تأملات روحية



«فخرج وهو حاملٌ صليبه»
(يو 19: 17)

اتِّحاد ابن الله بجسدٍ قابل للموت:

لقد سقط الإنسان مـن الشركة مع الله، بسبب تعدِّيـه الوصية ومُخالفته لله، وبالتالي سقط مـن النعمة ومـن الحياة الأبديـة؛ فتملَّك عليه الفساد وسَـادَ عليه الموت. وبالتالي، كما يقول القديس أثناسيوس الرسولي: ”سيكون مـن غير الجدير بصلاح الله أن تَفْنَى خليقته بسبب غواية الشيطان للبشر. ومن ناحيةٍ أخرى، كان سيصبح من غير اللائـق على الإطلاق أن تتلاشى صَنْعة الله بيد البشر، إمـا بسبب إهمالهـم، أو بسبب غوايـة الشياطين... فلـو أنَّ الله أهمل (البشر) ولم يُبالِ بهلاك صنعته، لأَظهر إهماله هـذا ضعفه وليس صلاحه. ولو أنَّ الله خلق الإنسان ثم أهمله، لكان هـذا ضعفاً أكثر مما لو أنـه لم يخلقه أصلاً... (لـذلك) كـان يجب، إذن، أن لا يُترَك البشـر لينقادوا للفساد، لأن هـذا يُعتَبَر عملاً غير لائق ويتعارَض مع صلاح الله“(1).

ولذلك كان مـن تدبير الله الفائق الوصف أن يتجسَّد ابن الله ويتَّحد بجسدٍ بشري قابل للموت، حتى يستطيع - وهو الحياة بطبعه - أن يواجه الموت الذي ساد وتسلَّط على الطبيعة البشريـة، في نفس الجسد، فتتواجَـه الحياة مـع المـوت المُتسلِّط، ويُبتَلَع الموت إلى غلبة.

فابن الله اتَّحد بطبيعةٍ بشرية كاملة مُماثلة لنا في كلِّ شيء ما خـلا الخطية وحدها، حتى إذا مـا اتَّحد - وهـو الإله - بكلِّ مكوِّنات الطبيعة البشريـة - نفساً وجسداً - يَشفي ويُخلِّص كـلَّ الكيان البشري، ولا يكون بعـد أيُّ عنصر مـن عناصر الطبيعة البشرية لم يَنَلْه الخلاص!

+ وفي هذا الصدد يقول القديس أثناسيوس الرسولي:

[بعدمـا قدَّم (الرب) براهينَ كثيرة على أُلوهيته، بواسطة أعماله في الجسد، فإنه قدَّم ذبيحته عن الجميع، فأَسلم هيكله (جسـده) للموت عِوَضاً عن الجميع. أولاً: لكي يُبرِّرهم ويُحرِّرهم مـن المعصية الأولى؛ وثانياً: لكي يُثبت أنـه أقوى مـن الموت، مُظهِراً جسده الخاص أنـه عديم الفساد، وأنه باكورةٌ لقيامة الجميع...

وهكــذا تـمَّ (فـي جسـد المسـيح) فعـلان مُتناقضان، في نفس الـوقت: الأول: هـو أنَّ مـوت الجميع قـد تمَّ في جسـد الـرب (على الصـليب)؛ والثاني: هـو أنَّ الموت والفساد قد أُبيدا من الجسد بفضل اتِّحاد الكلمة به. فلقد كـان الموت حتمياً... ولهذا، طالما أنَّ الكلمة كـان مـن غير الممكن أن يموت (كإله)، إذ أنـه غير مائت، فقد أَخَـذَ لنفسـه جسداً قـابلاً للموت، حتى يمكن أن يُقدِّمـه، كجسده الخاص، نيابةً عن الجميع، حتى إذا ما تألَّم عن الكلِّ - باتِّحاده بالجسد - فإنـه «يُبيد بالموت ذاك الـذي لـه سلطان الموت، أي إبليس، ويُعتِـق أولئـك الذيـن - خوفاً من الموت - كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية» (عب 2: 15،14)](2).

