في تعاطُف مع النفوس المتألِّمة في الجحيم.

+ هـذا التعاطُف، بالتألُّم مـع المتألِّمين في الجحيم، كان يحمل في ذاته قوَّة الخلاص لهم؛ ذلك لأن الرحمة كانت تُرافِق المسيح حيث كـان لكلِّ واحدٍ، وفي كلِّ وقتٍ.

+ وهـذا هـو السـبب الـذي مـن أجلـه نطلب رحمـة المسيح في صلـواتنا المُتكـرِّرة: ”يا ربُّ ارحمْ“.

+ ومِن جهةٍ أخرى، لا يمكننا أن نتغافَل عن الكلمات التي وَرَدَت في الرسالة الأولى للقديس بطرس الرسول (3: 19): «كَرَزَ للأرواح التي في السجن»، لأن المسيح أعلَن لهـذه الأرواح تحريرهم وقيامتهم العاجلة بالجسد.

+ وهكـذا أَكمل المسيح هناك (في الجحيم) عمله الخلاصي: كمُعلِّمٍ، وكنبيٍّ، وكما قلنا سابقاً، وكملكٍ. وهكـذا، فـإنَّ المهام الثلاث لابن الله المُتجسِّد هي: التعليم (كنبيٍّ)، والعمل الكهنوتي (ككاهنٍ أعظم)، والملوكية (كربٍّ وسيِّد).

+ ولهـذا السبب تَظْهَـر الأيقونات الخاصة بـالقيامة في الكنيسة الأرثوذكسية، وهي تُصوِّر عمل المسيح في الجحيم، كسَبْق لأحد القيامة.

+ فـالقيامة بَـدَأَت مـن سبت النور، حيث انتصـر المسيح على الجحيم، وحـرَّر النفـوس المُنفصلة عن أجسادها التي ماتت من قبل.

+ وفي العِلْم اللاهـوتي الأرثوذكسي، أشرق المسيح من داخله، مـن نفسه وجسده الأَقْدَسَيْن، حتى وهـو في الجحيم، وأشرق على كـل الذين آمنوا بمجيئه من قَبل مجيئه في الجسد.

ومن خلال ذبيحته، التي اكتملت في الجلجثة، ظلَّ في الشركة الكاملة، ليس فقط مع الآب، بـل وأيضاً مـع البشـر؛ وأشـرق أولاً على النفوس التي في الجحيم، والتي مـاتت أجسادُهـا قبـل قيامته بالجسد من بين الأموات.

(يتبع)

(1) Cyril of Alexandria, Glaphera (PG 69: 585b).
(2) Ibid., PG 69: 476.
(3) Cyril of Alexandria, Glaphera (PG 69: 365b).
(4) Cyril of Alexandria, Glaphera (PG 69: 544a).
(5) Cyril of Alexandria, Glaphera (PG 69: 95).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis