من تاريخ كنيستنا
- 157 -


الكنيسة القبطية في القرن التاسع عشر
البابا كيرلس الرابع
البطريرك العاشر بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1854 - 1861م)
- 6 -

«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

(تكملة) تداخُلات الإنجليز للوقيعة بين

البابا كيرلس الرابع وبين سعيد باشا:

ولكـن ما إن سمع (الإمبراطور الإثيوبي) كلام الوشاة، ووجـد أنَّ الجيش المصري قد وصل فعلاً إلى الخرطوم؛ حتى تطاير غضبه وقبض على البابا وألقاه في سجنٍ مُنفرد، وأَبْعَد عنه كل مُرافقيه؛ بل لقد بلغ به الغضب أنه كان يريد أن يقتله.

+ إلاَّ أنَّ الله أقام لصفيِّه الملكةَ مُدافعةً عن البابا، إذ تقدَّمت إلى زوجها الإمبراطور، وطلبت منه أن يتمهَّل قائلة: ”انتظرْ لتتأكَّد من صحة هذا الكـلام. فـالرجل (البابا) مسجونٌ، وهـو تحت أَمْرَك، ويمكنك أن تقتله في أيِّ وقـت. أمَّـا إن قتلته، ثم اتَّضح كذب هـذه الأقوال، فلن تستطيع إعادته إلى الحياة“!

+ ووافقها شيوخ المملكة، فانصاع الإمبراطور ثيئودوروس لمشورتهم. ثم تمكَّنت الملكة أيضاً أن تحصل على الإذن للبابا القبطي بالكتابة إلى رجاله في مصر. فأرسل البابا من سجنه رسالةً إلى ”محمد سعيد“ الوالي في الخرطوم يرجوه مغادرة الخرطوم، لأنه نجح في وساطته.

+ فسمع الوالي سعيد لطلب البابـا، وعـاد بجيشه إلى القاهرة. وعند ذاك أدرك الإمبراطور الإثيوبي خطأه؛ وباندفاعه المُعتاد، توجَّه إلى البابا في سجنه، حاسر الرأس، حافي القدمين، ثم أَلقى بنفسه عند قدميه يريد تقبيلهما طالباً الصَّفْح عمَّا بَدَرَ منه. فرفض البابا، فقـام الإمبراطور، وقبَّل البابا رأس الملك النادم.

+ ثم جِيء إليهما، الإمبراطور والبابا، بورقة سجَّل فيها الإمبراطور عَهْده بالحدود التي حدَّدها البابا كيرلس الرابع، ووقَّع عليها، وسلَّمها للبابا.

+ ومـا إن استلم البابا وثيقة التعهُّد الملكي، حتى استأذن مـن الإمبراطـور في العـودة إلى مصر. حينئذ حمَّله الإمبراطور من الهدايا الثمينة الشيء الكثير، وللوالي سعيد باشا، وطلب مـن البابا البركة. ثم أرسل الإمبراطور معه الكاهـن الخاص بـه ووزيراً مـن وزرائـه، ليحملا في عودتهما إلى الحبشة نص الوثيقة بعد أن يوقِّـع عليها الوالي سعيد باشا.

+ ووصل البابـا كيرلس الرابع إلى القاهرة بعـد غيابـه عـن وطنـه وشعبه سنة ونصف. وامتلأت القلوب فرحاً بعودته. وسار موكب من الكهنة بملابسهم الكهنوتيـة والشمامسة بملابـس الخدمة، رافعين الصليب جهاراً، ويتبعهم جمهورٌ من الشعب القبطي.

+ وأُقيمت الولائم، ووفَدَت الوفود من مختلف الجهات لتهنئة البابـا بسلامة العودة. وهكذا فشل ”الإنجليز“ للمـرَّة الثانية أمـام صمود البابـا وإخلاصه لوطنه العزيـز مصر. ولكنهم ظلُّـوا على حِقْدهم، وظلُّوا على مُناصبتهم العداء للبابا المصري الوطني. فاستثاروا الباشا (الوالي سعيد) بما وصفوه مـن مظاهر الترحيب والتبجيل التي أبداها الشعب للبابا. حينئذ استدعاه الباشا سعيد وسأله عـن المُوجِب لرَفْع الصليب في الشوارع. فأجابه البابا بأنَّ الإذن في رفع الصليب كـان قد صَدَر منذ عهد محمد علي باشا نفسه منذ حادثـة الشهيد ”سيدهم بشاي“. على أنَّ البابـا استشف، ببصيرته، أن سعيد باشا قد تغيَّر وجهه نحوه.

محاولة بعض الأقباط استخدام

هذه الحادثة لتكون قوَّة تُساند الأقباط،

وردُّ البابا القبطي عليهم:

+ ولقـد زَعَم بعض الأقباط، بعد أن أُبرمت المعاهـدة بـين حكومتَي مصـر وإثيوبيـا، أنَّ الأحباش قـد يكونون قوَّة تُساندهم، وفعلاً أعربوا للبابا عن زعمهم هذا. لكن البابا ردَّ عليهم: ”يجب أن تُدركوا أن اعتمادنـا هـو على الله وحـدَه. والأحباش - مع كل انتفاعهم منَّا - يطمعون في المزيد“. ثم وصف لهم كل ما ألحقوا بـه مـن إهانـات، وكـل محاولتهم - في الوقت نفسه - للاستيلاء على دير السلطان في القُدس.

البابا كيرلس الرابع يواصل مجهوداته الإصلاحية:

+ على أنَّ امتعاض الـوالي لم يقـف حائـلاً دون مـواصلة البابـا في متابعـة مجهـوداتـه الإصلاحيـة. فقـد قطع على نفسـه العهد بخدمة كنيسته ووطنه إلى النَّفَس الأخير؛ مـع أنه قال: ”إنَّ الإصلاح يحتاج إلى عمر "متوشالح" (أحـد أنساب آدم - 969 سنة)، وصبر "أيوب" (في احتمال كـل البلاء الذي أصابـه)“. وهكذا اندفع البابا في عملية ”الإصلاح“ بقـوَّةٍ واستعجـال، لعلَّه يُنجـز أكـبر مقدار منه، وكأنما أحسَّ بروحه باقتراب أَجله!

+ وهكذا، وبعد عودتـه مـن الحبشة، أنشأ المدارس، واطمأن على حُسْن سَيْرها، وكـان قد استأمن ”المعلِّم برسوم“ عليها في غيابه.

+ وإنـه لجديـرٌ بالاعتبار وبالاعتزاز، أنَّ بابواتنا لم يكتفوا برَفْض الادِّعاء بالعصمة البابوية (مثلما في الكنيسة اللاتينية)؛ بـل لقـد بلغ بهم التواضُع إلى حدِّ أنَّ الواحد منهم كان يعترف بخطئه جهاراً، دون تـردُّد، ودون زَعْمٍ باطل أنَّ مثل هـذا الاعتراف جهاراً، يُنقِص من قيمته في أعين شعب رعيَّته.

نموذج عملي في سيرة البابا كيرلس الرابع:

+ ومِمَّـا يـؤْثَر عـن البابا المُلقَّب عن جدارة بأبي الإصلاح، أنْ وَشَى الواشون بالمعلِّم برسوم واصف لدى البابا، وأحسَّ هذا الأرخن الكبير بأنَّ باباه غاضبٌ عليه. فرأى أن يبتعد عـن الصلاة في الكنيسة القبطية، وأن يذهب للصـلاة لدى كنيسة الأَرمن (باعتبارهـا تعتنق نفس الإيمان الأرثوذكسي للكنيسة القبطية). وأحسَّ هـذا الأرخن بأنَّ لا غُبار عليه في الصلاة لدى طائفة الأرمن.

+ ولاحَظ الأب الراعي الصالح غياب ابنه الذي كـان يثق فيه ثقة كبيرة، فكَتَب إليه لساعتـه. ومِمَّا جـاء في خطابـه هـذه الكلمات: ”... تحرَّيتُ عن الموضوع، فوجدتُ نفسي مُخطئاً ومغشوشاً. فأرجو أن تُسامحني لأنني لم أَكن معصوماً عن الخطأ، إذ لم أخرج عن كوني بشرياً - الحقير كيرلس.

