أعياد الكنيسة


عيد البشارة

تحتفل الكنيسة في 29 برمهات(1) (7 أبريل) بعيد البشارة(2) Annunciation، أي باليوم الذي بشَّر فيه الملاك جبرائيـل العذراء ابنـة الناصرة بتجسُّد ابن الله وميلاده منها، أي بُشْرَى الخلاص للبشر والنجاة من الموت ونوال الحياة الأبدية، أي بداية العهد الجديد وعيد الخليقة الجديدة.

وتُسجِّل بشارة القديس لوقـا تفاصيل المشهد الذي بدأه الملاك جبرائيل بتحيَّة العذراء: «سَلاَمٌ لَكِ أَيـَّتُهَا المُمْتلِئة نِعْمَـةً! الرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ». واللافت للنظر أنَّ العذراء لم تندهش لمَرْأى الملاك المهيب، وإنما اضطربت مـن كلامه ومـا عسى أن يكون وراءه. فأفصح الملاك عن إرساليته وبشارته مُطَمئناً إيَّاها قائلاً: «لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَـدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ»، ثم أعلـن تحقيق الوعـد القديم بمجيء المُخلِّص مـن نسل امـرأة ليسحق رأس الحيَّة، إبليس، الذي أسقط آدم وحواء أبا وأُم كل حي (تك 3: 15)، ومـا كتبه الأنبياء بالوحي الإلهي من نبوَّات صعبة التصديق: «وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَـةً: هَـا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ ”عِمَّانُوئِيلَ“»(3) (إش 7: 14؛ مت 1: 23). فيقول لها الملاك: «وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ» (لو 1: 28-33).

وبالطبع كـان الكلام غريباً على مسامعها. فالملاك يتكلَّم عن حَبَل وولادة لابن العَليِّ، فتقول مُتحيِّرة: «كَيْفَ يَكُـونُ هـذَا وَأَنَـا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟» (لو 1: 34). فيأتي الرد ناسباً الأَمر كله إلى التدبـير الإلهي: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ»، ثم يسند إيمانها بما يكشف عـن قدرة الله وإنعامه على أليصابـات قريبتها العاقر الطاعنة في السنِّ بابـنٍ (يوحنا الذي يُهيِّئ الطريق قدَّام ابن الله)، «لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَـيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ» (لو 1: 35-37).

وهنا تُذعن العذراء لخطة الله، وتُصدِّق على أَمره: «هُوذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لو 1: 38). وهكذا بَدَأ تحقيق الخلاص بيوم البشارة، أي الخبر السار، الذي أَدْخَل الفرح مـن جديـد في حياة الناس بعد أن ساد عليهم حزن الموت طويـلاً. بل قد سبق مجيء المسيح قرون أربعة لم يكن فيها أنبياء، وغلب عليها الصمت والغربة والظلام.

هكـذا بشَّر الملاكُ الرعـاةَ بميلاد المسيح: «هَـا أَنَـا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُـونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَومَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ» (لو 2: 10). ويذكر الكتاب أنَّ المجوس حـاملي الهدايـا للمولود، لمَّا رأوا النجم الذي كان يتقدَّمهم في المشرق وجاء ووقف فـوق حيث كـان الصبي، «فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدًّا» (مت 2: 10).

+ عن البشارة:

الإنجيل هو البشارة المُفرحة. ومكتوبٌ عن المسيح بعد أن بدأ كرازته أنه جاء إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله، قائلاً: «قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُـوا وَآمِنُوا بِـالإِنْجِيلِ» (مر 1: 15،14)(4). والأنـاجيل الأربعة نُسمِّيها البشائر، وكُتَّاب الأناجيل نُسمِّيهم البشيرين.

+ والبشارة في معناها الخاص ترتبط ارتباطاً مُباشراً بشخص المسيح، فهو موضوع البشارة. ومكتـوبٌ عـن لقاء فيلبُّس الشمَّاس بـالخِصِي الحبشي الذي قاده للإيمان، أنـه «بشَّره بيسوع» (أع 8: 35). والقديـس بولـس أيضاً لمَّا التقى بالفلاسفة الأبيكوريين والرواقيين في أثينا، «كان يُبشِّرهم بيسوع» (أع 17: 18).

+ وهدف البشارة هو الخلاص والمُصالحة مع الله بالإيمان بشخص يسوع المسيح الذي حقَّق الفداء بموته وقيامته، ووسيلتها هي الإنجيل (بمعنى البشارة والكرازة، أو الإنجيل المكتوب كلمة الله): «الإنجيل الذي بشَّرتكم به» (1كو 15: 1).

+ ومجال البشارة هو العالم كله. وهي بَدَأَت بمجيء الرب المُتجسِّد، ولابد أن تستمر إلى آخر الأيام لتصل هبة الخلاص لكلِّ البشر: «وَيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى» (مت 24: 14) (من حديث المسيح مع تلاميذه قبل صَلْبه عـن الأيام الأخيرة).

+ والكرازة بإنجيل الخلاص، وعمل الله في حياتنا، ليست فقط مهمة التلاميذ والرسل والآباء والخُدَّام، ولكنها عمل كل مؤمن اختبر الخلاص ويحيـا في الإيمان وينتظر حياة الدهـر الآتي. والرب بعد أن شَفَى الرجـل ذا الأرواح النجسة، قـال له: «اذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَهْلِكَ، وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ صَنَعَ الرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ» (مر 5: 19). ويقول الكتاب: إنـه «مَضَى وَابْتَـدَأَ يُنَادِي فِي الْعَشْرِ الْمُـدُنِ كَمْ صَنَعَ بِـهِ يَسُـوعُ. فَتَعَجَّبَ الْجَمِيعُ» (مر 5: 20).

والرب لمَّا دعا المؤمنين ”ملح الأرض“ و”نور العالم“، فهو ضمناً كان يُشير إلى مسئوليتهم بتفعيل دورهم في العالم ملحاً يحفظ ويصلح: «إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجاً وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ» (مت 5: 13)؛ ونوراً يهدي ويُبدِّد الظلمة ويُبشِّر الجلوس في ظلال الموت: فـ «لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَـلٍ، وَلاَ يُوقِدُونَ سِـرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُـورُكُمْ هكَـذَا قُـدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَـرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّـدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ» (مت 5: 14-16).

+ وفي أيام النبي أليشع حاصر جيش أرام، بخيله ومركباته طويلاً، مدينة السامرة عاصمة إسرائيل، وعانَى الشعب مجاعة شديدة حتى أَكَل الناس أولادهم، ولكـن الـرب أزعج جيش أرام بصوت مـركبات وخيـل جيش عظيم، فأصابهم الرعب حتى أنهم فرُّوا مذعورين وقـت العشاء للنجاة بأنفسهم، تاركين خيامهم وفيها كل ما كانوا قد استولوا عليه. وكان هناك أربعة رجال بُرص عضَّهم الجوع بنابه كغيرهم، وغامروا بالدخول إلى محلة الأراميين ليجدوا طعاماً. فأدهشهم أن وجـدوا كـل الخيام خالية والساحـة يُخيِّم عليها الصمت. فـدخلوا خيمة وأكلـوا وشربـوا حتى شبعوا، وأخذوا فضةً وذهباً وثياباً وطمروها. ثم رجعوا ودخلوا خيمة أخرى وفعلوا هكـذا. وفجأة توقَّفـوا وقالـوا بعضهم لبعض: «لَسْنَا عَامِلِينَ حَسَناً. هذَا الْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ بِشَارَةٍ وَنَحْنُ سَاكِتُونَ» (2مل 7: 9).

فذهبوا مـن فورهـم، وقبل أن يبدأ النهار، بشَّروا الإسرائيليين الذين سحقتهم المجاعة، وكان الملك يحسبها مكيـدة أراميـة لاستدراج جيشه ودحره، ولكـن لمَّا أرسل رُسُلاً ليتكشَّفوا الأَمر، وجدوا كـل ما نهبه الأراميون مُلقًى في الطريق بسبب هروبهم على عَجَلٍ.

+( (

نعم، عمرنا كله مجال للبشارة وإعلان محبة الله لنا، وعمل الخير، وإحياء الرجاء في قلوب الخطاة واليائسين. ولا يصحُّ أن نصمت، أو نستصغر شأننا، أو نتحلَّل من التزامنا، أو نتهرَّب مـن أداء دورنا كتابعين للسيِّد. ولنستند على النعمة لكي نبقى بحياتنا وخدمتنا بشارة للسالكين في الظلمة وظلال الموت، وتشجيعاً ومساندة للمُجاهدين والفاترين والمُقصِّرين وفاقـدي الرجاء؛ نُقدِّم لكـلٍّ منهم شخص المسيح المُحب للخطاة، الفاتـح ذراعيـه لجميـع المُتعبين والثَّقيلي الأحمال (مت 11: 29).

ولنَعْلَمْ أنَّ سقوطنا وانحـلالنا هـو بهجـة للساقطين ونصـراً لعـدو الخير. وأهـل العالم يفرحون شامتين بنكسة المُتدينين حتى لو كانوا مؤمنين شكليين، أو رجال دين محترفين خضعوا للشـهوة متستِّريـن بموقعهـم. ومحبتنا للمسيح وإدراكنا لحتمية دورنا في بشارة العالم والكرازة بالملكوت، يُلزمنا أن ننتبه وألاَّ نعتمد على ذواتنا، وإنما على الروح القدس الذي يَهَب القوَّة، ويُديم علينا نعمة الصمود في التجارب وغلبة الجسد.

دكتور جميل نجيب سليمان

(1) في يوم 29 من كل شهر قبطي، تُعيِّد الكنيسة بالبشارة والميلاد (الذي تمَّ بعد البشارة بشهور تسعة - 29 كيهك) والقيامة (التي يُعتَقَد أن‍ها تمَّت في ذات اليوم – 29 برمهات. ويذكُر السنكسار أنَّ يوم الجمعة العظيمة التي تمَّ فيها صَلْب المسيح وقع في 27 من برمهات). وقيل أيضاً إن 29 برمهات هو يوم خروج نوح وعائلته من الفُلْك حيث بدأ العالم الجديد. وأيضاً يوم خروج بني إسرائيل من مصر وبَدْء رحلتهم إلى أرض الميعاد.
(2) القراءات: عشية: مز 144: 7،5؛ لو 7: 36-50. باكر: مز 72: 7،6؛ لو 11: 20-28. القدَّاس: رو 3: 1-31؛ 1يو 1: 1-2: 6؛ أع 7: 23-34؛ مز 45: 11،10؛ لو 1: 26-38.
(3) وهي النبوَّة التي ذكرهـا الملاك ليوسف الـذي اضطرب لحَمْل مريم، والذي لم يشأ أن يُشْهِرَها لأنـه كان باراً و«أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرًّا»، فظَهَرَ له الملاك وطمأنه: «”لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُـوَ مِـنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ (مُخلِّص). لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ“. وَهذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ: (ثم ذَكَرَ له النبوَّة)» (مت 1: 19-23).
(4) المسيح بشَّرنـا أيضاً بـالغفران، وبإرسال الروح القدس وعمله فينا، وبوجـوده معنا كـل الأيام (مت 28: 20)، وبمساندته لنا في الآلام (مت 11: 29)، وبمجيئه ثانيةً لتمجيدنا وإدخالنا إلى ملكوته الأبدي.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis