طعام الأقوياء
- 93 -



«قولوا بين الأمم إنَّ الرب
قد مَلَكَ على خشبة»
(مز 95: 10 - سبعينية)

مقدِّمة:

المزامـير التي سبقت وتحدَّثت عـن المسيح وتجسُّـده وصَلْبه وقيامتـه وصعوده إلى السماء وجلوسـه عـن يمين الآب مَلِكاً على العالم كله، كثيرة، وقـد أَشـرنا إليهـا في دراستنا لسِفْـر المزامير. وقـد اصطلح الدارسون على تسميتها ”المزامير الماسيَّانية“. ومـن ضمن هذه المزامير ما سُمِّيَ بـ ”مزامير التتويج“، أي المزامير التي تنبَّأت عـن مجيء يهوه وصَلْبه وقيامته وإبادته للموت وجلوسه مَلِكاَ لكلِّ الأُمم. وكان الصليب هو كرسي مُلْكه، وصارت يداه المبسوطتان على عـود الصليب بمثابـة جناحَيْن يُظلِّلان علينـا ونحتمي بهما من كلِّ مكائد إبليس.

وهكذا تمَّ ما وعدنا به الله على لسان جبرائيل رئيس الملائكة حينما بشَّر العذراء القديسة مريم بميلاد المُخلِّص، قائلاً: «هذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيـهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِـيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ» (لو 1: 33،32).

مزامير التتويج:

أمَّـا مزامير التتويج فهي: 99،98،97،96؛ وهي التي نُصلِّي بها في بدايـة الساعة التاسعة، والتي رتَّبتها الكنيسة لنتلوها بمناسبة موت المسيح بالجسد في الساعة الثالثة بعد الظهر، حينما أحنى رأسه وأَسلم الروح في يدَي الآب وصرخ قائلاً: «قَدْ أُكْمِلَ» (يو 19: 30).

ويُلاحَظ أنَّ المزمور الأول 96 (في السبعينية مزمور 95) يدعونا أن نُسبِّح لله تسبيحاً جديـداً، ويتكرَّر ذلك بصورةٍ أو بأخرى في هـذه المزامير. وواضحٌ أنَّ هـذه المزامير تصف الترنيم والتسبيح للرب ترنيماً وتسبيحاً جديداً. وهو جديدٌ لكَونه يخصُّ العهد الجديد الذي يُزمع الرب أن يؤسِّسه بتجسُّده ومجيئه إلى العالم ليُكمِل «مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً.  لاَ كَالْعَهْدِ الَّذِي عَمِلْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَثْبُتُوا فِي عَهْدِي، وَأَنَا أَهْمَلْتُهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ.  لأَنَّ هذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَعْهَدُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ، يَقُـولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي أَذْهَانِهِـمْ، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً...» (إر 31: 31-34؛ عب 8: 8-12).

كما ذَكَرَت هذه المزامير أنَّ الأرض كلها سوف تُسبِّح وتُرنِّم هذه التسبحة الجديدة. فالتسبيح سوف يَعُمُّ الشعوب كلها: «حَدِّثُوا بَيْنَ الأُمَمِ بِمَجْدِهِ، بَيْنَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ بِعَجَائِبِهِ»، كما أنَّ المزمور 96 يُطالبنا قائلاً: «قولوا بين الأُمم إنَّ الرب قد مَلَكَ على خشبة» (الترجمتان اللاتينية والسبعينية).

وقـد جـاء ذلـك في قولَيْن للقديس الشهيد يوستينوس (من القرن الثاني) وللعلاَّمة ترتليان (من القرن الثالث).