ثم عاد وكتب للأرخن برسوم ثانيةً قائلاً له: ”... وإن كـان الأَوفق حضوركم عندنا في وقتٍ معلوم، لنتكلَّم شفاهياً عـن إرادتكم وطلبكم، ولا يكن عندكم فكرة من قِبَلنا، وما تغيَّر قَلْبُنا، والكلام ما قلناه أبداً، وإنْ كنَّا قلنا شيئاً، فهو ليس مُغايراً للطبيعة؛ بل ونحن وأنتم بَشَر، وأنا لواحد خاطئ. وربنا يرحمنا جميعاً“ - الحقير كيرلس(1).

وبهـذا التواضُع العجيب، صالَحَ البابـا ابنَه. ومِمَّا لا شكَّ فيه أنَّ مثل هذا التواضُع لا يَصْدر إلاَّ عن قلبٍ يفيض محبة، بل هو يزيد من كرامة البابا لدى النفوس الطاهرة.

+ رَفْض البابـا سجـود الناس لـه حـين يتقدَّمون للسلام عليه (تلك البدعـة الحديثة في الكنيسة القبطية): ولم يقتصر تواضُع البابا على اعترافه بخطئه فقط، بل مِمَّا يؤْثَر عنه، أنه كان يرفض البدعـة الحديثـة (تشبُّهاً بالسجود للخليفة والولاة العثمانيين)، وهي سجود الناس لـه حين يتقدَّمون للسلام عليه، قائـلاً لهم: ”هل أنـا صَنَمٌ جئتم لتسجدوا له؟!“. وإذا ما كـان وقت التبخير أثناء الشعائـر الطقسية، وتقـدَّم إليه الكاهـن بالبخور، كان يقوم إكراماً لهذه الخدمة قائلاً: ”إنَّ الغرض من تقدُّم الكاهن بالبخور إليه، هو رجاء صامت بأن يطلب (البابا) إلى الله أن يقبل البخور مـن الكاهن الخديم؛ وأنَّ البخور، الـذي هـو صلوات القدِّيسين، حينما يمـرُّ بـه الكاهن أمام الأيقونات، إنما هـو لنفس الغرض. وفي الوقت نفسه، يمرُّ به وسط الشعب مُبَخِّراً إيَّاه لهدفين: الأول: رجاء إلى الله بأن تشمل صلوات القدِّيسين الشعبَ المجتمـع بـالكنيسة؛ والثاني: أن يرفـع هـؤلاء المُصلُّون ابتهالاتـهم لتمتزج بصلوات القدِّيسين، فتتآلف تضرُّعات الكنيسة المنتصرة مع الكنيسة المُجاهدة كوحدةٍ مُترابطة من التقرُّب إلى عرش الله“.

+ وحقّاً، كان هذا الأب البطريرك أباً ورئيساً وقُدْوةً معاً. ثم رأى ضرورة تجديد الكنيسة المرقسية بالأزبكية، ليجعلها لائقة بصدارتها. وبالفعل كان يوم الخميس 29 برمودة سنة 1575ش/ 1859م، هو الموعد الذي حدَّده البابا لوضع حجر الأساس للبناء الجديد بعد هَدْم القديم. وقـد دعا البابا للاحتفال رؤساء الكنائس وكبار رجال الحُكْم، فلبُّوا دعوته. وكان احتفالاً له روعته.

عودة المحاولات من البابا الروماني لضمِّ

الكنيسة القبطية للكنيسة الرومانية الكاثوليكية:

+ فقد حدث أنه بينما كـان البابا جالساً ذات صباح في فنـاء الكنيسة المرقسية يُراقب البنَّائين ويُشجِّعهـم على العمـل؛ وإذا بمنـدوب البابـا الرومـاني يدخـل عليه، ومعه المُترجـم الأول بالقنصلية الإنجليزية، ولكن دون سابق موعد.

+ وكان الهدف من هذه الزيارة المُفاجئة هو ان يَعْرض المندوب الروماني على بابا الكنيسة القبطية انضـواء الكنيسة القبطية الأرثـوذكسية تحت رئاسة الكنيسة البابوية الرومانية. وكان هذا استمراراً لهذه المحاولات السابقة الفاشلة.

فبعـد أن أَمَر البابـا كيرلس الرابع بإحضار المُرطِّبات والقهوة لضيفَيه (المندوب والمُترجم)، انشغل البابا بالمُطالعة في الإنجيل الذي كان معه، إذ كـان قـد استشفَّ الهدف الذي كـان يُريده المندوب البابوي من وراء هذه الزيارة، وذلك قبل أن يتفوَّه بكلمةٍ واحدة. ولمَّا سأله المُترجم ”يوحنا مسرَّة“ عمَّا يفعله؟ أجاب البابا كيرلس الرابع:

- ”أنت ترى أني مُنشغل بإقامة كنيسة جديدة بدلاً من القديمة، وقد نَفَدَ المال الذي معي، فأشار عليَّ بعض أحبائي أن أحذو حَذْوَ بابا روما، فأبيع صُكوك الغفـران حتى أَحصل على مبالغ طائلة أستكمل بها بناء كنيستي بسرعة. ولكنني آثـرتُ أن أبحث عن آيةٍ في الإنجيل تُبرِّر هذا العمل قبل ان أُقْدِمَ عليه. فما دُمتُم قد جئتما إليَّ الآن، فإنه يمكنني الاستعانة بكما بدلاً من إضاعة الوقت في البحث عن الآية المطلوبة“.

وقـد ترجم ”يوحنا مسرَّة“ كلام البابا كيرلس الرابع إلى أن وصل إلى الجملة الأخيرة، فحـار المندوب البابـوي الروماني في أَمْـره، وسكت. وبالتالي، لم يجـرؤ على مُكاشفة البابا عن سبب الزيارة، وانصرف الاثنان لساعتهما.

+ وكـان البابـا كيرلس الرابع يتمتَّع بمكانةٍ ممتازة عند بطريـرك الروم الأرثوذكس، وكان اسمه ”كاللينيوس“ إلى درجة أن هـذا البطريرك ائتمن البابـا كيرلس الرابـع على رعايـة شعبه عندما سافر بعض الوقت إلى أثينا باليونان.

البابا كيرلس الرابع يردُّ على سؤال

حول ميراث المرأة:

+ ذلك أنَّ الوالي ”سعيد باشا“، استدعى ذات يوم الأب البطريرك ليَعرضَ عليه مُشكلة خاصة بالسيدة حَـرَم ”اسكاروس أفنـدي قسيس“، وهي صهر ”باسيليوس بـك“ (ابن المعلِّم غالي. وهي مـن الأُسـرة الوحيدة التي انضمَّت للكنيسـة الرومانية الكاثوليكية بأَمْر محمد علي باشا)؛ وقال له: ”إنَّ هذه السيدة وعائلتها يرغبون في أن تكون الحَكَم بينهم، وهم يرتضون بقضائك مـع كونهم تابعين للكنيسة الكاثوليكية. والسؤال الذي يرجون إجابته منك هو: "هل تُعْطي للمرأة ميراثاً متساوياً كالرجل أو تُعطيها نصفه؟"“.

+ فالتفت البابا أبـو الإصـلاح إلى أصحاب الدَّعْوَى، وسألهم: ”حينما تفعل المـرأةُ الصلاحَ، فهل يُعطيها الله - تعالى – المَثْوَبَـة (أي الثواب) مـن عنده أم لا“؟ فأجابوه: ”نعم، يُعطيها“. فعاد يسألهم: ”وهـل يكون جـزاؤه لها ناقصاً، لأنها "امرأة"؟“. أجابوه: ”طبعاً، لا. إنه يُعطيها الجزاء الذي تستحقُّه كاملاً“. فقال لهم: ”ما دام الله يمنح المرأة الثواب كاملاً، أَفـلا يجدر بمَـنْ يؤمنون بـه أن يعملوا مثله ويُطيعوا أوامـره؟“. فقَبِلَ المحتكمـون إليه مشورتـه، وأعطـوا أخواتهم حقوقهُنَّ كاملة.

(يتبع)

(1) جـرجس فيلوثـاوس عـوض، كتاب: ”أبـو الإصلاح“، ص 181-182؛ راجع أيضاً: البابـا ثيئوفيلس الكبير، جزء 1، من كتاب: ”يتيم من ممفيس يعتلي السُّدَّة المرقسية“؛ عن: إيريس حبيب المصري، ”قصة الكنيسة القبطية“، الكتاب الرابع، ص 331.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis