الافتتاحية
للأب متى المسكين



جثسيماني والصليب والقبر
والإنسان الجديد()

تهنئة بعيد القيامة المجيد لعام 2019م يتقدَّم مجمع رهبان دير القديس أنبا مقار وأسرة تحرير مجلة مرقس بخالص التهنئة إلى صاحب القداسة البابا أنبا تواضروس الثاني بمناسبة حلول عيد قيامة مخلِّصنا الصالح وندعو إلهنا الصالح أن يُديم رئاسته للكنيسة سنين عديدة وأزمنة سلامية مديدة كما نتقدَّم بالتهنئة إلى أصحاب النيافة آبائنا المطارنة والأساقفة الأجلاَّء وجميع الإكليروس وشعب الكنيسة المقدَّسة في بلادنا العزيزة وكل بلاد المهجر

( المجد لك أيها الواقف على رمية حجر من تلاميذه الأخصَّاء.

( المجد لك يا مَنْ وقفتَ حزيناً حزناً دخل أعماق نفسك حتى إلى الموت وأنت حيٌّ.

( المجد لك أيها الساجد على الأرض تُصلِّي أمام الآب، وأنت الابن الوحيد المحبوب الذي تُقدَّم لك كل صلاة.

( المجد لك أيها المنبطح على الأرض والمعفَّر الوجـه بالتراب، وأنت صاحب الوجه السمائي الذي ترتعب منه كل قوات السماء.

( المجد لك يـا مَـنْ تقطَّر العرق مـن جبينك ثخيناً كقطراتِ دمٍ، لأن الإرهاق والحزن عَصَفَ بالجسد، وهي ساعة التجربـة العُظمى، والنفس في مـرارة تُعاني سَكَرات الموت بدون موت. فأنت الحيُّ وال‍مُعطي الحياة.

( ليس خوفاً من موتٍ دَخَلَت الرُّعبة قلبك. فنبض قلبك يُحيي السماء ويُقيم الأرض ويرسم قانون الحياة لكلِّ مخلوقٍ حيٍّ.

( وليس خوفاً من ألمٍ قادمٍ وعذابٍ وتعذيب، فأنت الرافع الألم من كل متألِّم، الذي يمسح كل دمعة مـن عين كل حزين، ويُشدِّد قلوب الموجوعين، ويقتل كل وجع عن كل جسد احتمى فيك وارتمى في حضنك.

( ولا رُعبة مـن عدوٍّ قادم في يـده سلطان الموت والهاويـة، فأنت الذي أَرعبته وزعزعت سلطانه، وعتيدٌ أن تُقيِّده بصليبك وتُلقيه في بحيرة النار الأبدية التي تأكل المضادين للحق والكذَّابَ وأبا كـل كذَّابٍ؛ لأنك أنت الحق الوحيد القائم الدائم الذي يحكم بالهلاك الأبـدي على المنافق الشرير الذي أذلَّ بني الإنسان وأَركبهم الهوان.

( أنا علمتُ سرَّك وانكشف لي مصدر حزنك الذي بلغ بك حدَّ الموت بـلا موت، وأدركتُ شدَّة العذاب والتعذيب الذي أَلَمَّ بك بلا عذاب ولا تعذيب. نعم، أدركتُ سرَّ الوجه ال‍مُعفَّر بتراب الأرض، والدموع التي تتقطَّر بلا كيل، والعرق الذي يتصبَّب كالدم!

علمتُ منك: لماذا الرُّعبة التي أَخَذَتْ بـك كـل مأخذ، ودَخَلَتْ عُمْق قلبك بلا مناص؟!

وعلمتُ سرَّ رهبتك من الألم الذي أَلَمَّ بالنفس دون الجسد، وسرَّ العذاب الذي برَّح بروحك والتعذيب الذي تُعانيه وأنت واقف قدَّام أبيك، نعم وأمام حبِّه وقد تباعَدَ عنك؛ فأنت تتعذَّب وحدك، والآب سُـرَّ أن يسحقك بالحزن (انظر إش 53: 10). فلماذا لا تحزن حزن الموت ولا مُنقذ؟

علمتُ أي ألم هذا، وأيَّـة دموع كانت، وأيَّـة كسرة قلب، وأيَّـة رُعبة مـِن القادم عليك.

والآب قـد تخلَّى عنك، نعم قـد تخلَّى، وسُرَّ أن يتركك وحدك وأنت الابن المحبوب القائم في حضن الآب.

نعم، عرفتُ وتأكَّدتُ وانكشف لي السرُّ؛

فهي خطايا البشرية بكـلِّ أثقالها وصنوفها التي حمَّلها عليك أبوك وأنت منها كلها براء، وقد قَبِلْتَ حملها مـن يـد الآب منذ الأزل وأنت مع الآب في غرفة المشورة الأزلية، وعلى أساسها قَبِلتَ التجسُّد لتحملها برضاك ورضا الآب.

ولكـن:

أمام واقع فظاعة ما تعنيه الخطية من خصومة حتمية مع الله، فزعتَ. فكيف تُلاجج الآب الذي أنت واحدٌ معه وقائمٌ فيه وفي حضنه الأبوي ومن عنده خرجتَ؟ كيف، وخطية التجديف هي أُم الخطايا!

كيف تحملها في جسدك؟ وكيف تقف ب‍ها أمام الآب؟ كيف تُنكره؟ أيَّـة رُعبة هذه، وأيُّ فزع أَلَمَّ بك؟ وهل يمكن؟ وهل يجوز؟ وهل يَرضَى الآب؟

نعم، رَضِيَ لَمَّا رَضِيَ أن يضع عليك خطية الإنسان لتُكفِّر عن ذنبه. أيُّ تمزُّقٍ أَلَمَّ بنفسك! كيف وأنت الطاهـر القدوس تقف حامـلاً خطية الزنـا كـأنك زانٍ؛ نعم، كأنك زانٍ والمترئِّس على كل زناة الأرض؟

الآن عرفتُ كسرة قلبك، ولماذا وجهك غطَّاه تراب الأرض حتى يختفي مـن نظر الآب! وسرَّ هذه الدموع والعرق يتصبَّب كالدم.

نعم، لقد ثقل عليك الحِمْل وثقلتْ يـد الآب عليك، فلماذا لا ترتمي على الأرض وت‍هرب منك الشجاعة وتخونك الدالة التي تربطك بالآب وهي قائمة فيك!؟

أَتَحْمِل كذب الإنسان وتتبنَّى حنثه وخداعه وإنكاره للحق وتنكُّره للصدق، وأنت وحدك الحق والصدق كـل الصدق! كيف تحمَّلَتْ نفسك أن تقف أمام وجه الآب كأنك كذَّاب والمحامي عـن كـل كذَّاب؟ أتأخذ عليك جريمة الشيطان في الإنسان! أتتبنَّى قضية القاتل لتأخذ عليك قتله الذي فعل؟ وتقف أمام الآب كأنك قاتل ومُزهق الأرواح وأنت مُعطيها وأبوها! كيف؟

وقفتَ، يا سيدي، كأنك سارق ولص فاجر أمام أبيك وتبنَّيتَ قضية الفاجر، فكان من السهل عليك أن تُطلق اللص المصلوب معك كـأول فاجر نال البراءة.

والآن علمتُ لماذا قـال الحكيم بولس: الـذي «يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ، فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرًّا» (رو 4: 5)، لماذا؟ لأنـه يكون قد آمن بالصليب وعمل المصلوب.

الآن عرفتُ: لماذا جثوتَ وجثوتَ وجثوتَ، وصرختَ للقادر أن يُخلِّصك بدموع أن يرفـع عنك ثِقَل الكأس، وما رَفَعَـه؛ فنفسك الوديعة ان‍هارت أمـام رُعبة خطية الإنسان! ولكن مـن أجل هذه الساعة أنت أتيتَ، ومن أجل خطية الإنسان تجسَّدتَ لتشرب كأسه ال‍مُنجَّس، ولتحمل حِمْله القذر، وتقف لتُحاكَم كإنسان الخطية!

الآن عرفتُ: لماذا كـانت الصرخة القويـة وبالصوت العظيم: «إِلهِي إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي»؟!

فلولا هـذا التَّرْك الذي جَرَحَ قلبك، والذي عَبَرْتـه إلى لحظةٍ، والذي تحمَّلته وحدك كخاطئ وأبي كـل الخطاة أمام قضاء الآب؛ ما استطعتَ أن تموت، ولا استطعتَ أن تن‍زل إلى القبر لتدفـن فيه خطية الإنسان ولثلاثة أيام، حتى تُوفِي حقَّ العقوبة بالكامل كإنسان الخطية، حتى يتبرَّأ الإنسان من الخطية ويُعتق إلى الأبد من عقوبتها ولعنتها ولعنة الموت!! هذه هي قوَّة الصليب، وهذه هي قوَّة المصلوب.

جبَّارٌ أنت، يـا سيدي، جبَّارٌ حقّاً، أكملتَ صفة الله بجدارة. فأنت أنت الذي عرفه العهد القديم كله بصاحب الجبروت. هـذا هـو جبروت الله، استعلنته على الصليب بأقوى ما يكون الجبروت.

أ - وهذا هو ثمن الإنسان الجديد!

وقمتَ، يا سيدي، في اليوم الثالث، وفضحتَ حنَّان وقيافا والشيطان، وقد نفضتَ عنك الخطية التي حملتها في جسـدك على الخشبة، ونفضتَ عـن الإنسان عاره، ودفنته مع الجسد العتيق الذي قَبِلْته من الإنسان مُحمَّلاً بخطايا البشرية كلها.

وعلى الصليب خَرَقَت الخطية يديـك ورجليك ونَفَذَتْ بالحربة إلى جنبك، ونزفتَ الدم الإلهي كنهرٍ فتعمَّد الجسد بالدم وتقدَّس وقَب‍ِل الحياة الأبدية التي فيه؛ ونـزل معك القبر غالباً الموت معك، وداسه بدَوْسك، وقـام بقيامتك قدوساً طاهراً لا يسود عليه الموت فيما بعد، خليقة جديدة بالروح، شريكك في المجد الذي كـان لك والذي خلعته في التجسُّد والصليب والقبر. ولكن هـذا المجد عاد بعودتك إلى الآب وأنت تحمل الإنسان الجديد في جسدك لتُقدِّمه إلى أبيك بـلا خطية، مُصالَحاً بدمـك الذي سكبتَ، فوجدتَ له فداءً أبدياً عند أبيك وحياةً أبدية فيك.

ب - وهكذا كانت الخليقة الجديدة للإنسان في جسد المسيح ال‍مُقام ليجلس عن يمين الآب في أعلى السموات لَمَّا جلس المسيح في مجد الحياة التي تدوم.

(منتصف ليلة 8 مايو 1999)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis
12 - مجلة مرقس أبريل 2019 مجلة مرقس أبريل 2019 - 13