+ فيقول القديس يوستينوس:

[جاء عن آية من المزمور 96 لداود (النبي) أنَّ اليهود مُعلِّمي الناموس حذفـوا جزءاً من الآية التي تقول: «قولوا بين الأُمم إنَّ الرب قد مَلَكَ على خشبة» (مـز 96: 10)، وذَكَرَهـا ناقصة هكـذا: «قُولُـوا بَيْنَ الأُمَمِ: ”الرَّبُّ قَدْ مَلَكَ...“». والآن، هوذا لا أحـد مـن شعبكم (شعب اليهود) قد قال قط ”إنَّ الله قد مَلَك كإلهٍ على الأُمم“، سوى المصلوب (الذي شهد له الروح القدس في نفس المزمور) أنه قد تحرَّر من الموت بقيامته، وهكذا قد ظَهَرَ أنـه ليس كآلهـة الأُمـم، التي ليست سـوى أصنـام الشياطين](1).

+ كما يقول أيضاً العلاَّمة ترتليان:

[عندمـا تقرأون في مزامـير داود (النبي)، تجدون القـول: «الرب قـد مَلَك على شجرة (خشبة)». وإني أريـد أن أَعلم: مـا الـذي يفهمونه مـن هـذا القول؟ لعلكم تظنُّون أنه أحد ملوك يهـوذا الذي صنع مـن الخشب (أصناماً) هـو الذي يقصدونه؟ وأنه ليس هو المسيح!! الذي احتمل المـوت بتسميره على الصليب، وهو بذلك قد مَلَك على خشبة!

والآن، رغم أنَّ المـوت قـد مَلَك (على البشرية) منذ آدم إلى المسيح، فلماذا لا يُقال إن المسيح قد مَلَك على خشبة، منذ أن أغلق على مملكـة المـوت بموتـه على خشبة الصليب؟ وبطريقةٍ مُماثلة قال إشعياء (النبي) أيضاً: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ» (إش 9: 6).

ولكن، ما هو الشيء غير المُعتاد في ذلك؟ سوى أنه يتكلَّم عن ابن الله، إذ أردف قائلاً: «وَنُعْطَى ابْناً، وَتَكُـونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ» (إش 9: 6). والآن، أي مَلِك يكون هذا الذي يحمل شارة سُلطانه على كتفه؟ أليس بالحري أن يكـون على رأسه كإكليلٍ، أو في يـده كصولجان، أو علامة على رداء مُلْكه؟ ولكن الملك الجديد للأجيال الجديدة، يسوع المسيح، قـد حَمَل على كتفيه كُلاًّ مـن السمو والمجد الجديدَيْن؛ بـل حتى على صليبه (الذي تمجَّد بـه ومَلَك) - أي على خشبة - مَلَكَ كـربٍّ (للأرض كلها)](2).

مزامير ونبوَّات تشهد لمُلْك المسيح

وسلطانه على الخليقة بموته على الصليب:

+ «يا جميع الأُمم صفِّقوا بأيديكم. اهتفوا لله بصوت الابتهاج. لأن الرب عالٍ ومرهوب، مَلِكٌ عظيم على كافـة الأرض. أَخضـع الشعوب لنا، والأُمم تحـت أقدامنا... رتِّلوا لإلهنا رتِّلوا، رتِّلوا لملكنا رتِّلوا، لأن الله هو مَلِك الأرض كلها. رتِّلوا بفهمٍ. فإنَّ الله مَلَك على الأُمم. الله يجلس على عرشه المُقدَّس» (مز 47: 1-8 سبعينية).

+ «الرب مَلَك ولَبِس الجـلال، لَبِس الـرب القوَّة وتمنطق بها» (مز 93: 1 سبعينية).

+ «لأَنَّ لِلـرَّبِّ الْمُلْكَ، وَهُـوَ الْمُتَسَلِّطُ عَلَى الأُمَمِ» (مز 22: 28).

+ «كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ إِلَى دَهْـرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ» (مز 45: 6).

+ «مَـا أَجْمَلَ عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَيِ الْمُبَشِّـرِ، الْمُخْبِرِ بِالسَّـلاَمِ، الْمُبَشِّرِ بِالْخَيْرِ، الْمُخْبِرِ بِالْخَـلاَصِ، الْقَائِـلِ لِصِهْيَوْنَ: ”قَـدْ مَلَكَ إِلهُكِ!“» (إش 52: 7).

+ «ارفعـوا أيها الرؤسـاء أبوابكم وارتفعي أيتها الأبواب الدهرية، فيدخُل مَلِك المجد. مَـن هو هـذا مَلِك المجد؟ الرب القوي القديـر، الرب القديـر في الحروب...» (مز23: 7-10 سبعينية) (مـن المزامير التي تُقال في تسبحة هوس القيامة).

المسيح بتجسُّده وبموته وقيامته، أحيانا بعد

موت، واقامنا معه، وأجلسنا معه:

+ في ذلـك يقـول القديـس أثنـاسيوس الرسولي:

[إنَّ اللوغُس لم يَقِلَّ قَـدْره باتِّخاذه جسـداً (مُساوياً لنا بولادتـه من العذراء) حتى يسعى للحصول على نعمةٍ أيضاً، بل بالحري هو قد ألَّه الجسد الذي لَبِسَه، بـل وأَنعم بذلك أيضاً على جنس البشر.

فكما أنـه كـان يُعْبَد دائماً لكونه اللوغس الكائن في صورة الله؛ هكـذا هـو نفسه لمَّا صار إنساناً ودُعِيَ يسوع، لا تزال كل الخليقة تحت قدميه، تجثو رُكبها لاسمه هذا (يسوع)، وتعترف أن تجسُّد اللوغُس واحتماله الموت بالجسد لم يكـن عاراً للاهوته، بل ”مجداً لله الآب“. لأن مجـد الله الآب هـو أنَّ الإنسان الذي خُلِقَ ثم هلك، يوجد من جديد، ويحيا من بعد موت، ويصير هيكلاً لله](3).

+ كما يقول القديس كيرلس الكبير أيضاً:

[من الباطل أن نظنَّ أنَّ آدم الذي كان مجرَّد إنسان وليد التراب، استطاع أن يدفع إلى كلِّ جنسنا قوَّة اللعنة التي أصابته وكأنها صارت ميراثاً يُسلَّم بحسب الطبيعة؛ بينما لا يستطيع عمانوئيل الذي هـو مـن فوق، من السماء - وهو إله بطبعه، وقد أَخَذ شكلنا وصار آدم الثاني - لا يستطيع أن يمنح بغنًى شركة في حياته الخاصة للذين اختاروا أن ينالوا القُرْبَى معه بالإيمان. فإننا قد صرنا شركاء طبيعته الإلهية بواسطة الروح.

فإنه يسكن في نفوس القدِّيسين، وكما يقول يوحنا الطوباوي: «بِهذَا نَعْرِفُ أَنَّهُ يَثْبُتُ فِينَا: مِـنَ الرُّوحِ الَّذِي أَعْطَانَا» (1يـو 3: 24). إذن، فقد صار هو حياتنا وهو برنا!](4).

«أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويَّات

في المسيح يسوع» (أف 2: 6):

مات المسيح على الصليب وهو حاملٌ خطايانا في جسده، فهو أَخَذَ جسدنا وحَمَل خطايانا في جسده، وأَخَذ حُكْم الموت الصادر ضدَّنا ومـات لكي يهبنا الحياة بموته.

لقـد أبـاد المسيحُ الموتَ بموته، لكي يُعطينا الحياة الكائنة فيه:

[(فـ) هـو أَخَـذ الذي لنا وأعطانا الذي له، نُسبِّحه ونُمجِّده ونُزيده علواً. هـو أَخَذ جسدنا وأعطانـا روحه القدوس، وجعلنا واحداً معه من قِبَل صلاحه] (ثيئوتوكية الجمعة).

وكما يقول بولس الرسول:

+ «وَإِنْ كَـانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِـنَ الأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ، فَالَّذِي أَقَـامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضاً بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ» (رو 8: 11).

ثم يؤكِّد كذلك قائلاً:

+ «صَادِقَـةٌ هِـيَ الْكَلِمَـةُ: أَنَّـهُ إِنْ كُنَّـا قَـدْ مُتْنَـا مَعَـهُ فَسَنَحْيَا أَيْضاً مَعَـهُ. إِنْ كُنَّا نَصْـبِرُ فَسَنَمْلِكُ أَيْضاً مَعَـهُ. إِنْ كُنَّـا نُنْكِـرُهُ فَهُـوَ أَيْضـاً سَيُنْكِـرُنَـا» (2تي 2: 12،11).

أمَّا المسيح نفسه، فإنـه يَعِدُ تلاميذه الأطهار والرسل الطوباويين قائلاً:

+ «أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي، وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَـلَ لِي أَبِي مَلَكُوتـاً، لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي» (لو 22: 28-30).

ثم نجـد القديس يوحنا اللاهوتي يذكر مواعيد الرب لمَن يغلب قائلاً:

+ «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَـاةِ الَّتِي فِي وَسَـطِ فِـرْدَوْسِ اللهِ» (رؤ 2: 7).

+ «مَـنْ يَغْلِبُ فَـلاَ يُؤْذِيـهِ الْمَوْتُ الثَّانِي» (رؤ 2: 11).

+ «مَـنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِـنَ الْمَنِّ الْمُخْفَى، وَأُعْطِيـهِ حَصَاةً بَيْضَاءَ، وَعَلَى الْحَصَاةِ اسْمٌ جَدِيدٌ مَكْتُوبٌ لاَ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ غَيْرُ الَّذِي يَأْخُذُ» (رؤ 2: 17).

+ «مَـنْ يَغْلِبُ وَيَحْفَظُ أَعْمَالِي إِلَى النِّهَايَـةِ فَسَأُعْطِيهِ سُلْطَانـاً عَلَى الأُمَـمِ، فَيَرْعَاهُـمْ بِقَضِيبٍ مِـنْ حَدِيـدٍ، كَمَا تُكْسَرُ آنِيَةٌ مِنْ خَزَفٍ، كَمَا أَخَذْتُ أَنَا أَيْضاً مِـنْ عِنْدِ أَبِي، وَأُعْطِيهِ كَوْكَبَ الصُّبْحِ» (رؤ 2: 26-28).

+ «مَنْ يَغْلِبُ فَذلِكَ سَيَلْبَسُ ثِيَاباً بِيضاً، وَلَنْ أَمْحُوَ اسْمَهُ مِـنْ سِفْرِ الْحَيَاةِ، وَسَـأَعْتَرِفُ بِاسْمِهِ أَمَامَ أَبِي وَأَمَامَ مَلاَئِكَتِهِ» (رؤ 3: 5).

+ «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأَجْعَلُهُ عَمُوداً فِي هَيْكَلِ إِلهِي، وَلاَ يَعُودُ يَخْرُجُ إِلَى خَارِجٍ، وَأَكْتُبُ عَلَيْهِ اسْـمَ إِلهِي، وَاسْـمَ مَدِينَةِ إِلهِي أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةِ النَّازِلَةِ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ إِلهِي، وَاسْمِي الْجَدِيدَ» (رؤ 3: 12).

+ «مَـنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضاً وَجَلَسْتُ مَـعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ» (رؤ 3: 21).

+ «مَنْ يَغْلِبْ يَرِثْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَكُونُ لَهُ إِلهاً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْناً» (رؤ 21: 7).

(يتبع)

(1) St. Justin Martyr, Dialogue with Trypho; (PG 6: 264).
(2) Tertullian, Against Marcion, 3.19; (ANF 9: 327).
(3) Against the Arians, 1,42; (NPNF 2nd Ser., Vol. IV, p. 330).
(4) Glaphyra on Genesis, Book 1.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis