|
|
|
ثالثاً: المسيح الملك القائم من بين الأموات (11)
الصعود
+ وهكـذا اختصر القديس بطرس (كما ذَكَـر القديس لوقا الإنجيلي في سِفْر أعمال الرسل) خدمة الـرب يسـوع على الأرض، قائـلاً: «فَيَنْبَغِي أَنَّ الرِّجَالَ الَّذِيـنَ اجْتَمَعُوا مَعَنَا كُـلَّ الزَّمَانِ الَّذِي فِيهِ دَخَلَ إِلَيْنَا الرَّبُّ يَسُوعُ وَخَـرَجَ، مُنْذُ مَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا إِلَى الْيَـوْمِ الَّذِي ارْتَفَـعَ فِيـهِ عَنَّا، يَصِيرُ وَاحِـدٌ مِنْهُمْ شَاهِداً مَعَنَا بِقِيَامَتِهِ» (أع 1: 22،21). كـان هـذا هو كل الزمان الذي اكتمل بالصعود، وبشهادة الشهود الرسل الأوائل.
+ فكـلُّ هـذا الوقت الذي اكتمـل بالصعود، اشترك فيه كـل واحدٍ منهم، ليُحسَب ضمن جماعة الشهود الأصليين الرسوليين: ”شهود صعود المسيح“ (أع 1: 3). فقـد استَبَق هؤلاء التلاميذ (بطرس ويعقـوب ويوحنا) ورأوا تجلِّي المسيح على الجبل قبـل صَلْبه وقيامته وصعوده إلى السماء.
+ إنَّ فِعْل ”تجلِّي“ المسيح على الجبل (أمام ثلاثة من تلاميذ الرب) (مت 17: 1-5)، كان إعداداً للتلاميذ لفعل ”الصعود“. فقد تمَّ تكميل إرسالية التلاميـذ، بصعـود المسيح إلى السماء، وبرؤيتهم ”سحابة الصعود“ وحولها الملائكة (أع 1: 11). فقـد صعـد المسيح إلى السماء، حيث جلس عن يمين الله. وقد نال التلاميذ نعمةً خاصة برؤيتهم المسيح صاعداً إلى السماء.
استباق التجلِّي: بخـلاف ”التجلِّي“ الذي لم يحضره إلاَّ ثلاثة شهود فقط مـن تلاميذه، فإنَّ الصعود لم يكـن يحمل معنى مُجرَّد ”اختفاء“ أو ”زوال“ شخصٍ كـان غير مختفي، وصار الآن مختفياً؛ لكن صعود المسيح إلى السماء، قد صدَّق عليه عددٌ كبير مـن ”جماعة تلاميذ المسيح“؛ بل إنَّ الله أعدَّ التلاميذ لاكتمال مجد خدمة المسيح.
معنى الصعـود: إنَّ معنى ”الصعـود“ ليس قاصراً على حدودٍ ضيِّقة، كحدثٍ منظور؛ ولكن كما يُقال عـن معنى ”القيامة“، هكـذا يمكن أن يُقال عـن ”الصعود“: «طُوبَى لِلَّذِيـنَ آمَنُوا وَلَمْ يَـرَوْا» (يو 20: 29)، «... يسوع المسيح. أنتم تحبونه ومـا رأيتموه، وتؤمنون بـه ولا تَرَوْنه الآن، فتفرحون فرحاً مجيداً لا يُوصف، واثقين ببلوغ غايـة إيمانكم خلاص نفوسكم» (1بط 1: 7-9 الترجمـة العربية الجديدة). فالصعود هـو الحركة الصعوديـة للحركة الهبوطية لكلمة الله المُتجسِّد.
تميُّز الصعـود بفترة انتقالية حاسمة: فقـد أَظْهَر المسيح أنَّ فترة ظهوره بالجسد قد انتهت، وأنه عاد إلى الآب لإنشاء حُكْمه الإلهي، واكتمال إرساليتـه الأرضيـة، وأنَّ خدمتـه الإلهية قـد بَدَأت(2).
التعليم عن الصعود: نفس الجسد
نفس جسد المسيح الذي قام من بين الأموات، هو نفسه الذي صعد بـه إلى السموات. لم يكن جسداً مختلفاً عـن جسد المسيح الذي صُلِبَ على الصليب، والذي قـام في اليوم الثالث مـن بين الأموات. فبنفس هذا الجسد الذي اتَّحد بـه كلمة الله، والـذي سبق وتألَّم؛ صعد بـه إلى أعلى السموات، وجلس عن يمين الآب. إنـه ابـن الله المتجسِّد الذي تألَّم وصُلِبَ ثم قام من بين الأموات وصعد إلى السموات، بالجسد والنفس البشـريَّين المُتِّحد بهما اتِّحاداً حقيقياً.
جسد المسيح المُمجَّد حاضرٌ
في جلوسه عن يمين الآب:
ففي سَرْد القديس لوقا لصعود المسيح، يُبيِّن أنَّ ابن الله قـد عاد إلى الآب، بالجسد الذي اتَّحد به، أي جسـد الفداء، جسد المسيح المصلوب، جسده القائم من الموت!
+ لقـد صعد ابن الله المُتجسِّد إلى السماء، وجلس عـن يمين العظمة في الأعـالي، وعلى جسده الطاهر علامات وندوب الجـروح. فجسد المسيح الذي تألَّم من أجلنا، هو نفسه الذي صعد به إلى السماء وجلس عـن يمين الآب. لقد تألَّم المسيح من أجلنا بالجسد الذي اتَّحد به، تألَّم آلاماً حقيقية ومات بجسـدٍ حقيقي، وقـام أيضاً قيامةً حقيقية بجسده المُمجَّد وعليه الجروح التي جُرِحَ بها مـن أجـل خلاص البشرية، وصعد صعوداً حقيقياً بنفس الجسد الذي تألَّم به وصُلِبَ وقام من بين الأموات(3)!
انتفاع المؤمن بصعود المسيح: أولاً: المسيح هو شفيعنا في حضرة الآب في السماء؛ وثانياً: هو المُحامي عنَّا، وأنَّ طبيعتنا البشرية هي في حضرة الآب السماوي، في المسيح، كضمانٍ أكيد بأنَّ المسيح هو الرأس، وأنَّ الآب سوف يضمُّنا إليه كـأعضاء جسـد المسيح (الكنيسة)؛ وثالثاً: الآب أرسل لنا روحه القدوس وسكبه علينا بغنًى بيسوع المسيح مخلِّصنا، باعتبار أنَّ المسيح هـو الرأس الذي نرفع أعيننا إليه، ونحـن أعضاء جسده المقدَّس؛ حيث المسيح، ابـن الله المُتجسِّد، جالسٌ الآن عن يمين الله في الأعالي، وقد وهبنا روحه القدوس وليس الأشياء التي على الأرض!
+ بصعـود ابـن الله المتجسِّد إلى الآب في السماء لا يمكنه أن يتركنا، بـل بالحري يزيـد إيماننا بسبب تمسُّك أبنائه بـه. فالمسيح لا يكفُّ عن حضوره معنا نحن الذين ما زلنا على أرض الشقاء: «هَـا أَنَـا مَعَكُمْ كُـلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (مـت 28: 20). فـالمسيح يهب نعمةً للساكنين على هـذه الأرض في جهادهـم ضـد إبليس وجنوده.
هو غائبٌ في الجسد، لكنه حاضرٌ في الروح: لقد أرسل الرب يسوع بعد صعوده إلى السماء، روحه القدوس ليمكث معنا ويكون فينا. فـالرب يسوع حاضرٌ معنا بالروح، يرى أحوالنا، ويبحث عن نفوسنا، ويفحص قلوبنا، ويرى أفكارنا. إنه حاضرٌ الآن وكذلك في المستقبل، بالروح القدس، لينقذنا في الوقت المناسب(4).
+ فالمسيح، عند انصرافنا مـن هـذا العالم، يُوشِّحنا بقوَّته وعظمته(5).
+ وبخصوص جسد الرب يسوع الذي صعد به إلى السماء، فهو نفسه ”الذي سُمِّرَ على خشبة، ونزل عن الصليب، وتدثَّر بالأكفان، ثم أودِع في القبر“(6).
فوق كل رئاسة وسلطان: القديس بولس يُعلِّم عن عمل الله الآب الذي عمله في المسيح يسوع: «وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِـهِ الْفَائِقَةُ نَحْوَنَـا نَحْـنُ الْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِـهِ الَّذِي عَمِلَهُ فِي الْمَسِيحِ، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ، فَوْقَ كُـلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُـوَّةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ اسْمٍ يُسَمَّى لَيْسَ فِي هذَا الدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضاً، وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ» (أف 1: 19-23).
+ فالآب «أَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ (أي قَدَمي الرب يسوع). وَلكِنْ حِينَمَا يَقُولُ: ”إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُخْضِعَ“ فَوَاضِحٌ أَنَّهُ غَيْرُ الَّذِي أَخْضَعَ لَهُ الْكُلَّ» (1كـو 15: 27). القديس بولس يستدعي ويُفسِّـر مـا جـاء في (مـز 8: 6)؛ حـيث ”الإنسان“ المذكور في المزمور هو ”ابن الإنسان“ أي هو يُشير إلى شخص المسيح (راجع عب 2: 6-8). فـالرب يسـوع هـو المُمثِّل للإنسان، وصارت عبارة ”ابن الإنسان“ تُشير إلى شخص المسيح ابن الله المُتجسِّد.
+ وللقديس بطرس الرسول شرحٌ يقول فيه: «وَيُرْسِلَ يَسُوعَ الْمَسِيحَ الْمُبَشَّرَ بِهِ لَكُمْ قَبْلُ. الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ السَّمَاءَ تَقْبَلُهُ، إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ، الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا اللهُ بِفَمِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ» (أع 3: 21،20). والآن يكفي أن تعرف أن الله «رَفَّعَهُ... وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ» (في 2: 9).
حلول الروح القدس:
لقد صعد الرب يسوع إلى السماء لكيما يُرسل لنا الروح القدس (يو 16: 7). والروح القدس ما كان ليُرسَل ويُرَى عياناً بكـلِّ وضوح إلاَّ بعد صعود المسيح وجلوسه عـن يمين الآب. فبحسب التدبير الإلهي oikonomia ما كان يمكن أن يحدث حلول الروح القدس إلاَّ إذا صعد ابن الله بالجسد. وقد صرَّح الرب يسوع وأشار بأنَّ الروح القدس ما كان ليحلَّ على المؤمنين بـه، إلاَّ إذا تمجَّـد ابـن الله: «... لأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ» (يو 7: 39).
+ كما أنه كان ضرورياً أن المسيح يُقدِّم ذبيحة نفسـه للآب، وبعدهـا يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين الآب، ثم يحـلُّ الروح القدس على المؤمنين. وقـد صرَّح المسيح بذلك قائلاً: «لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ، إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ» (يو 16: 7).
التنبُّؤ بحلول الروح القدس: لقـد سبق وتنبَّأ صاحب المزامير بأنَّ عطية الروح القدس ستتبع الصعـود المُنتصر للمسيح: «صَعِدْتَ إِلَى الْعَلاَءِ سَبَيْتَ سَبْياً. قَبِلْتَ عَطَايَا بَيْنَ النَّاسِ» (مـز 68: 18). وهذا المزمور قـد أشار إليه القديس بولس في سَرْده لصعود المسيح وحلـول الروح القدس: «لِذلِكَ يَقُـولُ: ”إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَـلاَءِ سَبَى سَبْياً وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا“. وَأَمَّا أَنَّهُ ”صَعِدَ“، فَمَا هُوَ إِلاَّ إِنَّهُ نَزَلَ أَيْضاً أَوَّلاً إِلَى أَقْسَامِ الأَرْضِ الْسُفْلَى» (أف 4: 9،8).
+ الرب يسـوع في تجسُّده جـاز في كـلِّ مراحل الطبيعة البشرية: وعلى الأخص فقـد وُلد مـن الروح القدس ومـن العذراء القديسة مريم؛ وفي معموديته على يد يوحنا المعمدان حلَّ عليه الروح القدس مثـل حمامة؛ وعندمـا دخـل إلى البريَّة ليكسر فخاخ العدو في تجاربه الثلاثة، كان مُمتلئاً مـن الروح؛ ثم جاز الآلام بأنواعها حتى الصَّلْب والموت، ثم قام من بين الأموات في اليوم الثالث. وأخيراً صَعِدَ إلى السماء وجلس عن يمين الله أبيه. وبهـذا يكون الرب قـد أَكمل رسـالة الخلاص كاملةً، ثم أَرسل الروح القدس الذي نزل وحلَّ على التلاميذ، لتكميل خدمة ورسالة المسيح على الأرض.
حلول الروح القدس يـوم البنتيقسطي (يوم الخمسين): لقـد سَـرَد القديس لوقـا، سواء في إنجيله أو في سِفْر أعمال الرسل، حادثـة صعود المسيح إلى السماء، ثم حلول الروح القدس عليهم في العليَّة، إذ يقول: «وَلَمَّا حَضَرَ يَـوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَ بَغْتَةً مِـنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِـنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ، وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِـنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِـنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْـرَى كَمَا أَعْطَاهُـمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا» (أع 2: 1-4).
(يتبع)
(1) Cyril of Jerusalem, Catech. Lect. IV.12; LCC IV, p. 107.
(2) St. Athanasius, Incar. of the Word, 25-30; NPNF 2 IV, p.50-52.
(3) St. Gregory Nazianzen, On Pentecost; NPNF 2 VII, p.380.
(4) St. Cyril of Jerusalem, Catech. Lect. XIV; FC 64, p. 52.
(5) Lactantius, Div. Inst.; ANF VII, p. 52.
(6) St. Augustine, Comm. On John; NPNF 1 VII, p. 282.