المسيح تألَّم وذاق الموت بالجسد من أجلنا:

يـؤكِّد القديس بطـرس الرسـول في رسالته الأولى أن الآلام التي احتملها الرب يسوع، احتملها لأجلنا بـالجسد، فيقول: «فَـإِذْ قَدْ تَأَلَّمَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا بِالْجَسَدِ، تَسَلَّحُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهذِهِ النِّيَّةِ. فَإِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ فِي الْجَسَدِ، كُفَّ عَنِ الْخَطِيَّةِ» (1بط 4: 1).

كمـا نُصلِّي نحـن في صـلاة الساعة التاسعة مـن النهار متضرعين، ونحـن نُخاطِـب الـرب يسوع: ”يـا مَـن ذاق الموت بـالجسد في وقـت الساعة التاسعة مـن أجلنـا نحـن الخطاة، أَمِـتْ حواسنا الجسمانية أيها المسيح إلهنا ونجِّنا“.

+ ويقـول القديس كيرلس الكبير تأكيداً على ذلك:

[الآلام تخصُّ التدبـير. والله الكلمـة جعـل ما يخصُّ جسده يخصُّه هـو نفسـه، بسبب الاتِّحاد الفائق الوصف. لكنه ظلَّ فوق الآلام حسب طبيعته لأن الله لا يتألَّم. ولا غرابة فيما نقول، لأن نفس الإنسـان تظلُّ فـوق الآلام عندما يتألَّم جسدهـا. ونحـن لا نَعتَبِر النفس بعيدة عـن الآلام، أو أنَّ الآلام عندما تحدث للجسد لا تخصُّ النفس، لأن الجسد الذي يتألَّم هـو جسدهـا. وعندمـا يتألَّم الجسد، فالنفس المتَّحـدة بـه، وهي مـن طبيعـة بسيطـة لا تُلمَس، لا تظلُّ بعيدة عن الألم، لأن الجسد الذي يتألَّم ليس غريباً عنها بالمـرَّة؛ هكـذا يمكننا أن نفهم آلام المسيح مُخلِّصنا كلنا](3).

«فخرج وهو حاملٌ صليبه»:

+ يؤكِّـد القديس كيرلس الكبير أن الـربَّ يسوع احتمل الآلام والصَّلْب، لا من أجل نفسه، بل مـن أجلنا نحن الخطاة ومن أجل خلاصنا. ولكنـه يُعلِّق على خـروج المسيح ”وهو حاملٌ صليبه“، قائلاً:

[هم يقتادون رئيس الحياة إلى الموت، وهـذا حدث لأجلنا؛ لأنه بقدرة الله وعنايته التي تعلو على الإدراك، فإنَّ موت المسيح قَلَبَ الأمور بصورةٍ غير متوقَّعة، لأن آلامه قـد أُعِدَّت كفخٍّ لاصطياد قـوَّة المـوت، ومـوت الرب صار مصدر تجديد الجنس البشري إلى عدم الفسـاد، وجـدَّة الحيـاة. وإذ حَمَلَ (الرب) الصليب، الذي كـان مزمعاً أن يُصلَب عليه، فإنـه مضى إلى المصير المُحـدَّد له. ورغم أنـه بريء، فقد احتمل حُكْم الموت لأجلنا. فإنـه احتمل، في شخصه، الحُكْم الـذي حَكَمَ بـه الناموس ضد الخطاة، لأنـه «صار لعنةً لأجلنا» (انظر غل 3: 13؛ تث 27: 26). إذاً، فاللعنة تخصُّنا نحن وليس غيرنـا. لأن أولئك الذيـن يتعدّون الناموس، وينحرفـون عـن وصايـاه، يستحقُّون العقاب بـالتأكيد. لذلك، فـذاك الذي لم يعرف خطية، لُعِنَ من أجلنا، لكي يُنقذنا مـن اللعنة القديمة؛ لأن الله الذي هـو فوق الكل، إذ مات لأجل الجميع، وبموت جسده، افتدى كل جنس البشر](4).

+ ويستطرد القديس كيرلس الكبير في شرحه، أنَّ ما احتمله المسيح من آلام وموت، ليس بسبب أنه هو الذي يستحقُّ هذا الموت، إذ هـو البار القدوس الذي لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر؛ بل لأننا نحن الخطاة الذيـن نستحق المـوت، بسبب تعدِّينا وصية الله، وسقوطنا من الحياة الأبدية؛ فيقول:

[إذاً، الـذي حمله المسيح، لم يكـن بسـبب مـا يستحقُّه، بـل كـان هـو الصليب الذي ينتظرنا، والـذي نستحقُّه بسبب إدانتنا مـن الناموس. لأنه كما حُسِبَ بين الأموات، ليس من أجل نفسه، بل مـن أجلنا، لكي يكون لنا رئيساً للحياة الأبدية بإخضاعه سلطان الموت نفسه؛ هكـذا أيضاً فإنـه حَمَـلَ على نفسه الصليب الذي نستحقُّه نحـن، مُحتملاً دينونة الناموس على نفسه... إذ أنَّ الذي بـلا خطية قد احتمل الدينونة عن خطية الجميع. والعمل الـذي عمله المسيح هـو ذو نفـعٍ عظيـم لنفوسنا... لأنه لا توجد طريقة أخرى يمكننا بهـا أن نبلغ إلى كمـال كـل فضيلة، وإلى الاتِّحاد الكامل بالله، سوى بأن نحبه فوق كل الحيـاة الأرضية، نُجاهـد في المعركة لأجل الحـقِّ... وأيضاً يقول ربنا يسـوع المسيح: «ومَـن لا يأخـذ صليبـه ويتبعنـي فـلا يستحقني» (مت 10: 38). وأظـنُّ أنَّ ”أَخْذ الصليب“ لا يعنى شيئاً آخـر سـوى، تـرك العالم لأجـل الله، وتفضيل رجاء المجد الآتي على الحياة في الجسد](5).

ولكن، لماذا قَبِلَ الربُّ الموتَ علانيةً

مُعلَّقاً على الصليب؟

هناك اعتراضات طُرحت مـن قِبَل فـلاسفة ومُفكِّرين كثيرين: لماذا قَبِلَ الرب أن يموت من أجل الجميع بواسطة الصليب؟ أَلم يكن جديراً بالرب أن يموت بطريقةٍ أقل بشاعة من موت الصليب؟ ونَسِيَ هؤلاء وأولئك أن تدبير خلاصنا مُرتَّبٌ من قِبَل الله قبل تأسيس العالم، ولم يكُن حَدَثاً عارضاً؛ إذ يقول القديس بطرس: «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ. بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفـاً سَـابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلكِنْ قَـدْ أُظْهِرَ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِـيرَةِ مِـنْ أَجْلِكُمْ» (1بط 1: 18-20).

+ وفي هذا الصدد يقول القديس أثناسيوس الرسولي:

[وربما تساءل أحـدٌ: إن كـان لابـد أن يُسلِّم (الرب) جسـده للموت... فلماذا لم يضع هـذا الجسـد (على فـراش المـوت وفي مـوضعٍ خاص) كأيِّ إنسانٍ عادي بدلاً من أن يأتي به إلى موت الصليب علناً؟ فقد كان أكثر لياقة له أن يُسلِّم جسده بكرامةٍ بدلاً مـن أن يحتمل موتـاً مُشيناً كهـذا! ولكـن لابـد أن ننتبه، أن هذه الاعتراضات هي اعتراضات بشرية. أمَّا ما فعله المُخلِّص، فهـو حقّاً عملٌ إلهي ولائقٌ بلاهوتـه لأسبابٍ كثيرة. أولاً: إن الموت الذي يُصيب البشـر عـادةً يـأتيهم بسـبب ضعف طبيعتهم، وإذ هم لا يستطيعون البقـاء لزمـنٍ طويل، فـإنهم ينحلُّون في الزمـن (المُحـدَّد). وبسبب هـذا أيضاً تنتابهم الأسقام فيمرضـون ويموتون. أمَّا الرب فإنـه ليس ضعيفاً، بل هو قوَّة الله، وكلمة الله، وهو الحياة عينها.

ولو أنـه وَضَعَ جسده (للموت) في مكانٍ خاص، وعلى فراشٍ، كما يموت البشر عادةً، لكان الناس قـد ظنُّوا أنـه ذاق ذلك (الموت) بسبب ضعف طبيعتـه، ولظنُّوا أيضاً أنـه لم يكن فيه ما يُميِّزه عـن سائر البشر. أمَّا وأنه هو الحياة وكلمة الله، وكان من المُحتَّم أن يتمَّ الموت نيابةً عـن الجميع، لهذا - ولأنه هو الحياة والقوَّة - فقد نال الجسد منه قوَّةً.

هذا من جهةٍ، ومن الجهة الأخرى، فما دام الموت لابد أن يتمَّ، فإنـه لم يَسْعَ بنفسه إلى الفرصة التي بها يُتمِّم ذبيحته. لأنه لم يكن لائقاً أن يمرض الرب، وهـو الـذي يَشفي أمراض الآخرين. ولم يكن لائقاً أيضاً أن يضعف ذلك الجسد الذي به قَوَّى ضعفات الآخرين.

ولماذا، إذن، لم يمنع حدوث الموت، كما منع المرض مـن أن يُسيطر (على الجسد)؟ ذلك لأنه لأجل هذا (الموت) اتَّخذ الجسد، ولم يكن لائقاً أن يمنع الموت لئلا تتعطَّل القيامة أيضاً. ولم يكـن لائقاً أيضاً أن يسبق المرض موته لئلا يُظَنَّ أن ذاك (الرب) الذي كان في الجسد ضعيفاً... لهذا فإنه وإن كان قـد مات لأجل فداء الجميع، لكنه لم يَرَ فساداً! فقد قام جسده سليماً تماماً، إذ لم يكن سوى جسد ذاك الذي هـو الحياة عينها](6).

ذبيحة حَمَل الله:

لقد كـان ”خروف الفصح“، في العهد القديم، رمزاً وإشارة إلى الرب يسوع، حَمَل الله الذي يرفع خطية العالم، والذي صار لنا الفداء بدمه غفران الخطايا، وقد نوَّه القديس بولس الرسول قائلاً: «لأن فصحنا المسيح قد ذُبِحَ لأجلنا» (1كو 5: 7).

+ والقديـس كيرلس الكبير يُشـير إلى أنَّ خروف الفصح بسبب أنـه طاهرٌ وبريء كـان يُعتَبَر ذبيحةً بحسب الناموس، وبالتالي فهو إشارة إلى ذبيحة المسيح حَمَل الله الذي ذُبِحَ مـن أجل خلاص العالم كله، فيستطرد ويقول:

[المسيح، هـو نفسه كان ذبيحةً بلا عيب، إذ قدَّم ذاتـه لله أبيه كرائحة ذكية، وكشاةٍ، ذُبِحَ بسبب خطايانـا. كما أَمَر المُشرِّع أن يدهنوا القائمتين والعتبة العُليا للمنازل بـدم الحَمَل، قـاصداً بذلك الإشارة إلى أنـه بـدم المسيح المقدَّس والكريم نُؤمِّـن مسكننا الأرضي، أي الجسد، طاردين منه الموت الذي هـو نتيجة العصيان، بـالحياة التي نشترك فيها... أمَّـا أبواب بيوتنا، فهي حواسنا التي مـن خلالها نُراقب نوعية الأمـور التي تدخل قلوبنا، إذ يتسلَّل داخلنا - من خلالها - عددٌ لا يُحصَى من الرغبات](7).

(1) ”تجسُّد الكلمة“، 6: 10،8،6،5.
(2) ”تجسُّد الكلمة“، 20: 6،5،2.
(3) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 36.
(4) ”شرح إنجيل يوحا“، الجزء الثاني، يو 19: 16-18.
(5) نفس المرجع السابق.
(6) ”تجسُّد الكلمة“، 21: 3-7.
(7) ”جلافيرا“ ”تعليقات لامعة“ على سِفْر الخروج، المقالة الثانية، الحديث عن ”ذبيحة الحَمَل“.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis